دشرة كاشو أو حيث يموت الشّاوي ببطء في وطنيّة .. انتقائية!
على بعد حوالي 4 كيلومترات عن مدينة إيغزر ن ثاقّا ⵉⵖⵥⴻⵔ ⵏ ⵝⴰⵇⵇⴰ بوحمار، أو “واد الطّاڨة” كما تحرّفها الطوپونيميا الرّسمية، تقع دشرة “كاشُّو” ⴽⴰⵛⵛⵓ القديمة. بدعوة من صديقي يونس بن طلحة، قصدناها معًا وفي اعتقادنا أنّها خاليّة من السّكان، حتّى هو ابن المنطقة اعتقد ذلك، فلا ماء ولا غاز ولا أمن بها، لذلك دهشنا أنّ بها قرابة العشرين عائلة.
لم يتوقّف كلب قابع على مدخلها عن النّباح عند وصولنا، يعرف جميع سكّانها ويعلم أنّنا غرباء؛ كان في استقبالنا طفلُ رفض أن يخرجَ من باب البيت واكتفى بأن نهرنا “تصوّارتشا” .. لا تصوّروا ! على بعد أمتار قليلة، وجدنا رجلا عجوزا يجلس أمام مدخل بيته العتيق المسقّف بالقصدير طلبنا إذنه لنصوّر، فقال : “الله يربّح”.
المنازل العتيقة التي تفوق أعمارها القرنين بكلّ تأكيد، جذبت انتباهنا منذ حللنا بالمكان، تقنيّات العمارة الشّاوية مميّزة جدّا ومدهشة. قرأت عنها القليل، لكنّ معاينتها ومشاهدة دقّتها عن قرب رغم بدائيّة نمط معيشة أهلها سيصيبك بالدّهشة.
لقد اعتنى الشّاوي بتقنيّات التّكييف واعتنى بمداخل الإضاءة ومنافذ التهوئة واستحدث مبانٍ مقاومة للزّلازل، واختار بذكاء استراتيجيّ مواقع بناء مدنه وقراه ومداشره، حتّى قبل الاحتكاك بالفرنسيين، وفي غياب الاحتكاك بالأتراك العثمانيين، وبكلّ تأكيد بمعزل عن احتكاكه بالعرب. أرفض تماما أن اعتقد بما يروّج عن بدائيّة هذا الشّعب العريق، ومثل هذه المعالم الحضاريّة قرائن تدعم إيماني الّذي يزيد يوما بعد يوم.
لم نشأ التوغلَّ أكثر في الدّشرة، مراس إيشاويّن صعب، ولا يمكن أن تتكهّن بما قد تقابل وأنت غريب تدخل دون استئذان محلّا في منعة من الزائرين والفضوليين. ربّما تمنُّع إيشاويّن هذا هو ما حمى تقاليدَ وعادات وطقوس ومعتقدات وموروثات ألفيّة، وسمح لها بالعيش حتّى القرن الحاليّ. تماما كان كان مراسهم الصّعب درعا واقيًا وسيفا طاردًا ضدّ كلّ الغزاة الّذين وفدوا إلى بلادهم وكامل الشّمال الإفريقي.
مواجهة هذا المراس الصّعب جنون، والحلّ دائمًا أن تتسلّح بابتسامةٍ وألفة ولغة شاويّة محكمة، وأسئلة مضبوطة وعيونٍ وديعة. مضى على دخولنا الدّشرة ساعة، قبل أن يقترب منّا أحدهم؛ على بعد أمتار من ساحة صغيرة توسّطت الدشرة ذات العشرين بيتا أو أكثر، أطلّ علينا ثلاثة أطفال : إدريس، فهد، وجمانة .. لا تفوق أعمارهم الخمس سنوات، طلبت أن أصوّرهم “آراحا تصوّارتشا” (لا، لا تصوّر) ردّ فهد؛ أظنّ أنّي أجيد التعاطي مع الأطفال، فخجلهم لم يزل، لكن ابتساماتهم لعدستي وردّهم على بعض أسئلتي ببراءة ونباهة معًا أوحت لي بذلك.
إدريس كان يحمل في يده عصا يتظاهر بأنّها بندقيّة، سيسير غالبا على طريق الكثير من شباب إيشاويّن، ويحمل البندقيّة في إحدى آلاف الـ”ڨاريطات” الّتي وقف ويقف بها ملايين الشّاوية.
