آلية الكتابة باللغة الآمازيغية في المتغير الشاوي
أن يكتب الإنسان بأية لغة أخرى يطوّعها لإرادة المخ وسلاسة القلم فكرة وتصوّرا وتجسيدا – شكلا وتعبير– فذاك جميل .. وأن يمارسها نتاجا بلغة أمه وأسلافه دان عن قاصي .. رغم تداعيها انفلاتا من على لسانه معاني وكلمات .. أزمنة وأماكن ، أوجه وصداقات .. فذاك لعمري يبقى الأجمل.
والكتابة في واقعها ما هي إلّا شكل من أشكال التنفيس عن الذّات والترويح الفاعل عن الأنا الفردي والجماعي المحبطين في كلّ الحالات .. السّاقطين عنوة نحو العدم حين لا يجد الكاتب الطريقة المثلى المعبرة والقادرة على تغيير ما هو ثابت وتثبيت ما هو متغير. ولكون الكتابة فنّا كغيره من أشكال الفنون التي تضبطها جملة من المقاييس الموضوعية والشروط الكفيلة لأن تجعلها تواكب ذاك الفن شكلا وروحا، يحكمانها في إطارها الصحيح نثرا كانت أم شعرا. وعلى وجه الدقّة الدقة والتحديد الشق الشعري منها، هذا الذي يجب أن يكون ضمن إخراج خاص متفق عليه سلفا من قبل أهل الدراية والاختصاص، يليق بمكانته، به يضعون ممارسيه من الشعراء –وأقول الشعراء بتحفّظ شديد – يبدعون قصائدهم ونتاجاتهم الشعرية وفق هذه الضوابط، والأطر السليمة التي بها ومن خلالها يكون الفرز بين لون تحريري وآخر واضحا، والمتابعة النقدية إن وجدت – وإن هي غائبة إلى حين – على ضوء ما سلف من القواعد المنتجة سليمة. وبذلك تتضح الرؤيا لدى الثلاثي : “المبدع – المتلقي – والناقد”. لأن رصف الكلمات بالطول وبالعرض لا يعني –حتما- راصفها بشاعر ونتاجه بشعر، إذا لم يتقيّد بميزاني الضبط السالفي الذكر. هذان الأساسان اللذان أجهل كيفية التعامل معهما لدى شعراء الأدب الآمازيغي عامة وشعراء “آوراس” ناطقي “هشاويث” على وجه الخصوص.
من هنا كان التحفظ وبشدة على تسميتنا ولو إلى حين بالشعراء، ونتاجنا بالشعر إلى أن يرفع اللبس ويزال الغموض، ويأتينا اليقين من أهل اليقين، وأعني بهم لغويي ونحاة الأدب الآمازيغي. لأن لا أحد منا أو فينا ولد شاعرا أو أديبا بالفطرة، وتقوّل ذلك بالسليقة، إلّا من رحم واصطفى ربّك، بقدر ما هو ممارسة واكتساب. وأن تؤدي الموهبة وتلعب فيه نصيبها الأكبر.
في مجتمعنا الآوراسي من الحدود إلى الحدود حتى لا أعمّم بشمل تجارب الآخرين لقلة الاحتكاك من جهة، وضبابية الرؤية من جهة ثانية – لم يعتمد لسانه إلّا الشفوي المبثوث في كل معاملاته الأدبية والفنيّة، ولم يعتمد الشعر كأسلوب تخاطب وتعبير، إذا استثنينا اللون الغنائي واعتبرناه شكلا مضافا لأشكال القصيدة الذي كان في معظمه باللسان المعرّب (الدّارج) المشوب بالألفاظ الدخيلة من لغات أخرى تلقائيا للحفاظ على وحدتي الصورة والمعنى. وقليله ما نتج بـ”هشاويث” الفصيحة على اختلاف الأسماء، حتى لا يكون حكمي مطلقا وقاسيا في آن. لذا حتى نضع النقاط على الحروف، ونسمي الأشياء بأسمائها الصحيحة، ولا نتمادى في الهروب إلى الأمام، وينزاح على كاهلي على الأقلّ هذا الثقل الذي مؤكد يشاركني حمله الكثير من ممارسي هذا اللون الأدبي (الشّعر).
