لماذا لا يجوز تصنيف الأمازيغيين ضمن الشعوب “الأصلية”؟
بداهة “أصلية” الشعب الأمازيغي:
يبدو أن اعتبار الأمازيغيين شعبا “أصليا” هو من الحقائق البسيطة والواضحة والثابتة. وحتى الدرس الأول، الذي كان يلقّن للتلاميذ في التاريخ غداة الاستقلال، كان يقول بـ”أن البربر هم سكان المغرب الأولون”. ومن هنا فهم “أصليون”، أي أولون وسابقون عن كل من يكون قد وفد إليهم من شعوب وأجناس أخرى. هذا المدلول للفظ “أصلي”، الذي يعني الأول والسابق والأقدم، لا يثير إذن أية مشكلة أو أسئلة. فمعيار تحديد “أصلية” أي شعب هو معيار داخلي، يتمثل في توفر هذا الشعب على خاصية الأقدمية التاريخية لوجوده الدائم بمنطقة معينة. وهو ما لا يختلف حوله اثنان في ما يخص الشعب الأمازيغي بشمال إفريقيا والمغرب خاصة. وهذا ما جعل الحركة الأمازيغية تتبنى هذا المفهوم وتدافع عنه، وتناضل من أجل الاعتراف بحقوق الأمازيغيين كشعب “أصلي”، وهو ما أصبحت معه “أصلية” الشعب الأمازيغي جزءا من أدبيات الحركة الأمازيغية، كما أن جمعيات ونشطاء أمازيغيين من بلدان شمال إفريقيا يشاركون بانتظام في الملتقيات والمؤتمرات الخاصة بالشعوب الأصلية، التي تنظمها المندوبية السامية لحقوق الإنسان التابعة لمنظمة الأمم المتحدة.
المفهوم الأممي الجديد للشعوب الأصلية:
وانطلاقا من هذه المنظمات الحقوقية الدولية، المعنية بالشعوب الأصلية، سيكتسب هذا المفهوم مدلولا جديدا، ومضمونا آخر عندما أصبح مصطلحا تتداوله تقارير وتوصيات لجان حقوق الإنسان الأممية الخاصة بالشعوب الأصلية، وخصوصا بعد إنشاء “مجموعة العمل للأمم المتحدة حول الشعوب الأصلية” في 1982.
(انظر الموقع السويسري لحقوق الإنسان: http://www.humanrights.ch/fr).
ورغم ما قد نجده من تباينات في تحديد مفهوم “الشعوب الأصلية” لدى الهيئات الأممية المعنية بالموضوع، إلا أن جميع التعاريف لا تخرج عن التعريف الذي أقرّه المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة. يقول هذا التعريف: «يتشكل السكان الأصليون من المنحدرين من الشعوب التي كانت تقطن بالمنطقة الجغرافية الحالية في الفترة التي استوطنت فيها تلك المنطقةَ جماعاتٌ من السكان قادمين من بلدان أخرى، ذوي ثقافة وأصول إثنية مختلفة، وأصبحوا في ما بعد المهيمنين على أولئك السكان الأصليين بالغزو والقوة والاحتلال أو بوسائل أخرى، محوّلينهم إلى خاضعين لوضع استعماري. وهم يعيشون اليوم في انسجام مع عاداتهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية أكثر من انسجامهم مع مؤسسات البلد الذي يشكلون الآن جزءا منه، بفضل نظام الدولة التي تعمل على إدماجهم في النسيج الوطني والاجتماعي والثقافي للجزء الآخر من السكان الذي أصبح مهيمنا»
(http://www.un.org/esa/socdev/unpfii/documents/E.C.19.2010.13%20EN.pdf).
