مقدمة :
لقد عانى الشّعب الجزائري لمدة قرون من ويلات الاستعمار المتعاقبة،بدءا ًبالرومان وصولاً الى الاستعمار الفرنسيّ، أفقدته سيادته و أُقصي عن المشاركة في بناء وتسيير الدولة ووضعِ أسسها ومعالمها، عملت جميعها على طمس هويته، و لكن رغم كل ذلك احتفظ بهويته من انتماء و لغة و دينٍ، و عرف وحدة و تكاملا شعبيا حقيقيا بعيدا عن الصراعات الإثنية و الطائفية.
ولعلّ أول من خاض و وظف مسألة الهوية كان الاستعمار الفرنسي في اطار حملته الاستيطانية المبنية على سياسة “فرِق تسد”، فحارب العنصر العربي بالأمازيغي قبل ثورة المقراني عام 1871 ثم حارب الامازيغي بالعنصر العربي خلال القرن 19 وبداية القرن العشرين بعد ميلاد و تصاعد القومية العروبية بالمشرق بدعم فرنسيي ثم حارب العنصر العربي بالعنصر البربري بعد الحرب العالمية الثانية.
فأولد بذلك صراعا لدى النخبة ثم انتقل الى الحركة الوطنية السياسية، إلا أن ذكاء مناضلي المنظمة الخاصة التى تولدت عن حزب الشعب الجزائري كان اكبر من دهاء الفرنسيين، لما ّتجاوزوا الجدل بإعلان حرب تحريرية جزائرية لا شرقية و لا غربية. فاِلتف الجميع حولها محققة الإنتصار المنشود، استرجعت الجزائر سيادتها بعد قرون من الإستبداد.
لكن المجموعة التى استحوذت على السلطة عقب الاستقلال انتهجت نفس مسار السياسة الاستعمارية، فواجهت خصومها من المعارضين السياسيين و البربريين (قبايل، مزابيين وشاوية) بتبنيها سياسة الإقصاء و القمع باسم القومية العروبية في عهد الحزب الواحد.
و بعد تبني الجزائر التعددية السياسية، واصلت على نفس النهج، فحاربت الامازيغية بالإسلاميين و العروبيين في اواخر القرن العشريين، كما واجهت الإسلاميين المتشددين ببعض السياسيين المدافعين عن الأمازيغية لإجهاض المخطط والمشروع الاسلاموي ومكافحة الارهاب، في اطار سياسية ” فرق تسد”.
وشهدت بداية القرن الواحد والعشرين مغادرة العديد من الوجوه السلطة الفعلية في البلاد، الذين كانوا يلعبون بملف الهوية و وتر الجهوية منذ الاستقلال، وتراخي ايديولوجية القومية العربية، تزامن ذلك مع نضج الطبقة السياسية بعد فترة من تجربة التعددية و تقبلهم لبعضهم البعض على الصعيد السياسي، باختلاف انتماءاتهم الفكرية، كلها ظروف جعلت مسألة الهوية تأخذ مجراها الطبيعي بتقبل الجميع العناصر المشكلة للهوية الجزائرية.
فماهي هذه التطورات و التداعيات التى عرفتها مسألة الهوية في الجزائر؟
للإجابة عن الاشكالية ،تعرضت (أولا) للموقف الشعبي من الهوية أثناء الاستعمار الفرنسي ثم الى توظيف المسألة من طرف السلطة الاستعمارية ثم والنخب الوطنية في اطار الصراع الإيديولوجي، وبعد الاستقلال لم يفصل في المسالة فواصلت السلطة توظيفها و نتج عن ذلك عدة تداعيات ( ثانيا)، وبعد تجربة التعددية و حدوث تغيرات على مستوى اعلى هرم السلطة ، وجدت مسألة الهوية طريقا نحو الحل، بالاعتراف المتبادل لعناصر الهوية من سلطة و نخب فكرية وأحزاب سياسية، لتتوافق مع الطرح الشعبي (ثالثا).
1- التكامل الشعبي للهوية الجزائرية :
إذا تأملنا في مكونات الشعب الجزائري الظاهرة بعيدا عن الإيديولوجيا و التعصب العرقي و الديني ، فإننا نتحدث عن ثلاثة عناصر تميز المجتمع ، وهي اللغة و الدين و العادات.
أ- ثنائية اللغة :
يظهر حاليا من خلال الاحتكاك بالمجموعات السكانية من الشرق الى الغرب و من الشمال الى الجنوب وبين المناطق النائية من جبال وصحاري و بين الأرياف و البوادي و المدن أن اللغات التى يتحدث بها السكان هي الأمازيغية بلهجات متنوعة من منطقة الى أخرى، و العربية العامية بلهجات مختلفة من منطقة لأخرى ،أما بالنسبة للمتعلمين نجد منهم من يكتب و يقرأ بالعربية الفصحى و بدرجة أقل باللغة الفرنسية، أما اللغة الأمازيغية فيكتبها فئة قليلة بسبب شفويتها وعدم التكفل بها من قبل الدولة إلا بعد 1995، و ما يميز هذه اللغات وجود مفردات مشتركة بيها جميعا نتيجة للإحتكاك اليومي و العلاقات المتينة بين هذه الفئات السكانية.
وإذا عدنا الى الوراء قرنين أو ثلاثة من الزمن نجد نفس لغات التواصل بين الجزائريين، و يقع الإختلاف في لغة الكتابة، فالكتابة لم تكن منتشرة في أوساط الشعب فالأدب و الشعر و الرواية كان شفويا لدى الناطقيين بالأمازيغية و كذا المتحدثين بالعامية، أما الكتابة باللغة العربية فقد كانت منحصرة لدى رجال الدين في المساجد و الزوايا و القضاة و الخوجات الذين نصبهم الأتراك لخدمة مصالح الدولة العثمانية، ماعدا فئة من السكان تعلموا العربية لحاجة دينية متمثلة في قراءة القرآن و حاجة ادارية و قضائية تتمثل في توثيق العقود وتحرير الأحكام بالخط العربي المشرقي أو العثماني أو الأندلسي.
اما المناطق الناطقة بالأمازيغية، فلم تصلنا كتابات باللغة الامازيغية (التيفناغ)، ما عدا النقوش الحجرية المنحوتة بخط التيفناغ و الموروثة عن العصر الليبي والنوميدي، أما كتابة الامازيغية بالخط العربي فهذه الوظيفة كانت يستأثر بها رجال الزوايا من مرابطين و “أشراف”، و فيها نجد من العوام من يحفظ القرأن لكن دون القدرة على فهم اللغة العربية الفصحى أو كتابتها ، أو استنباط معاني القرآن.
ب- وحدة الدين :
لقد اعتنق الشعب الجزائري الديانة الإسلامية بعد غزو شمال افريقيا فيما يسمى الفتح الإسلامي، فانتشر الإسلام تدريجيا في أغلب المناطق ليحل محل الديانة الوثنية و المسيحية واليهودية سواء بفعل العوامل السياسية (الفتوحات وقيام الدويلات) و التبادلات التجارية بين المشرق والمغرب والتجارة الداخلية ثم ازدهر بعد طرد الاندلوسيين من اسبانيا، و تم الاعتناء به طواعية بدليل أن أغلب المساجد والكتاتيب التى انشأت كان بناءها على يد السكان و تمويل الخيريين، ونفقات تسييرها و انتداب المشايخ فيها من اختصاص العرش أو الجماعة فأصبحت املاكا وفقية يشترك فيها الجميع. و لم يكن دور هذه المنشئات الدينية للعبادة فحسب، بل كان أيضا فضاءا لحفظ القرآن و الفصل في الكثير من القضايا والنزاعات.
