هكذا تكلمت ذايا « ذيهيا »
أنا ذايا «ذيهيا» سليلة الأحرار؛ ولست بالكاهنة التي تتمتم بالمبهم من الكلام؛ أنا ابنة تامازغا المجيدة وحفيدة الفوارس؛ ولست بالمجدفة التي تفك الأحرزة وتضع الطلاسم يقولون… إن لي سلاسل طويلة تكبل شياطين الأرض وعصا سحرية تروض غرائب الجان؛ ويقولون إن لي دهاليز وأنفاقا مليئة بسم الأفاعي والعقارب وجماجم الذئاب والثعالب. وها أنا أرد عليهم فأقول وياليت لي نيرانا من وميض البرق أو غضب البركان لأدون بها هذا الكلام.
أنا الملكة ذايا عاشقة الأوراس وسليلة هذه الجبال؛ أنا شقيقة هذه الغابات وبنت هذا الوطن؛ منذ حداثتي لقنتني أمي أصول الجود والضيافة؛ وتعلمت من مرضعاتي معاني اللطف والحنان؛ وأنا صغيرة كنت أعدو مع أترابي بطلاقة فوق هذه الربوع لكي تمتلئ رئتاي جيدا بأنفاس الصنوبر والورد والغار والزعتر؛ وكنت أنهل من غدراننا وينابيعنا كما تنهل الغزلان الشاردة وكما يفعل سرب الحمام الضمآن؛ وكنت أحدق، وأنا طفلة صغيرة، بفرح وحبور إلى النجوم المتلئلئة ليلا وهي تزين كالجواهر سماء تامازغا البهية؛ وكم رقصت مع رفيقاتي على ضوء القمر بحرية كاملة؛ ورددت صحبتهن أغاني تفيض عذوبة وحلاوة؛ وتعلمت من جدتي كيف أطلب من إلهي القدير تحقيق طلباتي الجميلة وأمنياتي الغالية، وأنا أنمو تحت شمس الأوراس الدافئة كما تنمو شجيرة الصفصاف على إيقاع كركرة الجداول وشدو الحساسين وهمس النسيم، تعلمت ترديد أدعية جميلة؛ وتعلم قلبي تلاوة صلاة حرة كحرية هذا الشعب؛ صلاة مجردة من قيود الحركات؛ ومعفاة من رتابة الألفاظ التي تكرر وتعاد؛ فنفس “ذيهيا” تأبى التكرار وقلبها يمل الثرثرة.
هم الآن يسمونني بالكافرة الجاحدة؛ السالكة دروب الشر لكي تلحقني لعنة الأجيال وينفر من ذكري أبناء تامازغا…
قال الحكماء قديما: خذ الحكمة السديدة والمنطق الحصيف ولو من أفواه الأشرار. وهذا قول ينطبق تماما على هؤلاء الغزاة، فهم يأمرون الناس بفعل الخير بينما هم غارقون في وحل الشر حتى آذانهم. انظروا إليهم كيف يسلبون الفلاح غلاله وشياهه باسم الشريعة؛ وكيف يسرقون من أمهات تامازغا بناتا جميلات في عمر الورود ليشبعوا نزواتهم الرعناء بهمجية الوحوش ثم يبيعوهن للنخاسين؛ ليقتدن فيما بعد صوب حواضرهم وأسواقهم في غسان وكنعان وقحطان وحضرموت.
عندما يلبس الشيطان لبوس الكهنوت، وعندما تغلف الرذيلة بالفضيلة ينبهر البسطاء وقد ينجر بعضهم بتلقائية جارفة قاتلة، أما أنا فلا أريد أن أنضبط لطقوس غريبة، كما أني لا أريد للأغراب أن يشرعوا حياتنا ويمتلكوا رقابنا.
بالأمس قتل الأشرار آكسل «كسيلة» ورفاقه، وها هم اليوم على بعد فراسخ قليلة من هذا البئر الذي شربت اليوم من مائه حتى الارتواء؛ والذي قربه سيهدر دمي وستفيض أنفاسي؛ فأنا مقتولة لا محالة وسيحمل القتلة هذا الرأس إلى معسكرهم وسيحتفلون بجريمتهم هاته حاسبين إياها صنيعا حسنا يرضي السماء.
لكن ما يبعث في نفسي الجريحة بعض العزاء هو إيماني بأن أجيالا قادمة ستنصفني وربما خلدتني في أعيادها وأعراسها؛ وقرب هذا البئر سيقيم لي أبناء تامازغا نصبا مهيبا تمجيدا لـ ذايا الأوراسية؛ وستنثر بنات نوميديا وقرطاج الياسمين والقرنفل وستسكب العطور وستحرق البخور إكراما لذكراي؛ وستصدح الموسيقى بأعذب الأنغام وستضاء الشموع في ربوعنا الجميلة، وستذكر الأجيال في كل شبر من تامازغا قصة امرأة نشمية شهرت سيفها في وجه الجبروت؛ وماجدة أبية دافعت عن عرض هذه الأرض وشرف هذه الجبال؛ فآثرت الموت بشجاعة الفرسان على الحياة تحت الذل والهوان، هكذا تكلمت ذايا سليلة الأحرار التي تحل فيكم؛ وتزور قلوبكم؛ وتحفز ذكراها مجالسكم، فلكم من روحها وروح أسلافها كل التحايا والسلام.
الباحث عساسي عبد الحميد. الرباط – ثامزغا