آوراس؛ بين الجبل والسهل
إن التكوين الجيولوجي والجغرافي لـ”آوراس” جعل منه ككل جبلاً يمنح لمنحدراته نحو السهول العليا شمالا وفي اتجاه المنبسطات السفلى جنوبا كل خيراته : الماء ، التربة ، الإنسان والحيوان، فكان عبر أوديته العميقة كأيادي ممتدة سخية وعند الضرورة سيوفاً قاطعة لعدو جاثم آكل للأرزاق ممزقاً للأجساد فهي الأوتاد الصلبة والمقاومة العنيفة والنظيفة.
هكذا أدرك قيمتها العدو الغاشم منذ ما قبل الرومان فسعى الى تعمير السهول والمدن على حساب الجبال وأراد لها الذلّǃ وذلك قصد اللإستفادة من أرزاقها فكانت ثروته من القموح والثمار والأرزاق المختلفة فكسر الأخوة في الموطن ، قَارَبَ من قَبِلَ به وعادى وأبعد كل متسبب بشخصيتة وأنفته وعِزّته فكسر العمود الفقري في كل ربوع شمال أفريقيا بالمنفعة المادية والسلطوية ليخلو له المجال اللإستعماري الإستدماري، والتمكن الدائم لولا رحمة الله بالضعفاء والذين طالما قاوموا والمخلصين بالسهول الذين طالما تراجعوا ضده عند الآلام والعذاب الذي تمادى فيه و تنامى ناتج المصلحة والغرور والكبرياء فكان له أن زهق الباطل إن الباطل كان زهوقا .
فالتربة ناتج تشتت وتفتت الصخور لتصبح مسحوقا تنقله المياه بفعل الديناميكية نحو الانحدار فكانت الترسبات وتكوين السهول والماء بفعل الثقل في اتجاه المنحدر والميول يحدث التعرية بالسهول والأودية بالحفر فينشأ الانجراف المائي “EFFET DE LA PESANTEUR ET DE LA GRAVITATION”، فهي حتمية فيزيائية للعطاء للغير وهو فعل الخيرǃǃ وعكسه إن وقع فهو الجحود ولا مجال للجمود فلنتقبل ذلك بلا حدود لأن الطبيعة لا تأمن بالجدود فلها قمم وأخدود.
وهكذا يتبع الانسان بفعل الانسان خيراته في كل مكان باحثا عن الاستغلال الأمثل في كل زمان بل يتبعه كذلك فعل الحيوان .
إذا كان إقليم الأوراس بامتداده الثقافي والتاريخي يقع أوسع بكثير من ولاية باتنة إلا أن جبال السلسلة ترتكز بها مع أن الولاية تستضيف إليها السهول العليا أي الخضاب نسبة لا يستهان بها وتتقاسم حاليا هذه التضاريس ولاية باتنة وخنشلة تاركة لجزء جنوبي بسيط لصالح ولاية بسكرة .
وإن هذه الكتلة الجبلية ( 150 كم x 90 كم ) والتي تشقها أودية عميقة وفجاج عريقة جيولوجيا وجيومرفولوجيا تصل الى أكثر من مائة وأربعين مليون سنة أي منذ العهد الكريتاسي الأول .
ذلك ما جعل منها المنطقة الاستراتيجية للمقاومة والمواجهة لمختلف المستعمرين منذ العهد الفرعوني والفينيقي ثم اليوناني والإغريقي وهلم جرا الى الاستدمار الفرنسي البغيض بالأمس .
تعرضت هذه الأعالي الى مختلف أنواع التعرية : الجليدية والثلجية والمطرية والسَيَلانية ( الأودية ) زيادة عن الحركة التكتونية التي أنشاتها والرّجّات والهزّات التي تلتها ومازالت تتعرضها من حين لآخر دون أن ننسى التعرية الهوائية Eolienne في السفوح الجنوبية.
أما الأضرار الناتجة عن البشرية والحيوانية فحدث ولا حرج من حرائق أثر الحروب الداخلية والخارجية والتي مازالت تلاحقها إتلافا للغطاء النباتي والحيواني بل بتأثير سلبي على البيئة Ecosystème. وعامل الحرارة صيفا ، كثيرا ما نشبت عنه النيران بالأشعة واليقايا الزجاجية والمعدنية واحترقت الآلاف من الهكتارات في ( أرفاعا و بوحمامة وفريال وغيرها ) .