المعيار الخارجي كشرط لتحديد “أصلية” الشعوب:
نلاحظ إذن أن شرط الأسبقية والأقدمية التاريخيتين، وهو معيار داخلي كما أشرنا، والذي (الشرط) على أساسه اعتبرنا الشعب الأمازيغي شعبا “أصليا”، لم يعد كافيا لتحديد مفهوم “الشعب الأصلي”. وهذا ما يفسّر مثلا أن الإيرانيين واليونانيين والصينيين واليابانيين والهنود (شعب دولة الهند) والإيطاليين… لا يعتبرون شعوبا أصلية رغم أنهم السكان الأولون تاريخيا ببلدانهم التي ينتمون إليها، مثلهم في ذلك مثل الشعب الأمازيغي. لماذا لا ينطبق عليهم إذن مفهوم “الشعوب الأصلية”؟
لأن التعريف الأممي، كما رأينا، يضيف إلى شرط الأقدمية التاريخية شرطا آخر ضروريا لاكتساب الشعب صفة “الأصلي”. إنه شرط استيطان جماعات أجنبية وافدة من بلدان أخرى لنفس المنطقة، التي هي الموطن التاريخي والأصلي للشعب المعني. فإذا كان شرط الأقدمية التاريخية معيارا داخليا، يتعلق بأسبقية الشعب “الأصلي” في الوجود بموطنه الحالي، فإن شرط استيطان جماعات أجنبية لنفس الموطن في فترات لاحقة، يشكّل معيارا خارجيا لأنه يرتبط بالوافدين، أي غير الأصليين. وهكذا أصبح مفهوم الشعوب الأصلية، لا يتحدد، في التعريف الأممي، بالأسبقية التاريخية فقط، بل بالعنصر الوافد (Allochtone) الذي يضفي على الشعب المعنى صفة الأصلية (L’autochtone se définit donc par rapport à l’allochtone).
شرط هيمنة الوافدين على الأصليين:
ومع ذلك فهذا المعيار الخارجي نفسه غير كافٍ لإدراج شعب ما ضمن الشعوب الأصلية. ذلك أن استقرار جماعات وافدة من بلدان أخرى بالموطن التاريخي لشعب ما، لا يجعل من هذا الشعب شعبا “أصليا”. وإلا لكانت غالبية الشعوب “أصلية”، بما فيها فرنسا وألمانيا وبلجيكا وإسبانيا وهولاندا، التي تعرف، ومنذ خمسينيات القرن الماضي، وفود مهاجرين من شمال إفريقيا، استقروا بصفة دائمة ونهائية بهذه البلدان وأصبحوا جزءا من شعبها. ولكان الإيرانيون كذلك شعبا “أصليا” بحكم استيطان بلدهم من طرف مجموعات عربية منذ عصر “الفتوحات”، ولكان العرب شعبا “أصليا” بالنظر إلى العديد من الأتراك الذين استوطنوا البلدان العربية في فترة حكم الدولة العثمانية. ولكانت الصين شعبا أصليا بسبب استقرار جماعات بشرية بالصين قادمة من منغوليا، كازاخستان، كوريا، النيبال، التايلاند، وماليزيا…
استيطان الجماعات الوافدة من بلدان أجنبية لا يعطي إذن للشعب، صاحب الأرض، صفة “أصلي” إلا ـ كما هو واضح من التعريف الأممي الذي أوردناه ـ بشروط:
ـ إذا اقترن ذلك الاستيطان بقيام دولة باسم المستوطِنين، يخضع لحكمها ونفوذها جميع السكان، سواء أبناء البلد الأصليون أو الوافدون الذين أصبحوا غالبين ومهيمنين.
ـ بموجب هذه الدولة، التي أقامها الوافدون، يصبح السكان الأصليون فاقدين للسلطة السياسية، وتابعين للدولة الجديدة، تربطهم بها علاقة خضوع وتبعية، ويعيشون في ظل هذه الدولة حالة وضع استعماري دائم ومتواصل.
نلاحظ، إذن، ونستنتج أنه لا يكفي أن يستوطن أجانب ببلد ما حتى يصبح سكانه الأقدمون “أصليين”، بل لا بد من شرط واقف حتى يُصنّفوا ضمن الشعوب الأصلية. هذا الشرط هو إقامة المستوطنين دولة لهم يسري نفوذها على كل البلد، ويخضع لحكمها كذلك السكان الأصليون. فكما نرى، وكما هو محدد في التعريف الأممي السابق، فهذا شرط سياسي يتصل بالدولة والسلطة السياسية، ولا يتعلق باللغة أو الدين أو الثقافة أو العرق.