بودّي أن يؤخذ انشغالي هذا بشيء من الجدّية والاهتمام بالمناقشة والإثراء، وأن تدار من حوله ندوات فكرية، ولقاءات مكثّفة بين المعنيين بموضوع تطوير هذا المتنفس الحيوي في الثقافة والأدب الآمازيغي. وإن اعلم مسبقا أن النتيجة ليست بالسهولة بمكان، ولا تخلص للمبتغي بأمر فوقي، لاستولاد جنين مشوه الخلقة والمعالم نتيجة وضع قيصري، ولن تثمر بفرز عشوائي، وانتقاء تلقائي لمن ينعت بالصفة ممن لا ينعت بها، فالمسؤولية مسؤولية الجميع، والمهمة على عاتق الجميع، وكل غيور على إنماء وتطوير الحركة الأدبية الآمازيغية ووضع قطارها المضّعضع المتهالك على السكة الصحيحة والوجهة المطلوبة، إن ثبتت النية وخلص الفعل. وإلّا فلنكسر أقلامنا، ولنلتهم أوراقنا ولنحنّط أفكارنا وعلى الشعر والدنيا السلام! لأن خلاف جملة من الشروط الضابطة لقواعد الكتابة وتقنين الممارسة، يبقى من السهل جدا أن يكتب هذا اللون أو ذاك أي كان، وأن يُقرأ على الأسماع ما كان غثّا أو سمينا، يصفّق له ويثنى عليه ببعض الكلام وكل الكلام، فيركبه الغرور، وبجرّة قلم عرجاء في أيّ لون وبأية رائحة كانت يرقى هذا أو تلك لمصاف الحكمة والشعر.
أعلم أن الحركة الأدبية الآمازيغية عمرها الإبداعي قصير خصوصا في شقّها الشّعري إن وفّق أن ما نكتبه شعرا، وبالذّات لدى مبدعي آوراس. وحتّى نخرج من دائرة الشفوية وأن لا نكون نسخة لعجائزنا والشيوخ في السرد والترديد، يتحتم علينا ونحن في بداية المشوار، وان في نظري طال بنا الزمان نراوح خطانا، تشجيع الكتابة والكتّاب على اختلاف أقلامهم وألوان نتاجاتهم، وتتحمّل القطاعات الوصية النصيب الأكبر دون تمييز أو تهميش أو إقصاء إذا كانت النية صادقة والتفهم خالص لتطوير القطاع، أو النهوض بهذا الإرث المحمول على الأكف جمرا وزهرا ووصال، وتحمّل المسؤولية إزاءه على الوجه الأكمل والصحيح غير أنّي أبقى مصرّا بالمثال “معزة ولو طارت” أن لا يكون ذلك إلّا وفق الضوابط والقواعد. لأننا كما ندون لأنفسنا فنحن قبلا وحتما ندوّن للآخرين الذين تتملّكهم رغبة الاطلاع على ما بين أيدينا من نتاج، الذي يجب أن يكون في مستوى التقبّل والقبول على الأقل. وأن لا يقتصر الخوض والمغامرة إلّا في مجال الشعر والقصة والتدوين المستهلك، فطاقاتنا لا حدود وأفكارنا تستوعب العالم. فكلّ ألوان الكتابة أدبية أو علمية ليست حكرا لغيرنا دون سوانا بقدر ما تنتسب للجميع إلّا من استكبر وأبى. فالفكر للجميع والحرف للجميع والصورة الناطقة رعن راسمها ومبدعها، فنحن كثيرا ما تعاب علينا لغتنا التي لا تعتبر عند الجاحدين والمتربصين بها السوء والاندثار، على الدّوام، لغة لهج بها لسان ذات تاريخ، وقامت بها حضارة أرعبت الدنيا زمان الزمن، واستوطنت الخارطة، شواهدها مازالت معالم وآثارا ناطقة على رؤوس الأشهاد، إنّا هنا وويل للمكذّبين، باقية ما بقينا وأبقينا الحفاظ عليها لغة وتاريخا وموروثا وأنفاسا. ويعاب علينا أكثر حين نكون مقصرين، ونحن ننام على مخزون هائل وكمّ لا يستهان به من الرّصيد الثقافي الذي هو جزء لا ينفصم من الثقافة الإنسانية لهذا العالم، وهذا في إبراز نتاجنا وعرض ذواتنا. إذا لم نفعل وفق هذه الرؤية ومن منظور هذه الفرجة، تخيّلوا إخوتي كيف تكون نظرة هذا الغير إزاءنا، ومدى نقده وانتقاده لنا.