ت- تنوع العادات والتقاليد :
لقد حافظ الشعب الجزائري على بنيته الاجتماعية رغم تعدد ويلات الاستعمار على مدى قرون، فنجد أن الكثير من المناطق ما تزال تحتفظ بالنظام القبلي و العشائري الذي امتدت جذوره في العصر النوميدي، و امتزج مع الإرث الاسلامي، فخلق نمطا اجتماعيا خاصا بالجزائر و شمال افريقيا . سواء من حيث تسيير القبيلة او المدينة، و النظام القضائي و العادات الاجتماعية، بدرجات متفاوتة، فتشترك أغلب المناطق في اللباس كالقشابية و البرنوس و العمامة للرجال وتنوع في الجبة والحلي للنساء بين المناطق، و تشترك في الأطباق التقليدية كالكسكس و الرغيف، كما تشترك في عادات الزواج و الختان و الاحتفال بيناير راس السنة الامازيغية و المولد النبوي و عاشوراء و الصيام و الاحتفال بالعيدين الكبير و الصغير، كما تشترك في النشاط الاقتصادي لا سيما الرعي وتربية المواشي مع اختلاف بين الشمال و الجنوب. أما الفلاحة فلكل منطقة خصوصياتيا الزراعية من السهول الى الجبال الى الصحاري، لكنها تتكامل من حيث الاحتياجات. أما بخصوص الفنون فنجد تنوعا ثقافيا ثريا و طبوعا غنائية مميزة لكل منطقة متزجة بين الفن الامازيغي و الاسلامي.
اما حاليا ومع التطور والتمدن و الانفتاح على العالم الخارجي، اختلفت درجات المحافظة على هذا الموروث الثقافي والاجتماعي والتقليدي من منطقة الى اخرى، فبرزت انماط معيشة دخيلة، تتصارع من جهة بين الاصالة و العصرنة، و بين عادات المشرق العربي و عادات الغرب من جهة اخرى من خلق وملبس و مآكل و تزاوج و تربية و غيرها بفعل الايديولوجيا و الغزو الثقافي الديني و العلماني.
فنستخلص مما سبق أن مشكلة الهوية لم تكن مطروحة على المستوى الشعبي الإجتماعي، فقد عرف تكاملا بين العناصر الثلاثة، فشكلت تنوعا لغويا و ثقافيا موحدا للشعب الجزائري.
2- الإستغلال الايديولوجي في مسألة الهوية في عهد الإستعمار الفرنسي :
لم تقتنع فرنسا بالإستحواذ على أراضي و أملاك الجزائريين وقطع رقاب الملايين منهم فقط بل تجاوز ذلك الى محاولة هدم الشخصية الجزائرية من الوجود، من خلال محاربة اللسان الجزائري الناطق بالأمازيغية و العربية، ومحاربة العقيدة الإسلامية، و لم يكن ذلك فقط برفض اللغة الفرنسية و الديانة المسيحية فحسب، بل تجاوز ذلك بزرع الفتنة بين أفراد و مكونات الشعب الواحد عن طريق محاربة كل عنصر بآخر.
أ- جذور ايديوجية الهوية :
لم تكن مسألة الهوية مطروحة قبل الاحتلال الفرنسي، فأغلب المخطوطات و الكتابات العربية و اللاتينية قبل الاستعمار لم ترد عن حدوث صراعات اثنية أو طائفية بين الجزائريين بسبب اللغة أو الدين، ولم تكن متفقة على تسمية موحدة للشعب الجزائري، فكثيرا ما نجد مثلا في المخطوطات والخرائط المرسومة باللاتينية و الإسلامية تسمية المنطقة بالشمال الافريقي (تسمية جغرافية)، بلاد البربر (تسمية إثنية)، بلاد المغرب (نسبة للإنتماء الاسلامي)، الجزائر… وكانت التسمية المشاعة و المتفق عليها في بداية الاحتلال هي (الأهالي المسلمين – indigènes musulmans) وهذا ما نجده في النصوص و الوثائق الرسمية للسلطة الاستعمارية.
وما بعد أن بدأت فرنسا تبسط نفوذها على المنطقة، حتى ظهرت عدة تسميات تداولها الضباط العسكريين ثم المدنيين (من حكام و رجال الدين و الأكادميين)، أولها كان : الأهالي المسلمين ، ثم انتقلت الى التمييز بين مجموعتين اثنيتين هما : القبائل (لفظ القبائل كان يقصد به الأمازيغ بصفة عامة) و العرب، ثم العرب و البربر، وهذا ما ورد في كتابات العسكريين الأوائل كالجنيرال دوفيفي – Duvivier في سنة 1841 و العقيد دوماس – Daumas في 1844، اللذين يعتبران أن الجزائر مشكلة من عنصرين هما : العنصر العربي و العنصر القبائلي (البربري). و منهم من ذهب للبحث في الفوارق بين العرب و البربر من حيث الشكل و الذكاء و القدرة على الاندماج مع السياسية الاستعمارية.
عملت هذه السياسة الاستعمارية على زرع بذور التفرقة بين ابناء الشعب الجزائري، بخلقها كل من الأسطورة البربرية و الأطروحة العروبية، و قد عبر عن هذه الفكرة العقيد كاريت ،الذي قال : ” من المستحيل ان يتحالف القبائل مع العنصر العربي، لأن العرب انتصروا على القبائل وطردونهم الى الجبال …”
ب- ظهور ايديولوجيا ” الأمة العربية” المتنكر لإنتماء الأمازيغي كبديل لـ” الأمة الاسلامية” :
إن فكرة العروبة كايديولوجيا أولتها فرنسا الاستعمارية بهدف البحث عن منافذ للسيطرة على شمال افريقيا و المشرق،ثم استغلتها لتعريب المناطق البربرية الثائرة ضدها كسياسة انتقامية،ولكن مع انتشار القومية العربية بالمشرق وظهور الحركات التحررية، خشيت فرنسا من قدومها الى الجزائر بعد الحرب العالمية الثانية فحاولت مقاومتها بالبربرية كما حدث في المغرب ثم الجزائر.
ت-
أولا : العروبة فكرة فرنسية :
ولعل أول من استعمل مصطلح “الأمة العربية” كان “نابليون الثالث” الذي احتك كثيرا بالأمير عبد القادر أثناء اقامته بفرنسا، لما أراد أن يؤسس لما يسمى ب”المملكة العربية “التى تمتد من المغرب الى المشرق تكون تحت وصايته سنة 1863، لكن هذه الفكرة لم يكتب لها النجاح بعد رفضها من طرف المجلس الفرنسي، وكانت الإدارة الاستعمارية الدنية أول من أنشأ ما يسمى ب : “المكاتب العربية – bureaux arabes” في الأقاليم وذلك بعد القضاء على ثورة المقراني 1871، ثم عمل على تعريب اسماء العديد من القرى و المدن في المناطق الأمازيغية ، و فرض ألقاب عربية على الأهالي في نفس المناطق سنة 1891، أي محاربة الأمازيغية بالعروبة.
و تتجلى سياسة التعريب أيضا في السياسة المدرسية حيث الى غاية 1870 تم تأسيس أكثر من 30 مدرسة عمومية ابتدائية (فرنسية – عربية) و ثلاث ثانويات ( فرنسية – عربية) على نفقة الدولة، وهناك من المعمرين و الصحافة من انتقد هذا النوع من المدارس المختلطة. و بخصوص تعليم اللغة العربية اصدر جول فيري – Jules Ferry تعليمات سنة 1880 قائلا فيها “ليس في نيتنا تدمير اللغة العربية في الجزائر” وهي محاولة لإستدراك المعربين الى جنبهم ضد البربر.