بالأمس كانت الأضرار على المحيط الريفي تفسد الأراضي الخصبة ناقلة لخصوبتها في النوع الليموني sols limoneux والغريني، قالعة للأشجار آخذة للثمار مدمرة للعمران. واليوم بفعل توسع المدن الناتج عن الهجرة الريفية والزيادة السكانية العالية لتحسن الظروف الصحية و المعيشية فلنأخذ مدينة باتنة التي كان عدد سكانها ثمانية عشر ألف سنة 1956 الى أكثر من أربعة مائة ألف حاليا بل تقارب نصف مليون نسمة وكذا نمت وتوسعت بقية المراكز العمرانية بنفس الوتيرة وان سجلت بعض المناطق الجبلية هجرة عظيمة أفرغت حل سكانها مثل لرباع و إغاسيرن (غسيرة) و ثاجموث (تاجموت) بفعل العامل الحضاري والاقتصادي كمناطق طرد للسكان .
واليوم تطاردنا سيلات الأمطار وغزارتها بفيضانات تهدد المداشر والقرى والمدن ورغم المشاريع الهامة ، تشجير في السفوح الجبلية والتي تقوم بها مصالح الغابات والمشاريع العظيمة التي يقوم بها قطاع الري لتحويل المجاري حماية للتجمعات العمرانية واستهلكت مئات الملايير إلا أن الأمر مازال قائما في بعض المراكز العمرانية .
ونبارك التدارك الفلاحي من القطاع الخاص والعام الذي توسع في كل المناطق وفي كامل البلديات آخذا في النمو سواء بالاستصلاح الفلاحي وبغرس الأشجار المثمرة ومصدات الرياح وكذا الحواجز المائية الكثيرة وفي كل البقاع وعبر تراب ولاية باتنة والتي ستزيد من التحكم في المجاري حفاظا على الأراضي وتثبيتا للأتربة واستغلالا للمجاري المائية وحماية للضفاف والسهول من التعرية المائية والتي ستنقص من تنامي مخاطر السيلانات والفيضانات على المدن مع اعطاء تنمية مستديمة للريف وزيادة في الاقتصاد الوطني واستعمالا لليد العاملة absorption du chômage والأمثلة على ذلك كثيرة قرب بوحمار وسقانة وغيرها .
وعدد المشاريع المنجزة هي : 07 حواجز + 04 في الاستكمال والدراسات تفوق 15 حاجزا منتهيا ومبرمجا “Retenues collinaires”.
إن ماهية السدود الكبيرة وأهميتها فلاحةً وصناعةً وشُرباً مثل : سد كدية لمدور – سد قايس – سد النخلة – او فم الغرزة سد منبع الغزلان بسكرة – وسد خيران، كل مياهها ومُنخفضاتها ومجاريها مرتفاعات الأوراس الأشم وأوديته السحيقة والعميقة ذات الانجراف القوي الكاسح Oueds à caractère torrentiel.
ذلك الأمر وتلك المنشآت القاعدية ذات حماية عظمى وفائدة كبرى للري الفلاحي ونحن في حاجة الى المزيد للتحكم في الاستغلال الأمثل للموارد المائية السطحية وكذا حماية المخزون الجوفي من المياه الباطنية نوعاً وكمّاً لصالح الوطن والمواطن .
ولتدارك النقص وجب أن نعرف نقاط القوة ونطاقات الضعف حتى نصد مستقبلا كامل عوامل المخاطر وبؤر الأمراض والأوبئة وذلكم كالتالي :
1- دراسة الغطاء النباتي والحيواني وإدراك حقيقته نوعاً وكمّاً ورصد للنوعية التي توشك على الإندثار لحمايتها وبعثها من جديد مثل : شجرة “ايـوال”.
