الأمير آكسل والوَعيد عند إيشاويّن، وعادة مسح الوجوه بجلود الذبائح !
يعجّ المخيال الشعبي في بلاد إيشاويّن بالحكايا والقصص والأساطير، والعادات والطقوس والتقاليد، المتوارثة المتواترة من جيل إلى جيل، وعلى تمايزاتها من منطقة إلى أخرى نظرا لشساعة “ثامورث نيشاويّن” إلّا أنّها تتوحّد بشكل غريب، في بعض النواحي، يثير التساؤل ويدعو إلى البحث عميقا من أجل سبر أغوارها والوصول إلى تفاسيرها. ولعل واحدة من أكثر تلك الممارسات شيوعا عند إيشاويّن، والتي أصبحت تشدّ انتباه الجميع، وتثير الحيرة والتساؤل لدى الكثير من الفضوليين، هي عادة مسح الوجوه بجلود أضاحي العيد بعد ذبحها.
شاهد على مسح الوجوه بجلود الذبائح عند إيشاويّن:
تروي “جرمان تييُّون” Germaine Tillion الفرنسية المختصة في الأنثروبولوجيا الوصفية وعلم الأعراق، التي عايشت ونقلت الكثير من يوميات وتقاليد إيشاويّن خلال مهمتها الإثنوغرافية إلى آوراس في بداية ثلاثينيات القرن الماضي، في كتابها “Il était une fois l’ethnographie” فتقول:
«…ببعض القرى في الشمال، ينصح بتمرير جلد الحيوان المسلوخ على الوجه وخاصة العينين « للوقاية من الأمراض ». من أعلى شرفة بثاڨوست، شاركت في هذه العملية السحرية: أولا مسح الأب، وكان رجلا أشهب وملتحٍ، ببطء وعناية كل وجهه، بالجزء الداخلي من الجلد المسلوخ من الأضحية، ثم مرره على وجه ابنه البكر، وكان طفلا في الخامسة أو السادسة من عمره، ثم على وجوه الأطفال الآخرين، وهكذا يمرَّر الجلد من يد إلى يد ليستعمله جميع الرجال الحاضرين ثم جميع النساء الحاضرات…»
«…Dans quelques villages du Nord, on recommandait de se passer la peau de l’animal prestement écorchée sur le visage, et surtout les yeux « pour se protéger contre les maladies ». Du haut d’une terrasse, à Tagoust, j’ai assisté à cette opération magique : le père d’abord, un homme grisonnant et barbu, s’essuya lentement et méticuleusement chaque partie du visage avec le revers de la peau de l’animal sacrificiel, puis il la passa sur le visage de fils aîné, un petit enfant de cinq ou six ans, et ensuite sur les visages des autres enfants. La peau circula enfin de main en main, et fut utilisé par tous les hommes présents, puis par toutes les femmes présentes…»
جرمان تيِيُّون التي كانت شاهدة على العملية، رصدت بعض التفاصيل، في نصها هذا، التي تثير اهتمامي شخصيا.
فبقطع النظر عن اعتقاد الساكنة في صحية الظاهرة وحمايتها لهم من الأمراض، إلا أنّ “الطقس” الذي مارسته العائلة عبر تمرير جلد الأضحية المسلوخة بذلك الترتيب، الذي يدل على تراتبية ما، لا يمكن أن يكون لمحض الاعتقاد بصحية الظاهرة، بل إن له دلالة أكبر من ذلك، أظنّ، كأنّه واجب متوارث له بعض القداسة.
إلى اليوم تستمر العادة عند كلّ عيد أضحى، وكلما ذبحت شاة في بعض المناطق. ولا أثر لأي معطى أو دلالة دينية أو شعائرية إسلامية مرتبطة بعيد الأضحى أو وثنية في ممارسة هذه العادة عند إيشاويّن، لكنّ البعض يعطيها تفسيرات صحية من قبيل : أنّ لذلك تأثيرا جيدا على البشرة، وخاصة بشرة الأطفال، وأنّها تعطي حمرة طبيعية للوجه، إلى غير ذلك من التفسيرات ذات الدلالات الصحية.
جذور تاريخية للعادة المتواترة عند إيشاوين!