كما تقرر سنة 1895 منع التحاق الأهالي بمهنة القضاء إذا لم يكن قد دخل المدارس العربية، الامر الذي شجع الكثير من المتعلمين التوجه الى الازهر او القروين او الزيتونة والعودة بشهادات في العربية قصد توظيفهم من طرف الإدارة المدنية في القضاء و الأمن. و بخصوص الدراسات الجامعية تشير الاحصائيات لسنة 1914 أن عدد المجازين في اللغة العربية كان 33 مقابل 3 في اللغة الامازيغية.
ثانيا : التحول نحو الإيديولوجية العروبية :
و مع بداية القرن العشرين بدأ ما يسمى بالقومية العربية في المشرق في الانتشار كمشروع لمواجهة بقيا الخلافة الاسلامية العثمانية في كل من السعودية و سوريا و مصر و لبنان، لا سيما بعد ظهور نخب جديدة من المشارقة في فرنسا و جونيف ترى فكرة الوحدة العربية panarabisme كبديل لمشروع الأمة الإسلامية الفاشل panislamisme. وحسب دعاتها أن المشرق يوحده اللغة العربية (العروبة) كعامل نهضة و يفرقه الدين الإسلامي بسبب وجود ديانات أخرى كالمسيحية و اليهودية، وهناك من الفرنسيين المهتمين من رأى أن القومية العربية ستصل لا محالة الى دول شمال افريقيا بسم الروح القومية، وتمكنت من عقد أول مؤتمر عربي سنة 1913 في باريس تحت نفوذ السوريون و اللبنانيين المقيمين بفرنسا، وقد صرح شكيب ارسلان : ” العالم العربي من الخليج الى الاطلسي بدأ يدرك وحدته العقائدية و الثقافية، وكانت العروبة و الوطنية تسيران جنبا الى جنب و أنهما ايديولوجيتين تعتمد على الوحدة اللغوية والعرقية و الدينية ” وكان شكيب ارسلان المقيم في جونيف ينشر دعايته من هناك من خلال مجلته “الوطن العربي – La nation arabe ” ذات الانتشار الواسع في المنطقة المغاربية.
و قد نظم شكيب ارسلان مؤتمر القوميين العرب عام 1930 بمدينة القدس و ناقش هذا المؤتمر خطورة القضية البربرية بالمغرب، حيث كانت الجزائر الى ذلك العهد ، عكس المشرق يوحد شعبها الدين الاسلامي و ثنائية اللغة (الأمازيغية و العربية) في الأوساط الشعبية في المدن و الأرياف، و لكن نتيجة احتكاك بعض المثقفين الجزائريين بزملائهم بالمشرق و الجامعات الفرنسية تمكنت هذه النخب من الانضمام الى المشروع، لاسيما بعد الحرب العالمية الاولى وبدأت في نضالهما و التعبئة حول “مشروع العروبة” على حساب الانتماء الإمازيغي من أجل تجسيده في الجزائر كبديل للمشروع الاستعماري. من الرواد الاوائل لهذه الايديولوجية العروبية : التوفيق المدني، بن باديس، مبارك الميلي، الطيب العقبي، برعاية وغض النظر الإدارة الفرنسية…
ثالثا : العروبة اداة لمحاربة الأمازيغية بالوكالة :
وقد عمل ابن باديس و اخوانه مرارا التأكيد منذ 1925 على التأكيد بإيمانهم بعروبة الجزائر، و شخصيتها العربية و الاسلامية عبر شعارات الامة والشعب و الوطن و القومية وهي الفاظ استعارتها من الصحافة العربية بالمشرق، وكان ابن باديس شديد التواصل مع شكيب ارسلان ويراسل ايضا مفتي القدس الشيخ امين الحسني رئيس اللجنة التنفيذية الدائمة للمؤتمر الاسلامي الذي تحول فيما بعد الى جامعة الدول العربية.
وكانت المنشورات الصادرة عن الاصلاحيين تجمع دوما بين التأثير بمآثر التاريخ العربي الاسلامي ومآثر المغاربة والجزائريين، وقد ظل ابن باديس يكرر لتلاميذه : إن شمال افريقيا واحدة وهي وطن واحدا و وحيدا بفضل اللغة العربية والعقيدة و التاريخ والمصالح”، فربطوا الدين باللغة العربية الى حد اعتبار من لا يتكمل بها كفرا، وهذا ما ذهبت اليه جمعية العلماء في احدى مقالاتها : ” أن كل من يبتعد عن اللغة العربية يبتعد عن عبادة الله و أن كل من يبتعد عن عبادة الله حق عليه عذاب أليم”.
وأخطر من ذلك أقامت بحملة ضد الكاتب والأديب محند سعيد بوليفة – Boulifa الذي كتب مؤلفه المشهور “تاريخ جرجرة” سنة 1925، واتهموه بتزيف التاريخ، ونفس الموقف ضد هنساي لاهماك – Hesnay-Lahmek الذي نشر كتاب “رسائل جزائرية” و الذي تناول فيه مآثر البربر الذين أنجبوا مسينيسا و يوغرطة و سانت اغسطس الذي كتب أنه : “يشعر بالانتماء الى هذا الاخير اكثر من الانتماء الى عقبة بن نافع”.
ومن التصريحات العنصرية نذكر ما ذهب اليه توفيق المدني الذي صرح قائلا : “أن بلاد الزواوة اصبحت اليوم في خطر جسيم في نظر الدين و اللغة العربية وجب القيام بفتح ديني جديد”.
وأمام تعاظم المدافعين عن الهوية البربرية، رد عليهم اين باديس قائلا : ” لقد وحد الاسلام منذ أكثر من عشرة قرون بين أحفاد مازيغ ويعرب “، أما أحمد توفيق المدني فقد سعى جاهدا في تفسير و تأويل مقدمة ابن خلدون للتأكيد أن أصل البربر والعرب واحد وهم أبناء عمومة.
وفي هذا الإطار يمكن القول أنه و دون البحث في نوايا المثقفين العروبيين بخصوص دفاعهم المستميث عن العروبة و العربية، إلا أنهم عملوا جاهدين على طمس وانكار بل أحيانا محاربة الهوية الأمازيغية عن قصد أو عن غير قصد، كانت متوافقة مع الأطروحة التى نسجتها فرنسا، و المستفيد الأكبر كانت فرنسا الاستعمارية.
ث- ظهور النزعة البربرية لمواجهة المشروع العروبي :
وظفت فرنسا المسألة البربرية بهدف استدراج القبائليين الى جانب المحتليين خلال فترة ما قبل انتفاضة القبائل عام 1871، ثم تراجعت بعد ذلك لصالح الاطروحة العروبية كرد فعل ضد القبائل الثائرين، ثم عادت الى المسألة بعد الحرب العالمية الثانية سنة 1945 نتيجة لتحالف القوميين العرب مع النازيين الألمان.
أولا : تفضيل العنصر البربري قبل ثورة فاظمة نسومر والمقراني
حيث يعترف العديد المؤرخين أمثال شارل روبير اجرون بوجود مايسمى بالأسطورة القبائلية في سنوات 1837 الى 1857، والتى عمل بعض الفرنسيين ترويجها بدءا من 1863 لمواجهة مشروع “المملكة العربية” لنابليون الثالث، والتى كان الدكتور فاريني warnier يسميها الخوف من العروبة “العروبومانيا”.
