صالح لغرور : آوراس مهد الثورة
إن طرح بعض أحداث الثورة ومناقشتها عن طريق وسائل الإعلام المختلفة يعد شيئا إيجابيا وبنّاء في نفس الوقت، وهذا مهما كانت الرؤية، شريطة أن يفتح المجال للجميع، مع تقبل الرأي الآخر، وأن لا تكون هناك أحادية الرأي، وذلك بالنظر إلى الأحداث بعيون وزوايا مختلفة. إن القراءات المختلفة لبعض الأحداث ضرورية مهما كان نوعها.
تابعت باهتمام مساهماتي كل من السيد حسين بن معلم والأستاذ رابح لونيسي حول مذكرات السيد محمد الصغير هلايلي، الصادرة تحت عنوان ”شاهد على الثورة في الأوراس” وتعليقاتهما المنشورة بعد حديثه حول تاريخ المنطقة الأولى، الصادرة في شكل استجواب مسلسل على صفحات جريدة ”الخبر” لشهر أفريل من هذه السنة، وبحكم اهتمامي بهذه المرحلة من تاريخ ثورتنا المجيدة، أودّ أن أساهم ولو بقسط متواضع في هذه المداخلات إن اتسعت الصدور لقبول الآراء المختلفة والمخالفة أحيانا. إن طرح مسألة عدم حضور ممثل منطقة الأوراس النمامشة في مؤتمر الصومام لا يزال غامضا، وقد بررها البعض باستشهاد بن بوالعيد، وعدم تمكن القادة من تعيين ممثل لهم لهذا اللقاء. لكن هناك قراءة أخرى وأسباب لم تطرح بعد، وهي حسب بعض الكتابات والشهادات وبصفة خاصة شهادة عجول الذي يقول إن الدعوة وصلت له لحضور المؤتمر هو وعباس لغرور، وكان ”عجول” ينتظر اتصال أي مبعوث يدلّهم إلى مكان المؤتمر، لكن دون جدوى. كما وصلت أيضا دعوة إلى عمر بن بوالعيد وسافر، لكنه ضل الطريق ولم يتمكن من الوصول إلى مكان المؤتمر. وهنا نطرح السؤال: ألم تكن هناك نية لإبعاد المنطقة الأولى؟ والإجابة قد تكون بـ”نعم”، بالنظر إلى العلاقة الوطيدة بين قادة المنطقة الأولى وممثل الثورة في الخارج وبصفة خاصة بن بلة. وبالنظر أيضا إلى العلاقة المتوترة بين بن بلة (الذي يقول إنه أبعد عمدا حتى لا يحضر المؤتمر) وعبان رمضان.
مهمة عميروش إلى الولاية الأولى كانت فاشلة
في هذا الإطار تجري المناقشة بين الفاعلين وبعض المؤرخين والمهتمين بتاريخ الثورة التحريرية حول محورين أساسيين هما الوفود الذي تقرر إرسالها إلى الأوراس من طرف لجنة التنسيق والتنفيذ التي تضم ثلاثة قادة ولاية، من بينهم من عرف الأوراس ورجالها معرفة جيدة، أي في فترة تفكيك المنظمة الخاصة، هذه الوفود للأسف لم تتوجه إلى المنطقة لأسباب غير مبررة ما عدا زيغود يوسف الذي سقط في ميدان الشرف بعد بضعة أسابيع من انتهاء المؤتمر. وعوضت هذه الوفود بشخص واحد هو عميروش الذي لم يكن معروفا في المنطقة، كما لا يعرف رجالها وإن اعتبار أن مهمة مبعوث لجنة التنسيق والتنفيذ المنبثقة عن لقاء الصومام كانت ناجحة، غير صحيح، حيث تعرّضت العديد من الكتابات إلى هذا الموضوع، مؤكدة فشل هذه المهمة، وأذكر هنا ما يؤكد هذا الإخفاق باختصار.