ولهذا نجد أن النموذج الأمثل والأكمل للشعوب الأصلية هم “أبوريجين” أوستراليا وهنود أمريكا وكندا مثلا. فمنذ استيطان الأوروبيين لأستراليا في القرن 19، ولأمريكا وكندا في القرن السابع عشر، لم تقم دولة لسكان الأبوريجين بأستراليا أو للهنود الحمر بأمريكا وكندا، الذين أصبحوا، منذ تاريخ الاستيطان الأوروبي، تابعين وخاضعين كأقلية للدولة ذات الأصل الأوروبي، والممثلة للأغلبية. فرغم أن هؤلاء السكان الأصليين حافظوا، بسبب عزلتهم، على لغاتهم وثقافاتهم وعاداتهم، إلا أنهم فقدوا السيادة التي أصبحت تمارسها الدولة الجديدة التي شكّلها المستوطنون. هذا الفقدان للسيادة، نتيجة وجود دولة للوافدين يخضع لحكمها هؤلاء السكان، هو المعيار الرئيسي الذي يميز الشعوب الأصلية عن غيرها.
لم يسبق للأمازيغيين أن فقدوا سيادتهم على أرضهم قبل 1912:
حسب التعريف الأممي لن يكون إذن الشعب الأمازيغي شعبا “أصليا”، لأنه لا يستجيب لمعيار فقدان السيادة وقيام سيادة أخرى ذات أصول أجنبية على أرضه، كما في الأمثلة التي ذكرنا. ولهذا فليس صحيحا على الإطلاق، كما يذهب العديد من نشطاء الحركة الأمازيغية، أن الأمازيغيين هم شعب “أصلي” لأنهم هم كذلك فقدوا سيادتهم منذ الغزو العربي لشمال إفريقيا، وأصبحوا يعيشون تحت السيادة العربية ذات الأصل الأجنبي. فلا مجال هنا للمقارنة بين ما حدث بشمال إفريقيا جراء الغزو العربي، وما حدث بأستراليا وأمريكا مثلا جراء الغزو الأوروبي. والتاريخ واضح حول هذه المسألة.
فمنذ أن طرد الأمازيغيون العرب من شمال إفريقيا عقب دحرهم في معركة “الأشراف” عام 740 ميلادية، استردوا سيادتهم كاملة على أرضهم عكس سكان أستراليا وأمريكا. والدليل على ذلك هو قيام، بعد جلاء العرب، دول وممالك أمازيغية ذات سيادة أمازيغية، مثل النكور والبورغواطيين والأدارسة والمغراويين والمرابطين والموحدين والمرينيين والوطّاسيين والسعديين والعلويين. وهذا ما لم يحصل مثله إطلاقا في أستراليا وأمريكا (الشمالية)، إذ لم تظهر أية دولة محلية للسكان الأصليين تعبيرا عن استعادة السيادة المحلية لهؤلاء السكان، منذ الاجتياح الأوروبي لهاتين القارتين.
فإذا صنّفنا الأمازيغيين ضمن الشعوب الأصلية، لأن العرب كانت لهم في فترة تاريخية محدودة (أقل من 90 سنة) سيادة جزئية على الأرض الأمازيغية، فيجب أن يصنّف الفرنسيون والكوريون والعرب والإيرانيون والإسبانيون هم أيضا ضمن الشعوب الأصلية، لأنه سبق للرومان أن حكموا الفرنسيين ثم كذلك الألمان عندما احتلوا فرنسا، والكوريون سبق أن حكمهم اليابان عندما استعمروا بلدهم، والعرب خضعوا لسيادة الأتراك الذين حكموهم لمدة طويلة، والإيرانيون والإسبان سبق لهم كذلك أن عاشوا تحت السيادة العربية عندما احتل العرب أراضيهم. ومع ذلك فهذه الشعوب لا تندرج ضمن الشعوب الأصلية رغم تعرضها لأنواع من الاحتلال والاستعمار. لماذا؟ لأنها استعادت بعد مدة سيادتها كاملة، والتي أصبحت تمارسها دولها المحلية التابعة لمواطنها الجغرافية. وهو ما لا نجده حاضرا ومتوفرا عند شعوب أستراليا وأمريكا، كما سبق القول.