وعملت الادارة الاستعمارية في البداية بتزويد منطقة القبائل بتنظيم اداري خاص يرتكز على المؤسسات العرفية مثل : ثاجماعث، و تم ومنح السلطة القضائية الى ثجماعث، و القانون المطبق يتجسد في القانون العرفي، و كذلك منطقة المزاب وقد سعى بعض الضباط أمثال هانونتو الى تعميمه على كل بربر الجزائر. أما بخصوص اللغة الأمازيغية، فقد استحدثت الإدارة الفرنسية عام 1882 منحة دراسية للموظفين الراغبين في تعلم اللغة الأمازيغية، وفي عام 1885، تم انشاء كرسي للهجات البربرية بكلية الآداب بالجزائر.
ثانيا : محاربة الهوية الأمازيغية بالعربية والعروبية
و سرعان ما تراجعت هذه الاسطورة، بعد أن تيقن للفرنسيين أن القبائليين قوم لا يمكن ترويضه، فألغت سنة 1890 نظام “ثجماعث “القضائي، وفرضت على السكان “القضاء الفرنسي”، و الذي قاطعه أهالي المنطقة و لمدة طويلة، كما ألغت النظام الاداري التقليدي لشيخ القبيلة. و قد كتب شارتريو في مجلة دراسات جزائرية سنة 1893” يوجد وهم يجب القضاء عليه، ويتجسد الوهم الذي افرز التمييز بين العرب و القبائل “و خلص القول أن ” فرط اهتمامنا بالقبائليين سوف تنتهي الى الاتجاه للشعب البربري بوعي تاريخي، و لا شيئ يمنعهم حينئذ من رمينا في البحر “.
و عملت الادارة الاستعمارية في اواخر القرن 19 و بداية القرن 20 على فرنسة ما يمكن فرنسته و تعريب ما يمكن تعريبه، فبعد ان اصبحت الادارة مفرنسة، عملت جاهدة في المجال القضائي الى اصدار الاحكام القضائية بالفرنسية او العربية فقط بعد ان كان في وقت سابق تصدر بالامازيغية وفقا للقانون العرفي، وفي عام 1913، اعترف البروفيسوران Doutté و Guautier بتراجع مكانة اللغة البربرية والناطقين بها مقابل انتشار واسع للغة العربية لاسيما في منطقة الاوراس و القبائل، حيث يعترف الاستاذان أن تقهقر الامازيغية حل مكانها اللغة العربية وليس الفرنسية. وقد صرح مسؤول شؤون الاهالي بمدينة الجزائر في نفس السنة : ” ان الجزائر المسلمة تشكل كتلة، و لم يكن البربر اكثر قربا الى فرنسا من العرب” وهناك من قال حسب اجيرون ان الادارة الفرنسية اسلمت و تعربت.
حيث لما بدأ تعاضم التيار العروبي في المشرق، و تبنيه من قبل عدد من قادة الحركة الوطنية في التيار الإصلاحي كإبن باديس و البشير الإبراهيمي والعربي التبسي من جمعية العلماء المسلمين و بعض قادة حزب الشعب الجزائري، تنبهت فرنسا لخطورة مشروع ” الأمة العربية ” بعد التطورات التى طرأت في المشرق من حركات تحررية تمكنت من القضاء على الخلافة العثمانية الاسلامية، فلجأت فرنسا الى محاربة هذه الإيديولوجيا القومية العربية عبر صحافتها بنشر دراسات تؤكد “أن الجزائر ليست عربية و لا تنتمي إليها و أن لا لهذه القومية أي حق طبيعي على شمال افريقيا و أن أصل سكانها أمازيغي “.
ثالثا : الأزمة البربرية أو أزمة معاداة البربرية (1948-1949)
واما عند النخب الجزائرية فقد انقسمت على نفسها ، ففي تلك المرحلة اشتد تصاعد التيار العروبي لدى البعض معلنا و لائه للمشرق العربي متنكرا للبعد الأمازيغي للشعب الجزائري عبر الصحافة و الكتب و اشهرها مقولة الشيخ ابن باديس : ” شعب الجزائر مسلم و الى العروبة يتنسب” و ظهر الرفض و المقاومة لدى البعض الأخر لاسيما في صفوف الطلبة ابتداءا من سنة 1945، الذين كان أغلبهم من التيار الاستقلالي “حزب الشعب الجزائري” و منخرطي الكشافة الاسلامية الجزائرية عبر كتابة أناشيد و قصائد ثورية باللغة الأمازيغية تدعوا الى الإستقلال و اتحاد شمال افريقيا اشهرها ” Ekker a mis umazigh itij ennagh youli” بالعربية تعني ” استيقض يا ابن مازيغ شمسنا اشرقت”.
وفي اواخر 1948، أرسلت قيادة حزب الشعب حركة انتصار الحريات الديمقراطية بيانا من 50 صفحة الى الامم المتحدة نصت فيه على أن ” الجزائر أمة عربية و إسلامية منذ قرون”، وقد قام مصالي الحاج بذلك تحت ضغط كل من عزام باشا امين عام الجامعة العربية و شكيب ارسلان اللذان يحلمان بانشاء امبراطورية عربية اسلامية. هذا التقرير لقي معارضة شديدة من قبل المناضلين التقدميين بالحزب الذين يرون ذلك تزييف للتاريخ، و ان الامة الجزائرية موجودة قبل مجيء الاسلام، وان الامازيغ موجودين قبل الاف السنين. وفي هذا الحراك ظهر سنة 1949 ما يسميه العروبيين بـ” الأزمة البربرية ” أو “أزمة “معاداة البربرية ” لدى دعاة البربرية.
وتتلخص أصل الأزمة في توجيه بيان يحمل تسمية “الجزائر الحرة ستعيش “من طرف مجموعة من الطلبة منهم : رشيد على يحي، بلحوسين مبروك، هنين يحيى صادق هجرس، سعيد اوبوزار، الى قيادة حزب الشعب الجزائري يرفض فيها النص على ان ” الجزائر عربية” في وثائق حزب الشعب و يقترحون كبديل ” الجزائر جزائرية “. و قد استغل مصالي الحاج القضية لوضع حد لضغط المنظمة الخاصة التى تنادي بالاستعجال لتفجير الثورة و على رأسها حسيين أيت أحمد، فوقعت المحاكمة الشهيرة لحسيين أيت أحمد من طرف قيادة الحزب التى أدت الى تنحيته من على رأس المنظمة الخاصة بعد أن أعرب عن تضامنه مع موقعي البيان من حيث المبدأ و اختلافه معهم من حيث التوقيت، كونه في أتم الإستعداد لتفجير الثورة.
وبخصوص تلك الأزمة علق عليها حسين أيت أحمد في احدى كتاباته قائلا : ” لقد فضلت أن تكون الجزائر عربية على أن تكون فرنسية، لكن وجدت من أرادها أن تكون فرنسية على أن تكون أمازيغية “.
رابعا : موقف بيان أول نوفمبر و مؤتمر الصومام من مسألة الهوية
تقرر تفجير الثورة من طرف مجموعة من الشباب الذين كانوا مناضلين في حزب الشعب الجزائري و المنظمة الخاصة، رغم تكوين غالبيتهم من المدارس الفرنسية، إلا أنهم كانوا أكثر تصميما على التحرر و الاستقلال، و بفضل حنكتهم و احساسهم بالمسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقهم، تنبهوا لعدم الخوض في الهوية و الايديولوجيات المرتبطة بها، و اكتفوا بالعنصر التى يشترك فيها كافة الشعب الجزائري و هو الإسلام ، حيث نص بيان أول نوفمبر على : ” اقامة جمهورية جزائرية ديمقراطية في اطار القيم الاسلامية “. أما المسائل الأخرى المرتبطة بالهوية فد تركت لما بعد الاستقلال، الأمر الذى أدى الى التفاف الجميع حول الثورة تدريجيا، و إن كان العروبيين في البداية كانوا حذرين من مشروع الثورة بسبب عدم معرفتهم لقيادتها.