أولا: عدم ذهاب كل الوفود المعيّنة من طرف لجنة التنسيق والتنفيذ، والمكون من ثلاثة قادة مناطق، زيغود، اعمران، سي الشريف (علي ملاح)، بالإضافة إلى كل من مزهودي بن عودة وعميروش. أسابيع قليلة بعد ملتقى الصومام، استشهد زيغود الذي كانت له معرفة جيدة بمنطقة الأوراس ورجالها بسبب لجوئه إليها بعد الفرار من السجن، وإقامته بين أهلها لفترة غير قصيرة، كباقي إطارات المنظمة الخاصة بعد انكشافها سنة 1950. سؤال يبقى مطروحا: ما هي الأسباب التي أدت إلى عدم ذهاب هذا الوفد الهام إلى المنطقة الأولى؟
ثانيا: وصول عميروش وحده إلى الأوراس، وهو الأقل دراية بالمنطقة وبمناضليها من بين كل الوفود المعيّنة، كما أنه لم يكن معروفا خارج منطقته إلى ذلك الوقت، عوامل جعلته يتصرف خارج مهمته التي تتلخص في تبليغ قرارات الصومام، حتى وإن سلّمنا أنه كان في مهمة صلح كما يروّج البعض، فإن ذلك يحتمّ عليه التصرف بحكمة، ولا يجيز له الحكم والانحياز (تحت تأثير عمر بن بوالعيد) دون استشارة الأطراف الأخرى. ويذكر الشهود أنه راح يوزّع الرتب ويعيّن المسؤولين دون استشارة القادة الأساسيين للمنطقة، ناهيك عن استجوابه غير اللائق لقائد من مرتبة ”عجول” مناضل الحركة الوطنية والقائد النوفمبري الذي يعد امتثاله فقط للاستجواب الدليل الدامغ على انضباطه النضالي والثوري، رغم أنه كان في غنى عن القبول بذلك الموقف المهين له، كرجل يعترف له الجميع بالمكانة والقدر الرفيع.
ثالثا: الوضعية الكارثية المعروفة التي آلت إليها المنطقة الأولى بعد مرور ممثل لجنة التنسيق والتنفيذ، فعلى الصعيد الداخلي، احتدم الصراع بين الإخوة الفرقاء، أي بين الموالين والمعارضين لقرارات الصومام. أما خارجيا، فقد تم القضاء على قادتها وإطاراتها بالتواطؤ مع الرئيس التونسي بورڤيبة، فتحت جبهة صراع أخوي خارج الوطن، استفاد منه الاستعمار أيما استفادة. في هذا الإطار بالذات ننتظر من كل من السيد حسين بن معلم وأبوزار الإدلاء بشهادتيهما حول مقابلة من احتكر صفة مبعوث لجنة التنسيق والتنفيذ ”عميروش” مع ”عباس لغرور”، وهو تحت الإقامة الجبرية في ثكنة تونسية، لتحطيم الصمت المتواطئ حول ظروف اغتياله.
مؤتمر الصومام انقلاب داخل الجبهة
أما فيما يخص الانتقادات الموجهة لما عرف بـ”مؤتمر الصومام”، فإن السيد هلايلي ليس بالأول ولا بالأخير الذي انتقده، وللتدليل على ذلك أورد هنا مثالين: الأول لشخصين يمكن اعتبارهما حياديين، وهما محمد حربي وسعد دحلب فالأول كتب: ”غياب جزء مهم من قادة وقوات جبهة وجيش التحرير ليس هو السبب الوحيد لإيجاد توافق قوي. وثائق لم تسلم مسبقا لإطارات الولايات للإطلاع عليها، مؤتمر يتلخص حقيقة في اجتماع بين ستة أفراد (عبان، بن مهيدي، كريم، اعمران، زيغود، بن طوبال) مرفقين بوفود يستشيرونها لكنها لا تحضر المناقشات. كل شيء وقع وكان تحت غطاء المركزية، اجتمع المؤتمر لعزل ممثلي قيادات أخرى”. أما الثاني فقد كتب في مذكراته بأن ”مؤتمر الصومام هو أول انقلاب داخل جبهة التحرير”.
أما المثال الثاني: فهو من طرف خصومه وهما الأول: أحمد بن بلة الذي كان في صراع حول السلطة مع عبان، إذ يعتبر أن جماعة الصومام عزلته ولم يستدع لحضور المؤتمر، ويعتبر المؤتمر غير شرعي نظرا لعدم حضور المنطقة الأولى والخامسة والوفد الخارجي وممثلو الجالية بفرنسا. كما يعتقد أن مشعل الثورة اختطفه مناضلون لم يكونوا مع العمل المسلح أو في الموعد ليلة تفجير الثورة في 01 نوفمبر 1954.