يضاف إلى هذا المعطى السياسي (الدولة والسيادة)، معطى آخر ديموغرافي، وهو أن عدد العرب الذين استقروا بالمغرب كان صغيرا جدا، مقارنة مع العدد الكبير جدا للأمازيغيين، عكس عدد الأوروبيين الذين استقروا بأستراليا وأمريكا، والذي كان أكبر بكثير من عدد السكان الأصليين، مما حوّل هؤلاء إلى أقلية والأوروبيين إلى أغلبية أقامت دولة حقيقية ذات سيادة حقيقية.
الخلاصة إذن هي أن الأمازيغيين بالمغرب ليسوا شعبا “أصليا” بالمدلول الأممي الذي شرحناه، لسبب بسيط هو أن المغرب بكامله شعب “أصلي”، مثل إيران أو الصين أو اليابان…، التي هي كذلك شعوب “أصلية” لأنها الأقدم ببلدانها مثل المغاربة الذين هم الشعب الأقدم بالمغرب. وبما أن هذه الشعوب لا تُصنّف، طبقا لمعايير التعريف الأممي، ضمن الشعوب “الأصلية” لأنها تمارس سيادتها على نفسها بنفسها محليا، فكذلك الأمازيغيون بالمغرب لا يُصنّفون ضمن الشعوب “الأصلية” لأنهم يمارسون سيادتهم بأنفسهم على أنفسهم محليا، أي من خلال دولتهم المغربية ذات الأصل المحلي، أي الأمازيغي، وليس مثل هنود أمريكا أو “أبوريجين” أستراليا الخاضعيْن لسيادة دولتي الولايات المتحدة وأستراليا، اللتين هما دولتان من أصول غير محلية، أي من أصول أوروبية أجنبية.
فرنسا والتعريب يحوّلان الأمازيغيين إلى شعب “أصلي”:
إلا أن هذا الوضع الذي يميز المغرب كبلد لا تتوفر فيه الشروط الأممية للانتماء إلى الشعوب “الأصلية”، كما شرحنا، سيتغير رأسا على عقب منذ 1912. ذلك أن فرنسا ستخلق بالمغرب، ابتداء من هذا التاريخ، وضعا يشبه إلى حدّ بعيد وضع الشعوب “الأصلية”. ليس لأنها ستفرض سيادتها على المغرب، وهو شرط ضروري لاكتساب هذا الأخير صفة “الأصلية”، لكنه يصبح منعدما بمجرد حصول المغرب على استقلاله واستعادة سيادته في 1956، وإنما لأنها ستخلق بالمغرب دولة بهوية عربية، أي بهوية أجنبية وغير محلية. وموازاة مع ذلك رسّخت فكرة عروبة المغرب لدى النخبة الموالية لها، والتي كانت تدعي، ولأسباب سياسية ودينية، وحتى قبل 1912، أنها ذات نسب عربي مع أنها في الأصل أمازيغية، لكنها تنكّرت لجنسها الأمازيغي وانتسبت للجنس العربي، ممارسة بذلك للتحول الجنسي في مستواه الهوياتي. إلا أن كل هذا الانتحال للنسب العربي لم يخرج عن حدوده الفردية والعرقية، إذ بقي مجرد تحول جنسي يهمّ، لأسباب سياسية ودينية، مجموعة محدودة من الأمازيغيين، كما أشرنا، ولم يكن له بالتالي أدنى تأثير على الهوية الجماعية للدولة المغربية وللشعب المغربي، التي ظلت دائما هوية أمازيغية يحدّدها موطنها الجغرافي الأمازيغي الإفريقي.
أما الجديد الذي جاء به الاستعمار الفرنسي، فهو أن الهوية العربية، متمثلة في التحول الجنسي لدى فئة من الأمازيغيين، لم تعد، بعد 1912، اختيارا فرديا كما كانت، بل ستجعل منها فرنسا هوية جماعية ملازمة ـ وملزمة ـ للدولة وللمغرب. ولما غادرت فرنسا المغرب في 1956، كانت عملية التحول الجنسي التي مارستها على المغرب طيلة فترة الاستعمار، قد اعطت أكلها، إذ أصبح هذا الأخير دولة عربية وبشعب عربي. أما من بقوا من المغاربة أسوياء، أي متمسكين بهويتهم الأمازيغية، فقد بدأ عددهم يتناقص منذ 1912 إلى اليوم، بفعل تنامي وتوسع ظاهرة التحول الجنسي الذي أصبح سياسة عمومية للدولة تسميها سياسة التعريب. وهو ما جعل منهم أقلية مقارنة بالأغلبية المعرّبة، أي المتحولة جنسيا، التي أقامت لها فرنسا دولة تحكم باسمها ويخضع لسلطتها الجميع، بما فيهم الأمازيغيون الأسوياء، أي المغاربة الذين لم يتعرضوا لعملية التحول الجنسي.