Genévrier de Thurifère وغزال الأوراس الواجب إعادة استيراده وتربيته وبعض أنواع النسور بل حتى السباع و النمور والضباع وغيرها. وذلك باستعمال أدوات الاحصاء والمتابعة والخرائط والحضائر ولا تكفي حظيرة بلزمة وحدها لكل مساحة الأوراس مع الرؤيا للتكاليف والدراسات والميزانية اللازمة لذلك .
2- لابد من رصد برنامج وطني واسع وميزانية كفيلة لتنمية الأوراس بكيفية شاملة وفي جميع الميادين تنمية متكاملة Développement intégré des zones de montagnes
وبعض الدراسات متوفرة منذ السبعينات من القرن الماضي، وذلكم لنتمكن مما أحرقته الحروب المدمرة عبر القرون وخصوصا الحرب التحريرية المضفرة 1954-1962 تعويضا وإصلاحا وتوفيرا للمياه والأحواض .
3- إحداث مجالات سياحية كبرى في منطقة “ارفـاعـة” لما لها من جوهر سياحي طبيعي وغطاء نباتي اخضراري ساحر ، ومنطقة “غـوفـي” لما لها من خاصية جيومورفولوجية جامعة ما بين الأضرحة والمساجد والجبال والنخيل – الصخور والكهوف – الآثار والعمران المحلي المتميز بالأصالة – والجنان المحتضر على ضفاف الوادي الأبيض بل اليابس على امتداد 30 كم وهو في طور الاستغاثة ومردود السياحة به عالمي يرفع من مجد المنطقة ويعطيها نموا ومدخولا وطنيا لا يضاهى ، والدراسة كاملة متوفرة للاستثمار ولو بالشراكة الأجنبية . فهل من مبادرة في الميدان لإنقاذ ما كان بالأمس يغذي مدينة سيرتا في العهد النوميدي ومدن السهول جنوب وشمال الأوراس الى عهد الاستقلال ، وكذا فإن منطقة شيليا مفيدة جدا للتزلج والأمراض العقلية ، فهل من استثمار يتفع ؟ – ومنطقة بوحمامة جد خصبة للمصيف الجبلي والاستثمار الغابي وكذا فإن شطوط ” جندل ” قرب بومية مع وجود قبر إمـدغـاسـن الأمازيغي ، وآثار “قاساس” بالشمـرة و “مازيو” بالمعذر ، وغيرها سيسمح بإحداث منطقة سياحية باستزادة منسوب المياه في تلك المجمعات لتربية الحيوانات والطيور وإحداث ملاحة سياحية واستغلال للأملاح المترسبة مع هياكل وبنايات وفندقة ومطاعم وسياحة تجعل من الموقع موقع إثارة واستجمام وراحة واستراحة ولهو وصيد ونعمة بالبساتين الغناء التي يمكن انجازها في الموقع .
وإرجاع موقع ” القنطرة ” الى صف السياحة عبورا الى الجنوب بإحداث هياكل سياحية جذابة، وكذا منطقة “منعة” من جهة “وبالول” من الجانب الآخر منطقة جميلة في ماق آزوقاغ (أحمر- خدو) ستمكننا من استرجاع الشخصية التاريخية والجمالية والسياحية في المنطقة .
4- إن منطقة الأوراس الجبلي منها والسهلي تحتوي على آثار الأولين : مدن تحت الركام – وأطلال تتهاوى يوماً بعد يوم تحت مجراف الفلاح الجاهل وقطعان الماعز والرعاة المارة تعوث بها تهميشا وفسادا وتخريبا وهواة الطمع يهشمون عظام الموتى والأحجار المنقوشة والمكتوبة – وقلاع تتساقط اندثاراً مضيعة للتاريخ المجيد ǃ.
كل ذلك يستحق دراسات وحماية دائمة بإنشاء معاهد جامعية مختصة ومدارس سياحية ذات إهتمام – ومتاحف تأخذ الأمور العلمية والثقافية بالحسبان .
5- إن الفلاحة الجبلية تستحق اعادة مجدها ولو بالشراكة مع الصين الشعبية بأن فلاحة المصاطب بالسفوح والمرتفعات كان لها وجود و جُوْد. وسيعطي ذلك تثبيتاً للسكان بالريف وتشييدا جديدا باسترجاع الشهامة والأنف والنيف… ثم التحكم الحقيقي عقلانيا في الحرب على النار والدمار وإمساك التربة من الانجراف وإبعاد الانحراف .
