على مساحة شاسعة، ذات ثراء ثقافي وتاريخي وأثري، وتنوّع إيكولوجي وثقافي نادر تتوسّط خنشلة بلاد إيشاويّن، بعاصمتها، المدينة العتيقة “ماسكولا”، ومواقعها الأثرية الضاربة في عمق التاريخ. هي لا تحتاج حقّا إلى تعريف، فمن منكم لا يعرف “خنشلة”؟ …
الواقع أنّ كثيرين جدًّا من مواطنيَّ الدزيريين لا يعرفونها، حقّا، أغلب من قابلت من خارج بلاد إيشاويّن لا يمكنه تحديد موقعها على الخريطة، كلّ معلوماتهم عنها، تتلخّص في كلمات مفتاحية لقّن لا-وعيهم إيّاها بطريقة أو بأخرى، تتلخّص في الكلمات الآتية: الشاوية، الشرق، “راسهم خشين”، بارود، بربوشة، أعراش، تقاليد، جريمة. و”جريمة” هي بيت القصيد ها هنا… يقول صديقي “صلاح” ردّا على دعوتي له لزيارتي: “فكّرت كثيرا في زيارة خنشلة رفقة خطيبتي للاستجمام، لكنْ أعذرني أخاف على نفسي من زيارة قد تتحوّل إلى كارثة” .. أخذٌ وردّ، وتتّضح الصورة. ما يعرفه صديقي التلمساني عن خنشلة، لا يختلف عمّا يعرفه بقية الدزيريين، فمصدره واحد. كلّ ما يعرفه مستوحى من عناوين الجرائد، المعرّبة على وجه الخصوص، فهي لا تسوق سوى عناوين من قبيل الآتي في الصور.
خلال بحثي في جرائد كالشروق، والنهار، وحتّى الخبر، السنوات الثلاث الماضيّة، وجدت أنّ 80 بالمئة من عناوينها المتعلقة بخنشلة، تصبّ في أحد الخانات الثلاث: الجريمة، ثاعروشيث والخرافة. البقية لا تعدوا كونها تغطيات عادية لتدشين نصب تذكاري، أشغال مؤتمر “حكومي”، أو نشاط “سيادي” لفخامة الوالي …
فقط: الجريمة والقبلية والخرافة هي ما يرتبط باسم خنشلة.
ستمنحك الجرائد إحساسا باللاأمن بل والرّعب من خنشلة، فأخبار العصابات، والقتل والاغتصابات والسلاح والمخدرات التي تتداول يوميّا، أخبار الصراعات القبلية والنزاعات والعنف و”الفتن” ستردع كلّ رغبة فيك بزيارتها. أعرف شخصيّا قصّة “حبّ” فشل مشروع الزواج فيها، لأنّ العروس خنشلية، و”الخناشلة صعاب” على حدّ قول خطيبها”. فإذا فرغت من العنف، ستصدمك كميّة أخبار السحرة والمشعوذين والخوارق العجيبة التي لا توجد إلّا هنا، لا مكان في البلاد احتلّ فيه الجنّ “اليهودي” منزلا وطرد أهله غير خنشلة…
الواقع أنّ خنشلة، ليست بالسّوء الذي يصوّره لنا صحفيّو الجرائد المعرّبة، فغالبا ما تكتب العناوين بعناية فيتحوّل شجار بين مراهقين إلى حرب عصابات بين حيّين، ونزاع فلّاحين إلى اشتباك بالأسلحة النارية بين عرشين، وحكاية “حمّام” تتداولها النسوة في مجالس الى خبر على صفحات الجريدة، بقدرة قادر…
لكنّ هذا لا ينفي أنّ الأخبار في حدّ ذاتها، تؤثّر بطريقة سيئة في سلوكات الخناشلة أنفسهم. لا أظنّ هناك من داع للخوض في تأثير وسائل الإعلام على تفكير وسلوك جمهورها، ولا يحتاج الأمر إلى متخصّص أو إعلامي، ليرصدَ متغيّرات المعادلة، التي تنفّذها هذه الجرائد، اعتباطيّا أو عن سابق إصرار.
فالصورة النمطية التي تكرّسها هذه “الوسائل الإعلامية” منذ سنوات، وضعت في أذهان الدزيريين عموما، تخيّلا بعينه عن كون “الخنشليّ” شخصا فضّا، مجرما، عنيفا، متعنّتا، عنيدا، قبليّا، وبدائي. وهذا واضح ومعلوم لدى الجميع، لكنّه ليس بالخطورة التي تشكّلها، عمليّة التكييف (الإشراط le conditionnement) التي يتعرّض لها يوميّا الشباب الخنشلي، عبر هذه المنابر التي فرضت قوّة “التعريب” عليه أن يلتزم بها، ومنعته من الاطّلاع على غيرها، بلغات أخرى (كالفرنسية والإنجليزية) وبالتّالي تحوّلت، وهو الطّبيعي في علاقة وسائل الإعلام بالجمهور، إلى أداة تشكّل وعيه وتسوس سلوكه.
لقد رسمت “التشكيلة” المختارة من المعلومات والأخبار المحليّة، التي تصدّرها هذه الجرائد عن خنشلة، للخناشلة أنفسهم، وخاصةّ الشّباب، صورة وإطارًا عامًّا أثّر مباشرة على سلوكاتهم، فالخنشليّ البّطال (بحكم غياب تام لأيّ شكل من أشكال التنمية في الولاية) الذي يقرأ يوميّا عن حوادث سرقة واغتصاب واختطاف ومكاسب حقّقها “فاسدون” و”منحرفون” في مدينته/ولايته، سيتحوّل بتحفيز بسيط إلى مجرم هو الآخر وسيقوم بعمليّة سرقة هوليودية لأنّ غيره قام بها في نفس مدينته، فالأمر أصبح “طبيعيا” (normalized).