هكذا إذن توجد اليوم بالمغرب دولة “عربية” بسيادة “عربية”، وشعب “عربي” يمثل الأغلبية، فقط لأنه يتحدث الأمازيغية المعرّبة، أي الأمازيغية التي تستعمل معجما عربيا، والتي جعل منها التحول الجنسي لغة عربية حتى تنسجم اللغة مع العرق، ويُعطى الدليل “العلمي” على أن العرب “أغلبية” بالمغرب. وبجانب هذه الدولة “العربية” وأغلبيتها “العربية”، هناك أقلية “بربرية” لا زالت تتحدث لهجتها “البربرية”، وتمارس عاداتها “البربرية”، مثل “أحواش” و”أحيدوس”، وهو وضع ينطبق عليه مفهوم “الشعوب الأصلية”، لأنه لا يختلف عن وضع الهنود الحمر أو الإسكيمو أو سكان أستراليا الأصليين.
نعم، يجب الاعتراف أن الأمازيغيين الأسوياء، أي الذين لم يحوّلوا جنسهم الأمازيغي إلى جنس عربي، يعيشون اليوم وضع السكان “الأصليين” حسب التعريف الأممي، وخصوصا ما يتعلق بشرط استيطان الأجانب كأغلبية، والذين هم في الأصل أمازيغيون متحولون جنسيا، وإقامتهم لدولة باسم هؤلاء المتحولين جنسيا، يخضع لسلطتها السكان الأصليون، أي غير المتحولين جنسيا، الذين أصبحوا شبه أقلية.
مصادرة الأراضي تعزّز الوضع “الأصلي” للأمازيغيين:
ومما يعزز هذا الوضع ويزكيه، هو أن فرنسا وضعت، منذ إصدارها لظهير27 أبريل 1919، ملايين الهكتارات من أرضي القبائل تحت وصاية وزارة الداخلية. وهو ما يشكّل نوعا من المصادرة لأن القبائل لم تعد تملك حق التصرف في أراضيها. وهي نفس الأراضي التي لا زال مشكلها مطروحا إلى اليوم، والتي تسمى الأراضي الجماعية أو السلالية.
ما علاقة مصادرة الأراضي، أو منع مالكيها من حق التصرف فيها، بقضية الشعوب “الأصلية”؟ العلاقة هي أن التوسع الاستيطاني بأستراليا وأمريكا وكندا مثلا، صاحبه نزع لأراضي السكان الأصليين، مما زاد من إفقارهم بعدما حرموا من مصادر عيشهم الذي كانت تشكّله الأرض، ومن تبعيتهم للنظام الجديد الذي أقامه المستوطنون. وهو نفس الشيء تقريبا سيتكرر بالمغرب بعد فرض الحماية الفرنسية في 1912، حيث أصبح الأمازيغيون “الأصليون”، أي المغاربة الأسوياء الذين احتفظوا بجنسهم الأمازيغي ولم يحوّلوه إلى جنس عربي، فاقدين للسيادة على أراضيهم، التي أصبحت تابعة لسيادة دولة المتحولين جنسيا، الذين هم في الأصل أمازيغيون، كما سبقت الإشارة.