وهذا الغير ليس بالضرورة من ليس منّا لسانا وجنسا وتاريخا ورحابة جغرافيا وانتماء، فبعضه منّا، وما أكثرهم ينتظر زلّتنا ويقتفي في أثرنا خطأنا، ويتربّص في كل خطو سقطنا ليثبت للملأ ضعفنا، ومجانيتنا تحت الشمس، وبالتالي يهوي علينا شطبا بالأحمر من على دفتر الحياة.
وقبل الختام أعرض على المتتبع الكريم تجربتي الشعرية بالآمازيغية المقدّرة بأكثر من عشريتين من الزمن تقريبا، بغض النظر عن النتاج الكمّي، وبكل تواضع أتناول الجانب الكيفي واستقراءكم السبيل المنتهج في إخراج القصيدة الآمازيغي الشاوية التي لا تخرج عن البناء الشعري العالمي، والتي تتأطّر لدي في شكلين، وفق العربية حين الممارسة، خارج أوزان (الخليل).
- الشكل الأول: أعتمد نفس عدد الكلمات في البيت الواحد أو الشطر الواحد من البيت الذي يتكرر (العدد) مع بقية الأبيات أفقيا وعموديا، مع التلاعب بالقافية أو الإبقاء عليها حسب توارد الأفكار والمعاني، هذا ما يموسق وحدة الكتابة بيتا ومقطعا وقصيدة.
- الشكل الثاني: عدم التقيد بعدد الكلمات، أي التحرر من كمّ الوحدة في نسج أبيات القصيد، والمتحكّم هنا تمديدا وتقليصا بدء وانتهاء الفكرة، مع التطعيم من حين لآخر بالقافية المتكررة والمتغيرة التي تعطي طابع القصيدة النثرية الحرّة، المعتمدة على تناغم وتفاعل الوحدات داخليا.
ومن حيث طول وقصر القصيدة يتوقّف على اتسّاع الخيال، ومتطلّبات أفكار النص، ومنها يخضع التحكّم فيها بين البدء والانتهاء، وإن تناولت طابع القصيدة فأنا أحرص كلّ الحرص على أن تكون كتاباتي خالية من كلّ الألفاظ الدّخيلة ون لا تكون إلّا بما هو معروف لدي معنى صرفا في لغتي. وأستثني من ذلك التضمين بالعربية أو بغيرها من الألسن قصد إحقاق طابع التشويق وعنصر الرّغبة لتأكيد مهمة التبليغ ورسالة الإشارة والإيحاء، لأن هدفي الأول والأخير من الكتابة بالآمازيغية وتحديد “هشاويث” المتفتحة على معظم منطوق ثامزغا، هو البرهنة للآخرين المكذّبين الجاحدين على لساني، وعلى أنّ هذا الناطق المنطوق كائن قائم بذاته ليس في حاجة إلى رجل أو عصاة خشبية، مضافة كانت أم من الذّهب الخالص، حتّى، ثانية وثالثة وأخرى يتكئ عليها إن أصابه وهن وبعض القصور. فهو يجدّد نفسه كالحياة إن تفادى وسلم الرأس، وعلى ذلك أجزم قدرته والمقدرة، وإن ثبت هذا القصور وحكم عليه به، فذاك ضعف يبقى وعدم غوص منّي أنا وأمثالي من ممارسي التجربة على اختلاف التخاطب والتواجد، فكلّ فعل ناقص عيبه على فاعله. هذا بغض النظر عن المواضيع المعالجة التي تصب في قراءاتها العامة، فيما نحن عليه كنّا، وما نحن عليه كائنون، وما يجب أن نكون عليه ذات يوم.