6- إن اصلاح الينابيع والتمكن من استخراج المياه بالطرق التقليدية والعصرية سيسمح للمواطنين بالاستدامة والاستقرار – وخصوصا تربية النحل التقليدية ستمكن الأوراس من المكانة الأولى عالميا في انتاج العسل الحر والذي لا تضاهيها أي منطقة في العالم وفي المعمورة بحكم المناخ المحلي والغطاء النباتي الخاص بالاقليم وذلكم بالتغذي الغابي والفلاحي الذي سينشأ بوفرة المياه وديمومتها .
7- توفير برنامج فلاحي خاص بالمناطق الجبلية تنمية فعلية سيعوض البترول إن أفرغنا فيه بعض مدخول النفط الحالي فهو الاستثمار الدائم والأمثل والأنجح وذلك بإحداث رعي وفلاحة حديثة بالسهول واستثمار في الأشجار المثمرة في المناطق الجبلية .
فسهول الزاب الشرقي تبلغ أكثر من أربعة مائة ألف هكتار منها ستون ألف في غاية الخصوبة دراسة وتاريخا منذ العهد الروماني << VADES GRENIER DE ROME >>.
8- إحداث نطاقات تشجير وصيد بكيفية منظمة ومدروسة وميزانية نافعة وذات استراتيجية مستقبلية مع فتح الممرات في المناطق الوعرة والطرق في الأماكن المعزولة سيمكن المناطق الجبلية باستعادة سؤددها ونموها .
9- معاقبة كل من تخول له نفسه المساس بالغطاء النباتي ، الفلاحي ، المائي ، الأثري ، العمراني بقانون رادع وفعّال سيسمح باحترام الدولة ويزيد من هيبتها ، وتنظيم أخذ الأتربة والرمال تحت الترخيص والمتابعة الفعلية سيضفي على المجالات المختلفة حماية لضفاف الأودية والأتربة الفلاحية والمجال العمراني تسييرا علميا صالحا ونافعا .
10- رمي القاذورات والأوساخ والقمامة والأتربة وبقايا البنايات والمعادن الصناعية بعيدا عن كل تأثير بيني على البشر ، والحيوان ، والعمران وذلك لن يتأتى إلا بتظافر الجهود والتنسيق بين مختلف الهيئات مع توعية المواطن بكيفية مقنعة عن طريق الفكر الجمعوي بعيدا عن الانتهازية بل إيمانا بالمصير والمستقبل .
11- إرجاع الغابة لأهلها بوضع كينوناتها ومكوناتها تحت الرقابة والمسؤولية الكاملة لمن رعاها وتخصص في أمرها وأحبها ومجد ما فيها مسؤولية ومراقبة ومتابعة وحماية . وذلك لن يتأتى إلا بالأمن والأمان وفي روح إنسانية سلمية ، أما أن نتطاحن عليها كأرض وعي بروح تعجرف الإرهاب فإنها تقع بلا محالة في إضراب ǃ
12- أن نسعى جميعا استغلالا نافعاً لا استهلاكاً مضراً ، واستنزافاً هالكاً لخيرات وطننا تربة ، شجرا ، ماءا ، عمرانا وصناعة مع الوعي الكامل بالمسؤولية المنوطة بنا ضد عوامل الطبيعة المضرة من حرائق وفيضانات وأوبئة وأن نبتعد كلية عن التلوث والادعاء .
أردت من خلال ما سبق طرح الموضوع بطريقة مختصرة لأن تناوله لا يمكن الإحاطة به إلا من وراء دراسات وأبحاث دقيقة فمجال النقاش كفيل بأن يقربنا لماهية الموضوع .
كامل التقدير والاحترام لإنصاتكم ومتابعتكم وهذا دليل اهتمامكم ببيئتكم ووطنكم المفدّى ، ألف شكر .
المهندس: الساسي عبدي – باحث متخصص في الثقافة الآمازيغية – آوراس
هذا النص عبارة عن ملخص لمحاضرة.