لكن حرب التحرير عرفت انزلاقات في مسارها لاسيما كان اغتيال العديد من المناضلين من أجل القضية الأمازيغية في ظروف غامضة، منهم : بناي وعلى، مبارك أيت منقلات، ولد حمودة، أوصديق …
3- مسألة الهوية الجزائرية بعد الإستقلال :
أ- سيطرة الإيديولوجية العروبية خلال مرحلة الحزب الواحد :
أولا : بداية الصراع بين المعربين و المفرنسين داخل السلطة
بمجرد ان وضعت حرب التحرير أوزارها، وانتزاع الجزائر استقلالها سنة 1962 بقوة السلاح، ظهرت صراعات حادة بين قيادات الثورة، و تأجج الصراع بين السياسيين والعسكريين و بين قيادة الداخل والخارج، فكانت الغلبة باستحواث جماعة وجدة على السلطة بدعم من المصريين بانقلابها على المؤسسات الشرعية، و نصبت أحمد بن بلة رئيسا للجمهورية. تمكن هذا الأخير فرض دستوره سنة 1963 بعد أن نزع صلاحية اعداد الدستور من المجلس التأسيسي المنتخب، الذي يقوم مشروعه على السياسة الأحادية : حزب الواحد، دين واحد، لغة واحدة، قضاء واحد، نقابة واحدة، رافضا أية تعددية سياسية و لغوية و نقابية في المجتمع ،لكن أحمد بن بلة لم يلبث في السلطة حتى انقلب عليه ذراعه الأيمن هواري بومدين قائد الأركان سنة 1965.
وبعيدا عن الخلافات السياسية بين التيارات، كان تولي المناصب في بداية الأمر بين المعربين و المفرنسين حسب مؤهلاتهم في المؤسسات الحكومية من أعلى هرم الدولة الى القاعدة، فاستحوذ الكثير من المفرنسين على أهم المناصب الحساسة في الدولة كوزارة الداخلية وزارة الخارجية، وزارة الإقتصاد و الطاقة، الجيش، أما النخبة المعربة فاكتفت بمناصب في وزارة الشؤون الدينية و التربية و الثقافة، عكس ذلك في هياكل الحزب كانت المناصب توزع بين المفرنسين والمعربين بحسب الولاء للنظام القائم، إلا أن التنافس كان شديدا بين النخبتين.
ثانيا : انتصار التيار العروبي داخل السلطة واقصائه للبعد الأمازيغي من الهوية الوطنية
لكن سرعان ما بدأ التصادم بينها بعد وضوح معالم سياسية الرئيس هواري بومدين، وانضمامه الى القومية العربية، واعتماده على التيار العروبي للقضاء على خصومه الذين كان أغلبهم من المفرنسين، فكانوا سندا له داخل دواليب السلطة.
إنطلقت عملية التعريب بالجزائر في 5 يوليو 1963 على يد الرئيس الرئيس أحمد بن بله والذي رفع شعار “التعريب ضروري ولا اشتراكية بدون تعريب ولا مستقبل لهذا البلد إلا في العروبة”، ثم واصل الرئيس هواري بومدين (1965-1978) تطبيق السياسات الخاصة بالتعريب إذْ وقع مرسوما يوم 26 إبريل 1968 يلزم كل الموظفين الجزائريين بأن يكونوا على “معرفة كافية باللغة الوطنية العربية عند توظيفهم.
ولأجل ذلك انتهج سياسة التعريب بالقوة مستنجدا للمصريين و السوريين، ففرض اللغة العربية بديلا للغة الفرنسية في التعليم، و سعى الى تعريب المؤسسات من القضاء والإدارة والصحافة والتلفزيون و النشاطات الثقافية من أدب و مسرح و غناء، مبقيا على المؤسسات الحساسة باللغة الفرنسية خدمة لمصالحه مقابل تهميش الإبداع الشعبي الأمازيغي، و كذا الأدب المفرنس الذي يعتبرونه أدب أجنبي، وتجسد ذلك خاصة هذا الإقصاء في الميثاق الوطني ودستور 1976، و في هذا الشأن نذكر بالمقولة المشهورة للاديب كاتب ياسين الذي عارض سياسة التعريب الذى قال : ” إذا كنا عربا ،فلماذا التعريب، و إذا كنا لسنا عربا ، فلماذا تعربوننا ؟”.
وفي هذه المرحلة وجد التيار العروبي المعشعش في دواليب الدولة الموالي للمشرق فضاءا خصبا لنشر أفكاره و مشروعه النهضوى على حساب الامازيغية، فأقصى البعد الأمازيغي من الحياة الوطنية من جهة و كما همش المؤسسات الدينية الإسلامية التقليدية كالزوايا .
ثالثا: تنامي التيار الأمازيغي وربط مسألة الهوية بالديمقراطية وحقوق الإنسان
و بالمقابل ظهر على مستوى المدافعيين من اجل الثقافة واللغة الامازيغية ثلاث فئات من المناضلين بأدوار متنوعة، الفئة الاولى تمثلت في النخبة و الجامعيين التى لجأت للعمل في السرية بعيدا عن الأضواء على جمع التراث الأمازيغي القديم من تاريخ و أدب و على رأسهم مولود معمري، وشغل البعض منهم خارج الوطن في القضية أمثال بسعود محند اعراب و سالم شاكر. والتى رأت في ذلك أولوية.أما الفئة الثانية تجسدت في المناضلين السياسيين الذين ينشطون في السرية الذين يناضلون من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان الذين ربطوا مطلب الثقافة الأمازيغية ضمن الحقوق السياسية المبنية على التنوع الثقافي والتعدد اللغوى و السياسي للمجتمع الجزائري و يتجسدون في جبهة القوى الاشتراكية و الباكس ذو التوجه الشيوعي. و أخيرا الفئة الثالثة التى يمثلها الطلبة الذين كانوا في احتكاك مع الأكادميين الجامعيين والسياسيين من جهة ومن جهة أخرى مع الفنانين على المستوى الشعبي دورهم كان تعبئة وتوعية الجماهير والشباب بضرورة بعث هويتهم و الحفاظ على لغتهم و ثقافتهم بالاغنية الملتزمة و المسرح و الشعر ، وقد كانت الوسيلة الحاسمة التى تمكنت من مواجهة السلطة و التيار العروبي.
في أواخر الستينات قام مجموعة من المناضلين على راسهم بسعود محمد أعراب الذي انشق عن الأفافاس تأسيس جمعية ثقافية في باريس سميت بالأكاديمية البربرية سنة 1967،وكذلك جماعة الطلبة البربريين ب Vincennes و تعاونية Imdyazen. و كانت بداية الصدامات مع السلطة بمناسبة مشروع اثراء الميثاق الوطني سنة 1976، ثم منع العديد من النشاطات الثقافية بين 1977و 1979، ثم تأججت بعد تعيين الشاذلي بن جديد في منصب رئيس الجمهورية ، فيما يسمى بالربيع الأمازيغي سنة 1980 الذى شهد عدة مظاهرات سلمية في ولايات الوسط الجزائري بعد منع مولود معمري من القاء محاضرة بجامعة تيزي وزو حول الشعر القبائلي القديم، رافعة المطالب الثقافية و اللغوية الامازيغية، وربطها بالطالب السياسية كالديمقراطية و اطلاق سراح السجناء السياسيين و احترام حقوق الانسان، فكان رد السلطة عنيفا، و من أجل منع امتداد الاحتجاجات الى المناطق الأخرى من الجزائر وضفت اشاعات عبر صحافتها و الحزب مفاده حرق العلم الوطني و حرق المصحف الشريف من قبل المتضاهرين، وعرفت هذه الأحداث اعتقال العشرات من الشباب و الطلبة أمثال : سعيد سعدي ، سعيد خليل، جمال زناتي … الذين أسسوا فيما بعد الحركة الثقافية البربرية، لتتجدد المطالب سنة 1982 ، ثم 1985 بميلاد الرابطة الجزائرية لحقوق الإنسان جمعية أبناء الشهداء و ما أدى خلالها من اعتقال العديد من المناضلين و على رأسهم المحاميين : على يحى عبد النور والأستاذ مقران أيت لعربي والفنان فرحات مهني، والغريب في الأمر أن هؤلاء المعتقلين سوف يلتقون بقيادات من التيار الإسلامي في سجن البرواقية منهم علي بلحاج، لكن لا أحد من التيار العروبي تم اعتقاله خلال الثلاثين سنة التى تلت الإستقلال.