كنت دائما أعتقدُ أنَّ سبب إقبال شباب بلاد إيشاويّن على الانخراط في الجيش، برتب دنيا عموما، هو حبّهم للشخصيّة العسكريّة، وعشقهم للسّلاح، لكنّي أيقنت خطأ هذا الاعتقاد عندما ولجتُ عالم العسكرية. كلّ الجنود فقراء، وحتّى الضبّاط فقراء، وإيشاويّن إنّما يلجون الجيش فارّين من العوز والحاجة، ويختارون سجنا اختياريّا على سجن إجباري .. هنا في “كاشّو” وفي كثير جدّا من بقاع بلاد إيشاويّن طرق الشّباب ثلاثة : السجن أو السّجن أو السّجن، سجن العسكريّة أو سجن بابار أو سجن البطالة، والموت للهاربين.
أفكّر كثيرا في ذلك التباين المضحك المبكي بين مدنٍ قدّمت آلاف “الشّهداء” و”المجاهدين” ومدنٍ لم تقدّم الكثير، أقول هذا حتّى لا أقول شيئا آخر، في وطنٍ لا يزال يتغنّى بعد 62 سنة من ثورته بالثوّار، ويحكمه فقط من دار في فلك الثوّار بعقليّات من جيل مراهقة الثوّار وفق خطّة مرّرت إلينا عبر (الثوّار). ألم يكنْ من الأحقّ أن يخصَّ من قدّم أكبر قدر من التضحية في ثورةِ “بلاد الثورة” بعناية أكثر من غيره؟!
أعلم أنّ هذه المقاربة غير موضوعيّة تماما، ولا أعتقد بها شخصيّا لكنّ السؤال يطرح نفسهُ كثيرًا عليّ : هذا حال من قدّم أكثر من ثلث شهداء الثورة، وذاك حال من عايش الكولون؟!
زيارتنا للدّشرة كانت استكشافيّة، شخصيّا أردت أن أعاينها عن كثب تحضيرا لمشروعٍ قادم، لكنّ الاستكشاف أحيانا يقودك إلى ما لاتريد. جالسنا الأطفال الثلاثة، حتّى حضر عمّهم .. تعرّف على يونس، فرحّب بنا وطلب منا الدّخول لتناول القهوة، فضّلنا أن ندردش معه خارجا. طلبنا الإذن بالعودة مرّة أخرى للتّصوير فرحّب بذلك، واقترح أن يقدّم لنا ما نحتاج من مساعدة.
“.. لا يوجد هنا ماء، لذلك نضطر إلى الرّحيل إلى قرية أخرى في الصيف، فشياهنا بحاجة إلى الماء وإلّا ستموت .. الغاز! لا نحن نستعمل “إيصغارن” للتدفئة يقصد الحطب، وهناك من يستطيع تحمّل تكاليف المازوت .. ينتقل أطفالنا على الأقدام 4 كيلومترات ذهابا ومثلها إيابا من المدارس كلّ يوم، ويساعدوننا في تربية ورعي الأغنام خلال العطل .. لا معاش لنا إلّا بتربية الأغنام، وفي غياب الأمن نتعرّض كثيرا للسرقة وتخرب بيوت الكثيرين ..”
هذا هو ملخّص حياة هؤلاء، دون زيادة أو نقصان .. هذا ما رواه عمّ الأطفال، مترجما من ثاشاويث.هنا في “كاشُّو” تشتغل النساء، شابّات وعجائز، في “عيد” المرأة، تحمل الحطب على ظهرها لتدفئة أبنائها، وتسير كيلوميترات طويلة لتتعلّم لغةً ووطنيّة لا تدري ما تفعل بها، ثم تعود لترعى أغناما، وهي الشّابة الجميلة، وحيدة وسط الغابة الموحشة، وتطبخ وتمسح وتنظّف وتكنس وتربّي الأطفال .. ويعمل الرّجال، والأطفال. ويحاول كلّ منهم اللحاق بطائر “الخبزة” دون فائدة. سأعود إلى “كاشّو” قريبا، لكنّي لن أستطيع فعلَ شيء، فالشّاوي يفضّل أن ينمحيَ ويموت ببطء في “كاشُّو” في وطنيّة انتقائية أريدت له، ويسكت، على أن يتكلّم فتشقَّ تلك “الوطنيّة” .. المزيّفة. وأنَا على ما يبدو خالٍ من تلك الوطنية، والأفضل أن أصمت …