ليس من الغريب ولا المستبعد، أن يقوم أحد الأثرياء الجدد باستغلال “نفوذ” المال، في دوائر السلطة في الدولة “الجزائرية” من أعلاها إلى سافلها، من أجل تمرير مشروع “مصنع إسمنت” وسط منطقة “إيغزر ن ثاقا” (بوحمار ولاية باتنة) ذات البيئة الفلاحية الممتازة، والطبيعة الخلّابة ذات المقوّمات السياحية الطبيعية والتاريخية المتميّزة، ضاربا هو ومن معه من “قوّادين” عرضَ الحائط كلّ المحاذير الصحيّة والبيئية والمحيطية التي تؤخذ بعين الاعتبار، عند دراسة هكذا مشاريع.
لكنّ الغريب والمثير للدهشة، هو سلوك والي ولاية باتنة، تجاه جموع المحتجين على إقامة هذا المصنع في مدينتهم، التي تزخر بأكثر من 200 ألف شجرة مثمرة، والذين “أمرهم” علنا بالسكوت وعدم فتح موضوع المصنع مرّة أخرى لأنّه سيتم إنشاؤه رغما عن أنوفهم، وأنّ عليهم الحذر حتّى لا يكرّر معهم سيناريو “واد الما” (ولاية باتنة)…
وهذا ما يدفعني للتشكيك بجديّة في معرفة الوالي بتاريخ المنطقة ككلّ، وطبيعة ساكنتها التي لا يجهلها أحد؟ هل يعتقد حقّا أن الترهيب وسياسة “الحذاء العسكري” ستثني هؤلاء الشباب، الذين التزموا حتّى اليوم بمنتهى السلمية والتحضر والرقي، عن مساعيهم لوقف إنشاء هذا المشروع الكارثي بمنطقتهم؟
“واد الما” التي استعمل فيها الوالي، قبل أشهر، قوّات مكافحة الشغب والدرك، فعاثت فسادا واضطهادا في المواطنين الذين رفضوا نقل مصنع الطاقة الشمسية الذي كانوا يسترزقون منه إلى منطقة أخرى، وكاد أن يؤدّي بالوضع إلى انفلات خطير، يقلب المنطقة والبلاد بأكملها رأسا على عقب. بعد أحداث شغب لم تدم ولم تتوسع لحسن الحظّ واضطرّ بعدها إلى المهادنة والتنازل عمّا عزم عليه، هي مثال كان الأحرى به أن يضربه لنفسه، علّه يدرك ما هو بصدده، ولكنّه كما افترضت لا يعرف التاريخ على الأرجح.
الوالي، الذي يقف داعما، لأسباب أجهلها، لمشروع مصنع الإسمنت في منطقة “إيغزر ن ثاقا” التي لا يزال حتّى الآن، نشطاؤها يمارسون احتجاجهم، بطرق متحضّرة جدّا، سلميّة جدّا، وراقية جدّا، يتجاهل طبيعة المنطقة وسكانها على ما يبدوا ويحتاج إلى درس عاجل في التّاريخ وربّما أيضا في التسيير.
ففي “إغزر ن ثاقا” لا يريد الشباب الغاضب إلّا مصلحة “منطقته” وصحّة أبنائها، بعد أن شاهد وعلم ما تفعله مصانع الاسمنت بالطبيعة والصحة في عين توتة التي تحوّلت إلى “منطقة سوداء” جرداء وتحوّل سكانها إلى مشتلة لشتّى أنواع السرطانات. ولكنّ الوالي، الذي يبدوا أنّه حديث عهد بالمنطقة غير مطّلع على تاريخها، وربّما كان “جاهلا بتاريخها” ارتكب خطأً فادحا أنصحه أن يتراجع عنه، ويصلحه، قبل أن يقودها إلى كارثة حتمية.
والي باتنة، ليس الوحيد المعنيّ بالقضيّة، فوالي ولاية خنشلة أيضا مطلوب تدخّله العاجل والفعال في القضيّة، فمصنع الاسمنت سيلوّث المنطقة بأكملها، ويجعل من “سهل رميلا” الشاسع صحراء قاحلة، ويجبر الخناشلة على شرب مياه مسمّمة من سد تيمڤاد.
وإلى أن يستدرك والي ولاية باتنة دروس التاريخ التي فاتته، ويدرك أنّ تسيير الأزمات لا يكون بالتسيير بالأزمات، نتمنّى أن ينتصر التحضّر والعقل على جشع الأثرياء الجدد ومن يدعمهم.