ب- عودة مسألة الهوية الوطنية الى الواجهة في ظل التعددية
بعد حوادث أكتوبر 1988 عرفت الجزائر عدة تحولات سياسية و اقتصادية و اجتماعية، تجسد بعضها في دستور 1989، حيث ألغى نظام الحزب الواحد و أٌقر التعددية السياسية و النقابية، وتخلى عن الاشتراكية و اعتمد اقتصاد السوق، لكنه أنكر التنوع الثقافي للمجتمع الجزائري و التعدد اللغوى له، فابقى اللغة العربية كلغة وطنية و رسمية و أهمل اللغة الأمازيغية ومكتفيا بالبعد الاسلامي و العربي للشعب الجزائري.
و في خضم الحراك الديمقراطي،في بداية التسعينات شهدت الساحة الوطنية تصاعد للتيار الإسلامي الساعي لإحياء مشروع الدولة الاسلامية من جهة، و تصاعد للتيار الديمقراطي المتبني لثلاثية عناصر الهوية الوطنية (الأمازيغية، العربية ، الإسلام) لا سيما بعد عودة كل من حسين أيت أحمد و محمد بوضياف الى الجزائر بعد ما يزيد عن 23 سنة من المنفى. ومن جهة ثالثة شهدت تراجع الحزب الواحد سابقا ومشروعه العروبي. وقد عادت القضية الأمازيغية الى الواجهة لاسيما بتاسيس حزب التجمع من اجل الثقافة و الديمقراطية و كذلك خروج جبهة القوى الاشتراكية من السرية، و اعادة تنظيم و هيكلة الحركة الثقافية البربرية و التى نظمت مسيرة حاشدة بالجزائر العاصمة في 25 جانفي 1990.
أولا : التوظيف السياسي للإسلام المتشدد وربطه بالهوية الوطنية
عرفت فترة السبعينات و الثمانينات من القرن الماضي تزايد نشاط الحركات الإسلامية في اطار ما يسمى بالدعوة والصحوة الإسلامية التى ترى أن السلطة انحرفت عن المنهج الإسلامي الصحيح، بسبب تبنيها للنظام الإشتراكي، انحراف الجزائريين عن ممارسة الشعائر الاسلامية، فأسست عدة رابطات و حركات دعوية، وبسبب احتكاكها بالحركات الإسلامية في افغانستان التى رفعت راية الجهاد بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية ضد الإتحاد السوفياتي، و في اواسط الثمانينات عادت الى الجزائر معلنة عن مشروع الإسلام السياسي، و رغبة من السلطة لتسهيل رقابة هذه الحركات أقدمت على اعتمادها رسميا و أهم الأحزاب السياسية التى نشأت على أساس ديني نذكر كل من الفيس و حماس والنهضة.
تعتبر هذه التيارات أن الجزائريين انحرفوا عن الدين الإسلامي الصحيح لعدة عوامل منها أن الزوايا و المؤسسات الدينية التقليدية لاتمثل الإسلام الصحيح، و أن الإستعمار الفرنسي طمس البعد الإسلامي للشعب الجزائر، كما أن السلطة القائمة منذ الإستقلال حاربت الإسلام، و أن المذهب المالكي لم يعد صالحا للشعب الجزائري، و أن ضرورة العودة الى السلفية، و يتجلى ذلك عن طريق إقامة دولة اسلامية أساسها العدل و المساواة.
هذا التيار عرف عنه معاداته للمفرنسيين و كذلك اللغة الفرنسية من جهة، ومن جهة أخرى يرى أن المسألة الامازيغية أطروحة كولونيالية تحركها أيادي اجنبية منها فرنسا. إزدادت قوة هذا التيار لاسيما بعد اعتماد أحزابه من قبل الدولة، وفوز الفيس باغلبية البلديات في الإنتخابات المحلية مستغلة في ذلك تذمر الجزائريين من سياسية حزب جبهة التحرير الوطني السابقة من جهة و من جهة أخرى الفراغ الروحي وعاطفة الجزائريين.
وخلال سنتين بدأت تفرض على المواطنين أنماط معينة من السلوكات كفرض الحجاب على النساء على الطريقة الإيرانية، ومنع الإختلاط في الأماكن العمومية، وتحريم الفنون من مسرح و سينما وغناء، و فرض اللحى و القمصان الأفغانية على الرجال. و هي مظاهر بعيدة كل البعد عن عادات و تقاليد الشعب الجزائري.
هذه السلوكات جعلت العديد من الدوائر داخل السلطة و الجمعيات و الأحزاب الديمقراطية تتخوف من مشروعها المستورد، الذي لا يمت بصلة للهوية الجزائرية الأصيلة. وبسبب التخوفات أقدمت الدولة على الغاء المسار الانتخابي (الانتخابات التشريعية) الذي فازت فيها الفيس سنة 1991، وتمت بعد ذلك بأيام اقالة الشاذلي بن جديد، و واستقدام محمد بوضياف لرئاسة المجلس الأعلى للدولة، فدخلت الجزائر في أزمة دستورية بسبب عدم شرعية المؤسسات، ثم رافق ذلك أزمة أمنية بدفع الفيس نحو التطرف والعمل المسلح ضد الدولة.
و في هذا الصدد عارض حسين أيت أحمد الغاء المسار الإنتخابي وقال بصريح العبارة : ” انني أعرف جيدا الشعب الجزائري، فنحن لسنا جمهورية ايرانية ” بمعنى أن لا أحد بامكانه أن يغير هوية الشعب الجزائري، فتصويته لصالح الفيس كان تعبيرا عن غضب من الأفلان ليس إلا.
عكس ذلك استنجدت السلطة بدعم بعض الأحزاب الديمقراطية لمواجهة المشروع الإسلامي المتطرف حسبها، من خلال ما يسمى بالكل الأمني، بعد أن استغلت في سنوات السبعينات والثمانينات التيار العروبي والإسلامي لمواجهة الخصوم السياسيين الذين كان أغلبهم من دعاة الامازيغية.
ثانيا: تصاعد النضال السلمي أجل الهوية الأمازيغية واتساعه
قام جناح من السلطة سنة 1989 بالدفع ببعض مناضلي الحركة الثقافية البربرية نحو تأسيس حزب سياسي للتكفل بالدفاع عن المطلب الثقافي، وفي نية أصحاب الفكرة كان محاولة منهم لتجريد الزعيم التاريخي حسين ايت أحمد وحزبه من معقله و الحد من نفوذه وسط الجماهير بتوظيف القضية الأمازيغية لكسب تعاطف المناضلين نحو برنامج الحزب الجديد، وهي أول خطوة نحو تسييس المطلب من قبل السلطة.