تذهب بعض القراءات في مدلولات هذه العادة السائدة عند إيشاويّن على وجه الخصوص، أبعد من التفاسير المحلية البسيطة الشائعة في الموروث الشعبي الشاوي، إلى ربط عادة مسح الوجوه بجلود الذبائح عند إيشاويّن بحادثة “الأمير آكسل” و”عقبة بن نافع” الشهيرة والتي أدّت بعقبة إلى حتفه، إذ يقول فيها عالم الاجتماع الآمازيغي “ابن خلدون” في “المقدمة”:
«…وكان عقبة في غزواته – للمغرب يستهين كسيلة ويستخف به وهو في إعتقاله. وأمره يوماً بسلخ شاة بين يديه فدفعها إلى غلمانه، وأراده عقبة على أن يتولاها بنفسه، وإنتهره، فقام إليها كسيلة مغضباً. وجعل كلما دس يده في الشاة يمسح بلحيته، والعرب يقولون: ما هذا يا بربري؟ فيقول: هذا جيد للشعر، فيقول لهم شيخ منهم: إن البربري يتوعدكم. وبلغ ذلك أبا المهاجر فنهى عقبة عنه وقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستألف جبابرة العرب، وأنت تعمد إلى رجل جبار في قومه بدار عزة قريب عهد بالشرك فتفسد قلبه، وأشار عليه بأن يوثق منه وخوف فتكه، فتهاون عقبة بقوله…»
ثم يتابع بعد ذلك:
«…فلما قفل – عقبة عن غزاته وإنتهى إلى طبنة صرف العساكر إلى القيروان أفواجاً ثقة بما دوخ من البلاد، وأذل من البربر حتى بقي في قليل من الناس. وسار إلى تهودة أو بادس لينزل بها الحامية. فلما نظر إليه الفرنجة طمعوا فيه وراسلوا كسيلة بن لزم ودلوه على الفرصة فيه فانتهزها، وراسل بني عمه ومن تبعهم من البربر ، وإتبعوا عقبة وأصحابه… حتى إذا غشوه بتهودة ترجل القوم وكسروا أجفان سيوفهم، ونزل الصبر وإستلحم عقبة وأصحابه… ولم يفلت منهم أحد…»
وقد تأوَّل العادة، التي لا تزال منتشرة بكثرة إلى اليوم، بأنها وفاء لوعيد “الأمير آكسل” وإرث تاريخي يحتمله إيشاويّن على وجه الخصوص، لأن الأمير منهم والواقعة كانت ببلادهم وفيهم تحت حكمه، ولذلك فإن “اللاوعي الجمعي” في بلاد إيشاويّن بقي يحتفظ بالحركة نفسها في مواقف من حياته اليومية، فمن المثير للانتباه أن حركة الأمير “آكسل” بالمسح على لحيته/وجهه، حركة جدّ شائعة في كامل الشمال الإفريقي اليوم، وعلى وجه الخصوص بشكل واضح ومعلوم، في بلاد إيشاويّن، فالشاوي إذا توعّد مسح بكفه على وجهه وقال “هاثا ؤوذم ينو” يقصد “ها هوَ وجهي” أي بعبارة أخرى : تذكّر وجهي فسأنتقم منك. وإلى اليوم، تبقى هذه الإشارة، التي لم يقاربها علماء الاجتماع الحاليين بالبحث والتمحيص حتى يعودو إلى أصولها، سائدة في المجتمع الشاوي.
بنفس الحركة يقوم إيشاويّن إلى اليوم بالمسح على وجوههم بجلود الذبائح بطريقة مراسيمية فيها بعض التراتبية والالتزام الذي يوحي للمشاهد بأنها أكثر من عادة صحية، بل قد تكون شعائرية (ritualistic) لفرط اهتمامهم بها. ولا أظنّ التوافق بين الحركتين: مسح آكسل لوجهه بكف يده توعّدا للغزاة، عند ذبح شاة، ومسح إيشاويّن لوجوههم بجلد الشاة المسلوخة، بنفس الحركة، وفي نفس الظروف، محض صدفة. بل إن رسوخ العادة وتحوّلها إلى شكل من أشكال لغة الجسد عند الآمازيغ عامة، وإيشاويّن خاصة، لدليل آخر على أن للعادة بعدا تاريخيا غير مرصود يحتاج إلى دراسات معمقة وجدية.