أما الثاني فهو مالك بن نبي الذي يعتبر أن ”المؤتمر غيّر الأسس التنظيمية للثورة، بإنشاء لجنة التنسيق والتنفيذ بدل ”النظام”، ويعتبر ”إنشاء المنطقة الحرة بالعاصمة خطأ كبيرا” أدى إلى اغتيال والقبض على قادة الثورة في العاصمة ولجوء من نجا منهم إلى الخارج، ويتساءل لماذا وكيف جعل هذا المؤتمر بن بولعيد تحت وصاية فرحات عباس وأحمد فرنسيس؟
هذه الصراعات الدائرة رحاها بعيدا وخارج ميدان القتال، انعكست بشدة على منطقة أوراس النمامشة التي أصبحت هدف أحد الأطراف المتصارعة، نظرا لمقامها التاريخي ولموقعها الجغرافي وعلاقتها بممثلي الثورة في الخارج. أذكر أنه في هذا الإطار أيضا، تم تصفية معظم قادة وإطارات المنطقة الأولى ومئات من المجاهدين، الناجون منهم شرّدوا، ويذكر بعضهم بمرارة كيف استعملوا كدواب لنقل السلاح إلى الولايات الداخلية. أذكر هنا ما كتبه آيت احمد في كتابه ”الحرب وما بعد الحرب”: ”… في مراسلة لعبان رمضان ندّد ببن بلة وأعلن إرسال 4000 جندي إلى تونس لتحييد المعارضين لمؤتمر الصومام”، هذا يؤكد نية وتصميم ورغبة جماعة الصومام وبالتحديد لجنة التنسيق والتنفيذ الاستيلاء على مشعل الثورة بكل الوسائل، وتم لهم ذلك وحققوا هدفهم، ويذكر التاريخ أن الصراع تفاقم بينهم ولم يتوقف حتى بعد اغتيال أبرز قادة جماعة الصومام ”عبان رمضان” من طرف رفقائه.حقا إن الولاية الأولى ملك للجميع كما كتب العقيد بن معلم، لكن يجب أن تكون ملكا للجميع في السراء والضراء، عبر حماية واسترجاع ذاكرة شهدائها من ضحايا هذا الصراع الأخوي، الذي دفعت فيه ثمنا غاليا وكبيرا.
الصراع يجب أن يكون مع فرنسا أولا
إن رد الأستاذ رابح لونيسي وقراءته لتصريحات هلالي تكشف الصراع حول حماية الذاكرة الوطنية وهذا الصراع يجب أن يكون أولا وقبل كل شيء مع فرنسا، خاصة أمام بروز اتجاه ”المراجعاتي” في كتابة تاريخ الثورة. لقد كان رد الأستاذ رابح لونيسي مؤسف ومؤلم، لما يحتويه من استنتاجات ربما متسرعة أو اندفاعية ناتجة عن انفعال ظرفي، عندما يلغي دور الأوراس في الثورة التحريرية ويعتبره أكذوبة وكان من الأجدر أن يفتخر بالأوراس، لأنه جزء من الجزائر. إذ يكتب:
وعند ذكرنا المدرسة جاءنا إلى الذهن أكذوبة أخرى غرست في ذهن أبنائنا، وهي أن الثورة انطلقت من إحدى المناطق وأن هناك أطلقت أول رصاصه، فهذا أمر غريب.
ثم يضيف:
هذه المقولة التي تتردد كثيرا في مدارسنا ووسائل إعلامنا لها تأثير سلبي على تماسك أمتنا بإثارة الحزازات، لأنه من الفداحة الترويج لفكرة أن مناطق كانت أولى من مناطق أخرى أثناء الثورة.