ازدادت الحركة الثقافية البربرية قوة و تأطيرا و نشاطا منا دفعها للمطالبة بترسيم اللغة الأمازيغية لغة وطنية و رسمية، و اعتبارها عنصرا من عناصر الهوية الوطنية،و قد تبنى هذه المطلب أساسا كل من الأفافاس و الإرسدى و حزب العمال، معتبرينها مطالب مشروعة للشعب الجزائري، مقابل اعتراض من طرف الأحزاب الإسلامية من الفيس و جاب الله و محفوظ نحناح بدعوى أن المطلب فكرة كولونيالية غربية، كما سبق و أن أشرنا سالفا.
و شهدت هذه المرحلة بخصوص المسألة الأمازيغية تنازلا طفيفا من طرف السلطة اتجاهها، حيث اعترفت ضمنيا بمشروعية مطلب الأمازيغية كعنصر من عناصر الهوية الوطنية من خلال السماح والترخيص للمسيرات المطالبة بالأمازيغية من خلال خطاباتها الرسمية، والموافقة على انشاء معهد اللغة والثقافة الأمازيغية بجامعة تيزي وزو سنة 1990، وتسمية جامعة تيزي وزو باسم الأديب مولود معمري. إلا أن أجنحة داخل السلطة عملت على عرقلة تكريس هذا المطلب بدعوى أن الظروف غير سانحة لذلك، ولكنه في الواقع كان بقصد توظيف الملف سياسيا مستقبلا لترتيب الساحة السياسية.
وتجدر الإشارة أن جبهة التحرير الوطني و الفيس وخلال حملتهم الدعائية للإنتخابية سنة 1991 و في ملصقاتهم استعملوا لافتات مكتوبة باللغة الامازيغية و خط التيفناغ لاول مرة.
وفي سنة 1995، نادت الحركة البربرية باضراب مفتوح عن الدراسة بمنطقة القبائل، تحول الى سنة بيضاء، تمكنت الحركة من خلاله افتكاك إنشاء المحافظة السامية للأمازيغية، ادراج اللغة في المدرسة، و ادخالها في التلفزيون العمومي لأول مرة بعد 32 سنة من الإستقلال.
و في نفس السنة وفي وثيقة العقد الوطني (لقاء روما) التى وقعها كل من حسين أيت أحمدعن الأفافاس و عبد الحميد مهري (أمين عام الأفلان)، أحمد بن بلة (رئيس جمهورية سابق) و الويزة حنون (حزب العمال) و جاب الله (النهضة) و أنور هدام عن الجبهة الاسلامية للإنقاذ ، و علي يحي عبد النور عن رابطة حقوق الانسان، ينص فيه الموقعون على أنه يجب أن تكون الأمازيغية لغة وطنية و رسمية ، وهو أول اعتراف للطبقة السياسية بالمطلب.
في سنة 1999 غادر اليامين زروال السلطة، و عوضه عبد العزيز بوتفليقة في منصب رئيس الجمهورية، في ظل ظروف داخلية ودولية معقدة، فأعلن عن مباشرة عدة اصلاحات، و لأول مرة يصرح رئيس جمهورية بعبارة : “نحن امازيغ” إلا أنه اشترط الإستفتاء الشعبي لإعتباره لغة وطنية ورسمية، وهو ما أثار حفيظة دعاة الأمازيغية و السكان الأمازيغ في الجزائر، فكيف يعقل أن يستفتى الشعب عن أصله و لغته؟
ولم تمر سوى سنتين 2001 من ذلك حتى اندلعت احداث الربيع الاسود مطالبة الإعتراف باللغة الأمازيغية لغة وطنية و رسمية، وكان رد السلطة عنيفا، راح ضحية الأحداث أزيد من 126 شاب قتل برصاص قوات الأمن و الدرك الوطني، دامت المواجهات ما يقارب العامين، لتتنازل السلطة و تعترف بالأمازيغية لغة وطنية الى جانب العربية سنة 2002 عن طريق تعديل الدستور عبر البرلمان. بتصويت كل من أحزاب السلطة و حمس، و معارضة من طرف جاب الله ذو التوجه الاسلامي، الذي اشترط كتابتها بالخط العربي.
ولأول مرة يتحدث مسؤول سامي في الدولة باللغة الأمازيغية، حيث ألقى رئيس الحكومة السيد أحمد أويحي خطابا أمام نواب المجلس الشعبي الوطني، وذلك في خضم الأحداث التى عرفتها منطقة القبائل .
4- التوجه نحو التعايش بين عناصر الهوية الوطنية
وفي 2011 عرفت المنطقة العربية أحداث الربيع العربي أدت الى سقوط الأنظمة البعثية العروبية في كل مصر وتونس و سوريا وقبلها العراق، وملاحقة الجهاديين الإسلاميين على المستوى الدولي، وعلى المستوى الداخلى شهدت الساحة السياسية صراعات في اعلى هرم السلطة، انتصر فيها جناح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، مما عزز مكانته وسلطة اتخاذ القرار.
وأمام الضغط المتزايد لحركة الحكم الذاتي التى اسسها سنة 2002 المناضل فرحات مهني بسبب تحريكها كل مرة الشارع القبائلي، هذا المشروع الذى تحول من المطالبة بالحكم الذاتي الى المطالبة بالإنفصال بسبب تجاهل الدولة للهوية الأمازيغية و عملها على قتل شباب المنطقة بالرصاص عام 2001 ، و في خضم هذه التحولات، قرر رئيس الجمهورية سنة 2016، أقدم مرة أخرى على تعديل ثاني للدستور عبر البرلمان، مدرجا فيه اللغة الأمازيغية لغة رسمية، و انشاء اكاديمية تتكفل بهذه اللغة. حيث نصت المادة الرابعة من هذا التعديل الدستوري على : ” تمازيغت هي كذلك لغة وطنيّة و رسميّة. تعمل الدّولة لترقيّتها وتطويرها بكل تنوّعاتها اللّسانيّة المستعملة عبر التراب الوطني. يُحدث مجمّع جزائري للّغة الأمازيغيّة يوضع لدى رئيس الجمهورية. يستند المجمّع إلى أشغال الخبراء، ويكلّف بتوفير الشروط اللاّزمة لترقية تمازيغت قصد تجسيد وضعها كلغة رسميّة فيما بعد...”
ولم يلق التعديل اي معارضة دخل دواليب السلطة و لا من طرف الأحزاب المحافظة و حتى الإسلامية ماعدا جاب الله الذي اشترط أن تكون مكتوبة بالخط العربي.
كما أقدمت رئاسة الجمهورية على منح وسام الأثير وهو أعلى وسام الدولة لمجموعة من الأدباء ومناضلي القضية الامازيغية ومنهم : لونيس أيت منقلات، مولود معمري، مفدي زكريا، وتنظيم مئوية ميلاد الأب الروحي للأمازيغية : مولود معمري,ومنح دكتوراه فخرية للفنان أيت منقلات بجامعة تيزي وزو.
و في هذا الصدد، أود أن أنوه للتحول الإيجابي في مواقف الطبقة السياسية و النخبة المعادية سابقا للهوية الأمازيغية، بعد نصف قرن من الإستقلال و ربع قرن من التعددية السياسية، فالجميع يعترف بالإنتماء للأصل الأمازيغي، يختلفون فقط بشأن كيفية كتابتها، فهم يدافعون عن كتابتها بالخط العربي أو التيفناغ، رافضين كتابتها بالخط اللاتيني، كما يتحفظون بخصوص إلزاميتها في التعليم. حيث يرون أن مكانتها في الدولة لا يجب ان تكون على حساب اللغة العربية.
