حتى داخل المجال البشري “المناضل” من أجل الحقوق اللغوية أو الجهويّة أو الثقافية لبلاد إيشاويّن، تقابَل مطالب ومقاربات أتبنّى بعضها، برفض تامٍّ ونفور وتشويه للسمعة، ليس فقط دون فهم، بل ودون الاستماع إليها أو قراءتها حتّى. بين هؤلاء، وبين الوطنيين الوحدويين ذوي روح الحزب الواحد في بلاد إيشاويّن، ستجدُ نفسك، إن كانت لك مثل “ميولاتي”، بين مطرقة وسندان. ليس فقط هذا، بل ستُرفضَ وتلفظُ كأنّ بك برص، رغمَ أنّ لكَ كامل الحريّة كـ”مواطن” وكـ”إنسان” أن تفكّر كما تريد، دون رقابة ولا كهنوت .. لكن لمن تقرأ زابوركَ؟
في هذه المنطقة التي لا تزال إلى اليوم، رغم كلّ ما عانت منذ الاستقلال، وحتّى خلال الثورة، وما تقبع فيه إلى اليوم بفعل جهويّة الدولة المركزيّة والنّخب الملحَقة بها، والمستفيدة منها، لا يمكنكَ أبدًا أن تكون “جهويّا”.
حتّى وإن كانت هذه الجهويّة بناءَةً، وقد تكون (وهذه قناعتي) الحلّ الوحيد للحفاظ على كيان اسمه “دزاير” (المسمّاة رسميّا بـ: الجزائر). لا يمكنك أبدا أن تكون “جهويّا” لسبب بسيط، هو أنّ العقليّة الّتي كرِّست منذ عقود، حول الانتماء إلى وطنٍ يستلزمُ أن نكون نسخا متشابهة لا خصوصيّة لإحداها عن الأخرى، استشرت، وطبع فوقها كمّ هائل من الخرافات والأساطير “الوطنيّة” والترّهات “القوميّة” والخزعبلات “اللاهوتيّة”، ثمّ شمّعت ببعبع “المؤامرة الخارجيّة الّتي تستهدف “رقيّ” و”شموخ” الوطن “الحبيب”، فتحوّل الفردُ، خاصّة في بلاد إيشاويّن إلى “روبوت” يكرّر كلّ ما لقّن إيّاه دون فهم حتّى.
وحتّى إذا “تحرّر” من وطنيّة الحزب الواحد، في نسختها القوميّة العربيّة، ستجدُ أنّه في كثير جدّا من الحالات، قوميّ عربيّ ناطق بالأمازيغية، بمعنى أنّه يمارس نفس أساليب وتقنيات الرفض الدفاعيّة الّتي بُرمجوا عليها في عصر الحزب الواحد، ويفكّرون بنفس الطريقة، لكن مع تبديل طفيف في المعطيات، بل والشّعارات في أحيان كثيرا، من “العربية” إلى “الأمازيغية”.
وسط هؤلاء، تجرّأ وعبّر عن ميولك “الجهويّة” وحاول النشاط من أجل تنميّة المنطقة، وافتكاك حقوقها، وممارسة حقّ المواطنة الّذي يفترض بنا جميعا ممارسته، من منطلق “جهويّ” يحابي الثقافة والكيان الجغرافي والتاريخي “الشّاوي” في سياق مسيّس، دون أدنى ذكر لانفصال أو حكم ذاتي، وستقابل بجميع أنواع الاتّهامات…
لقد جبِلَ الشّاوي على حبّ الوطن، منذ فجر التّاريخ، وهذه ميزة لا يمكن لاثنين الاختلاف حولها، بل إنّها إحدى أهمّ مميّزاته، لكنَّ الحبّ غير المشروط، في عصر التحالفات الجهويّة داخل البلاد، أحاله، واقعا، إلى كائن رخو هلاميّ مازوخيّ، يحبّ الوطنَ حتّى ولو ضربه بالسيّاط.
ورغم أنّ كثيرا من الشباب المنخرط في النشاط من أجل مقاربة جهويّة تضمن “عدالة ما” لمنطقة منحت الكثير الكثير، دون أن تطلب شيئا، يرفضون الطرح الانفصاليّ غير المؤسس له أصلا، ويفضّلون العمل ضمن سياق “الجهويّة المتقدّمة” الّتي تضمن استقلاليّة عن المركزيّة المقيتة التي تمارس منذ عقود المحاباة والجهويّة وحتّى العنصريّة تجاه المنطقة، لسبب أو لآخر، إلّا أنّ كثيرا جدّا من “المناضلين” خاصّة الشموليين، أكانوا قومجيين عروبيين أو آمازيغيين، يرفضونهم بالمطلق، فقط لأنّ هؤلاء الشباب يقدّمون بلاد إيشاويّن على غيرها.
الأزمة يا سادة، ليست في حبّ الشّاوي لوطنه، ولا حتّى في تطبّع فكره بمعطيات القومجيّة العربية والإسلاموية والبربريزم السّلبية، بل في تفكيره المنكر للذات، والخالي من الأنانية في عصرٍ انفضحت فيه جهويّة الدولة المركزيّة، وبانت للجميع، لا يزالُ الفرد البسيط يرفضُ أيّ حراكٍ مضاد لهذه الجهويّة، ويرفض كذلك أيّ “جهويّة” خاصّة به، لماذا؟ ببساطة لأنّه منعَ من كلّ موارد المعلومة والوعي والإدراك، ولا يزالُ إلى اليومٍ ممنوعا منها، بفضل منظومة تعليمية لا تنتجُ إلّا المسوخ.
نعم، إذا كنتَ أحد هؤلاء؛ سيبدو لكَ بكلّ تأكيد أن من يكتب هذا الكلام انفصاليّ لأنّه يفضّل مصلحة “جهة” على “بلاد”. وهذا فعلا ما أنا عليه: جهويّ أفضّل مصلحة بلاد إيشاويّن على أيّ مصلحة أخرى، بكلّ عقلانيّة ونضوج. والخطأ هنا ليس في محاباتي لجهتي، بل في “شموليّتك” وحبّك للجميع إلّا “ذاتك” يا عزيزي.
منطقة تعاني في عصر البترول من فقر مدقع، بينما تتمتّع مناطق “الحكم” بكامل ثروات البلاد، ثمّ إذا رفضتُ أنا ذلك تهلّل أنتَ بأنّي: انفصالي! .. نعم يا صديقي، أنا انفصاليّ، أومبعد؟