التحول الجنسي أساس التمييز بين “الأصلي” والوافد:
لكن ما دام أن هذا الوضع، الذي يعطي للأمازيغيين صفة “الأصلية”، لم يظهر إلا ابتداء من 1912، واستمر، بل تعزز بعد جلاء الاستعمار الفرنسي في 1956 بفضل سياسة التعريب التي جعلت من الأمازيغيين المعرّبين ـ أي المتحولين جنسيا ـ وافدين غير أصليين، فهذا يعني أن هذا الوضع لا علاقة له باستيطان الأجانب كأغلبية وإقامتهم لدولة ذات أصل أجنبي يخضع لها السكان المحليون كأقلية. لأن ما يفترض أنه دولة “عربية” بالمغرب ليس نتيجة وصول عشرات الملايين من العرب الذين احتلوا المغرب في 1912 وأقاموا، كأغلبية ديموغرافية، دولتهم العربية وأخضعوا لحكمها المغاربة الذين أصبحوا مجرد أقلية إثنية هي الأقدم بالمنطقة. وإنما ما حصل منذ 1912، هو أن العروبة، كدولة وكشعب و”كأغلبية”، هي مجرد تحول جنسي نتج عنه أن أمازيغيين متحولين جنسيا، أصبحوا يعتقدون، عن صدق أو ادعاء، أنهم يمثلون “الأغلبية” ويملكون دولة، مقابل “أقلية” تمثل السكان الأصليين، وهم المغاربة الأسوياء الذين لم يغيروا جنسهم الأمازيغي. وهكذا أصبح لدينا بالمغرب شعب “أصلي”، وهم المغاربة المحافظون على جنسهم الأمازيغي، وشعب “وافد”، وهم المغاربة الشواذ هوياتيا، أي الذين تعرضوا لعملية تحول جنسي. مع أنهم لم يأتوا من أي مكان من خارج بلاد المغرب. إنهم في الحقيقة “أصليون”، بمعنى أنهم “خرجوا من هذه الأرض” حسب المدلول الأصلي اليوناني لكمة Autochtone، التي تعني: “Issu du sol“، أي “الخارج” من الأرض.
الحركة الأمازيغية تقع في فخ المتحولين الجنسيين:
وقد وقعت الحركة الأمازيغية، بسهولة، في فخ المتحولين الجنسيين عندما اعتبرتهم يمثلون الوافدين Allochtones، مقابل Autochtones، أي “الأصليين” الذين هم الأمازيغيون، مع أن الجميع هم Autochtones، أي “خارجون من هذه الأرض”. وقوع الحركة الأمازيغية في هذا الفخ هو اعتراف منها، وعت ذلك أم لم تعه، بالدولة “العربية” وبالشعب “العربي” وبالسيادة “العربية” بالمغرب، وإقرار منها أن الأمازيغيين “أقلية” إثية تطالب بالاعتراف بحقوقها اللسنية والثقافية والهوياتية، كما يطالب بها أبوريجين أستراليا وهنود أمريكا وشعب الإسكيمو… وهو ما يجعل الكثير من المطالب الأمازيغية غير ذات موضوع، ويبرر اتهام الأمازيغيين بالتطرف لأنهم يطالبون بأكثر من حقهم وحصتهم كأقلية.
فبدل أن تطالب الحركة الأمازيغية بحماية حقوق الأمازيغيين كشعب أصلي، نتيجة انسياقها وراء خدعة “أصلية” الشعب الأمازيغي التي خلقها التحول الجنسي، كان عليها أن تطالب فقط بالعودة إلى الوضع الهوياتي لما قبل 1912، عندما كانت دولة المغرب أمازيغية مثل الهوية الأمازيغية الجماعية لشعبه، المنسجمة مع هوية أرضه الأمازيغية، وتناضل من أجل علاج عاهة التحول الجنسي التي أدت إلى خلق شعبين بالمغرب، شعب أمازيغي “أصلي” وشعب “عربي” وافد، وهو ليس في الحقيقة إلا جزءا من نفس الشعب الأمازيغي لكنه تعرض لعملية التحول الجنسي.
وبعد استعادة الهوية الأمازيغية الجماعية للدولة المغربية وللشعب المغربي، يمكن لأي مغربي أن يدعي أنه عربي كفرد، لأن اختياره الفردي للتحول الجنسي لا تأثير له على الهوية الأمازيغية الجماعية للمغرب وللشعب المغربي. وهو شيء كان شائعا منذ اتشار خرافة “النسب الشريف” بالمغرب في القرون الأولى التي تلت الغزو العربي، دون أن يؤدي ذلك التحول الجنسي الفردي إلى أي تغيير في الهوية الأمازيغية الجماعية لدولة المغرب ولشعب المغرب.
محمد بودهّان – آمور نواكوش