إلا أن الملف لم يغلق و لا أعتقد أنه سيغلق، بتجدد المسرات و الإحتجاجات في ديسمبر 2017 في العديد من الولايات في كل من : بجاية ، تيزي وزو، سطيف، باتنة، بومرداس، العاصمة، البليدة، بسكرة… مطالبة بتفعيل ترسييم الأمازيغية و تعميمها على المستوى الوطني مع الزامية تدريسها، و بعد أسبوع من هذه هدوء والمظاهرات يعلن رئيس الجمهورية بتاريخ 27 ديسمبر عن اعتراف الدولة بيناير (راس السنة الامازيغية) عيدا وطنيا و الاعلان عن إستحداث اكاديمية اللغة الأمازيغية، وتم الإعلان عن سنة 2018 الجزائر سنة الثقافة الأمازيغية.
خاتمة :
– الجميع متفق أن الشعب الجزائري أمازيغي الأصل.
– كان الشعب قبل الاستعمار الفرنسي واثنائه وبعده ثنائي اللغة (امازيغية و عربية) وموحد الدين (الإسلام).
– عملت الإدارة الاستعمارية على تفكيك الهوية الجزائرية بمحاربة الأمازيغية باسم العروبة، ثم محاربة العروبة باسم البربرية.
– في بداية القرن العشريين ظهرت القومية العروبية كبديل لفشل الخلافة الاسلامية، ولقى المشروع تجاوبا لدى النخبة الوطنية المعربة .و تجسد خاصة بعد تأسيس جامعة الدول العربية سنة 1945 ، وتعديل النصوص الأساسية لحزب الشعب الجزائري الذي حدد هوية الجزائر بأنها أمة عربية إسلامية، و هو الطرح الذي رفضه جزء من مناضلي نفس الحزب.
– كانت الأزمة البربرية سنة 1949، أزمة سياسية في الحركة الوطنية، ولم تكن أزمة هوية، بمعنى أن الإستعمار فكك هوية الشعب الجزائري وحارب كل ابعادها الثلاثة.
– بيان أول نوفمبر ومؤتمر الصومام تحاشى الخوض في مسالة الهوية، و اكتفي بذكرالانتماء الاسلامي الموحد للجميع.
– بعد الإستقلال ظهر تنافس بين النخب المفرنسة و المعربة من تولي المناصب في مؤسسات الحزب و الدولة.
– استنجدت السلطة في الستينات و السبعينات من القرن الماضي بالعروبيين، في مخطط محاربتها للمعارضين السياسيين، فزرعت الفتنة بين النخبتين.
– وكرد فعل ضد للديكتاتورية و سياسة التعريب بالقوة لاسيما في المناطق الناطقة بالأمازيغية، ظهرت في الستينات و السبعينات حركات سرية تناضل من أجل الثقافة الأمازيغية من ادباء و مفكرين و سياسيين و طلبة و فنانين. و كثيرا منهم تعرض للاعتقال والسجن و النفي.
– تعتبر أحداث الربيع الامازيغي سنة 1980 المنعرج الحاسم في النظال من اجل الهوية الأمازيغية، بالخروج العلني من السرية بمطالب سياسية أهمها الديمقراطية و حرية التعبير والإعتراف بالثقافة و اللغة الأمازيغية و تأسيس حركة الثقافة البربرية.
– الى جانب البربريين، ظهرت حركات اسلامية تطالب برد الإعتبار للشخصية الجزائرية الاسلامية، و تكريس البعد الإسلامي للجزائريين في الحياة السياسية و الثقافية.و هذه الحركات عرفت عدة اعتقالات في صفوفها.
– حوادث اكتوبر عرفت التعددية السياسية، فعاد طرح مسألة الهوية الى الواجهة بين أحزاب سياسية تطالب بتطبيق الشريعة الاسلامية و ابراز البعد الإسلامي للجزائر، و أحزاب ديمقراطية تطالب بالإعتراف بالتعددية الثقافية للشعب الجزائري، و اعطاء مكانه للبعد الإمازيغي.
– اختار جزء من التيار السياسي الإسلامي بعد وقف المسار الانتخابي المواجهة المسلحة مع السلطة لتجسيد مطالبه، متأثرين بالسلفية الجهادية بعد تنكره للمرجعية الدينية الجزائرية المجسدة في المذهب المالكي و الفكر البادسي. فأدى الى دخول الجزائر في دوامة عنف نتج عنها ما يزيد عن 200 ألف قتيل.
– واصل دعاة الأمازيغية نضالهم بالوسائل السلمية والحضارية، للمطالبة بحقوقهم الهوياتية ،
– نتيجة للضغط المتزايد من طرف دعاة الامازيغية و تصاعد تجنيدهم الشعبي، تكمنوا من الحصول على عدة مكاسب مابين 1990 الى 2016، من الموافقة على انشاء معهد اللغة الامازيغية سنة 1990 الى الموافقة على تعلم الأمازيغية في المدرسة وانشاء المحافظة السامية للأمازيغية عام 1995، الى الإعتراف بها لغة وطنية سنة 2002، ثم لغة رسمية سنة 2016. وفي كل هذه الخطوات لم تلق أي رفض من قبل النخبة و الوساط الشعبية التى ترى ذلك خطوة للتماسك الوطني بين أبناء الشعب الواحد.
– عمل طرف في السلطة على استغلال القضية الأمازيغية و منطقة القبائل في العديد من المرات بتأجيجها عشية كل انتخابات رئاسية، كورقة ضغط ضد الأطراف الأخرى المتصارعة.
– و بخصوص البعد الإسلامي للشعب الجزائري، أعادت الدولة الإعتبار للزوايا ،ومحاربة التطرف الديني، و التأكيد في أكثرمن مناسبة على المرجعية المالكية للجزائريين، ومحاربتها للتيار السلفي.
– تراجع التيار الإسلامي المتشدد في السنوات الأخيرة عن معاداتهم للهوية الأمازيغية الى اعترافهم بالانتماء الأمازيغي للشعب الجزائري بعد ما يقارب قرن من الإنكار.
– تراجع التيار الأمازيغي المتشدد من معاداتعم للتيار العربي والإسلامي بعد تقبل هذين الأخيريين للحق الطبيعى للثقافة و اللغة الأمازيغية.
– تراجع التيار العروبي داخل السلطة و الاحزاب الموالية لها من الاستغلال المفرط للغة العربية الفصحى (لغة الخشب) في خطاباتهم و تدخلاتهم، و تبنيهم للعربية العامية التى يفهمها الشعب الجزائري بكل اطيافه.
و في الختام نقول أن الشعب الجزائري فصل البداية في مسألة الهوية المبنية على الأصل الأمازيغي، و ثنائية اللغة (الامازيغية و العربية) ووحدة الدين المتمثل في الإسلام، أما الانقسام فقد ظهر على مستوى النخبة و للسلطة الحاكمة فقط، بالتوظيف الإيديولوجي لعناصرها سواء في عهد الإستعمار أو بعد الإستقلال خدمة لمصالح السلطة المتمثلة في البقاء في السلطة معتمدة على اسلوب الإقصاء والجهوية.
أما حاليا، فلم يعد الاشكال قائما أو حادا بخصوص الهوية وعناصرها بعد تكريسها في الدستور و تقبلها من طرف الجميع، أما الاختلاف حول الأمور التقنية المتعلقة باللغتين العربية و الأمازيغية حول سبل ترقيتهما و تعميمهما، ونرى أن هذا من اختصاص الأكاديميين وليس السياسيين. كما ان قلقا يسود الأوساط الشعبية والنخبة بخصوص المساس المرجعية الدينية الوطنية ونشر الطائفية في صفوف الجزائريين، بسبب تنامي التيارات المتطرفة والصراع الطائفي في العديد من الدول الإسلامية، مما يستدعي تضافر الجهود من اجل حماية الدين من أي توظيف سياسي أو المساس بالقيم الدينية الوطنية.
موزاوي علي | أستاذ و باحث جامعي – تيزي وزو