نصوص التحريض، التي تبّث عبرها هذه الجرائد يوميّا رسائل مسمومة، ضدّ “عرش” فلانيّ لصالح “عرش” علّاني، غالبا ما تجعل من الشباب (إضافة إلى تأثير المحيط المتبدون، والأعيان المستفيدين من ثاعروشيث، وسياسات الفترة البومدينة) متعصّبا لجماعته/قريته/مدينته/قبيلته أكثر وأكثر، وتحفّزه أخبار “الحروب القبلية” التي تصله عبر هذه المنابر يوميّا، إضافة إلى سلوكه العنيف أصلا، على الانخراط في “مغامرات” مماثلة.
لتنهمك خنشلة في حلقة مفرغة من العنف، تتزايد يوميّا وتضخّم كلّ تفاصيلها عبر هذه الجرائد، ويساهم التضخيم الإعلامي في زيادة العنف واقعا، فما سيكون حال الخنشلي الذي يعيش في مدينة لا تدّخر الجرائد فيها جهدا لتصوير خنشلة كمدينة في الغرب الأمريكي المتوحّش يتصارع فيها السكارى على قارعة الطريق، وتحكم أحياءها عصابات أشبه بميليشيات الكارتالات الأمريكية الجنوبية؟
لتكتمل أركان المعادلة، وترصّ أحجار عمليّة التكييف بجرعات زائدة من “التجهيل”، بنشر ما لذّ وطاب لهؤلاء الصحفيين، ومحرّريهم في العاصمة، من أخبار عن سحرة ومشعوذين وثعابين سحرية وبيوت مسكونة ودور مهجورة وحيوانات كانغورو لمّوشية اعتدت على كوالا عمّاري، فثارت لأجلهما حرب قبلية…
قد يبدوا للبعض بأنّ صحفيي الجرائد الصادرة بالعربية، لا يجدون سواها ليملؤوا المساحات الضئيلة التي يمنحهم المحرّرون في العاصمة. لكنَّ الواقع غير ذلك، فهم يفضّلون أن يكتبوا عن هذه المواضيع، بدل الثقافة والفن والسياسة و”تكسار الرّاس”. نعم! هناك ثقافة في خنشلة، لا تتعجب. لكنْ إذا كنت فاعلا ثقافيّا، وأقمت حدثا ما، لا تتوقّع أبدًا أن يزورك صحفيّ من تلقاء نفسه، لتغطية الحدث. وحتّى إن دعوته، لن يأتي إلّا إذا كانت ملصقاتك تملؤ الشوارع، ورعاية فخامة المدير أو الوالي أو الوزير أو الرئيس تزيّنها. هكذا يضمن الصحفيون في خنشلة أنّ الحدث لا يغضب سيادة “المسؤول” ويتأكد بعضهم، أغلبهم، أنَّ الغداء مضمون وفخم. بل وحتّى إن أرسلت إليه صورًا ومعلومات عن الحدث، أو الإنتاج، لن يكتب عنه. لأنّ “الثقافة لا تبيع”.
إنّ عمليّة التكييف النفسيّ التي تقوم بها هذه المنابر، لا يمكن أن تكون اعتباطيّة أو من قبيل الصدفة أو المتاح، ولا نتيجة مستوى المراسلين المتدنّي، فمناطق كثيرة، في دزاير، لا يُعرَف لمراسليها مستوى، تمثَّل على صفحات الجرائد على الأقل بحدث ثقافي في الشهر، بينما، يشتغل الصحفيّون المكلّفون بولاية خنشلة، تبعا لتعليمات يتلقّونها بصيد الأخبار “الدسمة” و”المثيرة”، وذاك هو لب المسألة.
عمليّة التكييف النفسي هذه، تسير على أحسن وجه في ظلّ الواقع الاقتصادي الكارثي للولاية التي لا يوجد بها “مصنع” واحد، يمكنه أن يحتوي شباب المنطقة البطّال، الذي يجد نفسه مرغما على الانخراط في صفوف الجيش، أو الانخراط في صفوف السجن. وفي ظلّ “فساد” المنظومة التعليمية، التي تكرّس قيما وأفكارا مقولبة وتمتنع عن تزويد المتعلّمين بالوسائل الضرورية لبناء الأفكار، وسط ظروف كارثية، وصل أمرها حدّ تبرّع زين الدين زيدان بمبالغ مالية لتجهيز وتهيئة مدارس، كأن الخناشلة لاجئون يستحقّون العطف والصدقة.
“فقر + جهل + تحفيز” معادلة بسيطة وضعت بعناية للإبقاء على الخنشلي (كمثال عن الشّاوي) مكبّلا إلى قضبان الرداءة والهبوط، ستحتاج إلى “ثورة” حقيقية على جميع المستويّات، وخاصة الفكرية، للتخلّص منها. وتبقى المسؤولية الأخلاقية والفعليّة الأولى على عاتق أبناء المنطقة الذين لم يستثمروا يوما في تحسين أوضاع بلاد إيشاويّن، فهل سيغيّر الوضعَ الشّباب؟!…