أولا، أتعجب كيف لأستاذ التاريخ أن يقر ويحكم بأن هذه أكذوبة؟ كما أن كتابة أن منطقة كانت أسبق من منطقة أخرى ”فداحة وترويج له تأثير سلبي على تماسك أمتنا”، لا أدري كيف استنتج هذا الأثر السلبي على تماسك الأمة، وكأنه إذا كتب أن الأوراس هو مهد الثورة هو طلب للانفصال أو طلب للحكم الذاتي؟ ما الغريب والخطير في أن نكتب أن الرصاصة الأولى انطلقت من الأوراس؟ وهل هذا ينفي عدم مشاركة كل مناطق الوطن في الثورة؟ ما الغريب في أن يفتخر كل الجزائريين بالأوراس؟ أليس الأوراس جزءا من الجزائر؟ هل من الأكذوبة والتأثير السلبي على تماسك أمتنا أن نكتب أن الكاهنة (وهي التي أصبحت رمزا لكل أمازيغ شمال إفريقيا) أوراسية وقاومت في الأوراس؟ هل هو مثير لحزازات أن نكتب أن الأمير عبد القادر ابن مدينة معسكر البار، بدأ المقاومة في الغرب الجزائري ولم يبدأها لا في الشرق ولا في الجنوب، وأصبح رمزا ومفخرة لكل الجزائريين، وأنه مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة، أم أن الأمر يتعلق فقط بالأوراس؟ هل كتابة أن عبان رمضان هو مهندس مؤتمر الصومام، يمس بتماسك الأمة لأنه قد يقرأ على أنه إهمال لبن مهيدي وبن طوبال وكريم؟
أذكّر هنا بدور المنطقة الأولى في الأشهر الأولى للثورة، وكونها المهد، حسب دراسة أجرتها السيدة عمران جميلة خلال جريدة Dépêche” Le quotidienne d’Alger والتفاصيل يمكن مراجعتها فيدراستها الصادرة في كتاب Retentissement de la révolution algérienne, colloque international d’Alger du novembre 24 au 28 1984.ED ENAL-GAM 1985” تحت إشراف المركز الوطني للأبحاث التاريخية، بعنوان: ”L’Extension de la lutte armée pendant les premières années de la lutte de la guerre de libération”
تكتب السيدة عمران ما يلي:
من بين 143 عسكري فرنسي قتلوا ما بين نوفمبر 1954 وجويلية 1955, 119 في الولاية الأولى، من بينهم 81 في منطقة باتنة من بين 544 مجاهد قتلوا لنفس المرحلة 382 قتلوا في الولاية الأولى. القمع مس بقوة المدنيين، حيث تم ترحيل سكان بأكملهم تكتب الجريدة Dépêche” Le quotidienne d’Alger إذ تم ترحيل 4700 شخص بين نوفمبر 1954 وجانفي 1955 وهذا فقط في منطقة باتنة. 2214 شخص تم توقيفهم في الولاية الأولى ما بين نوفمبر 1954 و جويلية 1955
هذا لا يعني أبدا أن الأوراس هو وحده من قام بالثورة، أو ضحى أكثر من المناطق الأخرى، هذا يعني أن الأوراس انطلقت فيه ومنه الثورة بقوة وباستمرار خلال الأشهر الأولى لاندلاعها وبقي يقاوم حصار القوات الفرنسية بكل جدارة، فرنسا التي جندت كل قواتها رغبة في إجهاض الثورة في الأوراس، معتقدة أنها انتفاضة محلية. فقد صرح العسكريون الفرنسيون: ”الأوراس مهد التمرد وسيصبح مقبرته” لكن مقاومة الثوار في الأوراس وفي مناطق أخرى من البلاد خيّبت اعتقادهم وأفشلت مشروعهم.
وهذا لا يعني أيضا، كما يتصور الأستاذ لونيسي، الاستنقاص من دور المناطق الأخرى أو اعتبارها أقل وطنيه وشجاعة، فقد عمت الثورة تدريجيا بعد نصف سنة من انطلاقها في كل جهات الوطن، وقدمت كلها تضحيات جسام وقاومت بشجاعة وسجلت بطولات جبارة حتى الحصول على الاستقلال.
من العبث المطالبة بأن تنطلق الرصاصات في نفس الوقت في كل المناطق ولا يمكن أن يستشهد نفس العدد من الشهداء في كل المناطق، هنالك رموز يجب بلورتها، فالأوراس رمز اندلاع الثورة وزبانة رمز لكل من تم إعدامهم، وبن بولعيد، لطفي، سي الحواس، عميروش، بوڤرة، شريط لزهر، لغرور.. كلهم رموز لمئات الآلاف من الأبطال والشهداء.