عندما تُلهم اليعقوبية اللغوية الفرنسية نظرة بن باديس للأمازيغية
رأينا في المقال السابق ان عبد الحميد بن باديس كان يذكّر في كل مناسبة بتعلّقه الكبير بقيم الجمهورية الفرنسية و يطالب الادارة الاستعمارية بإسم هذه القيم “العادلة ” ان تنهض بالمجتمع الجزائري الغارق في التخلف و الجهل . فيكتب في جريدة الشهاب “لقد تأسست هذه الصحيفة على أن تخدم الأمة الجزائرية بمساعدة فرنسا … و كانت في جميع مواقفها متشبثة بالجمهورية الفرنسوية مستصرخة عدلها و إنسانيتها مستعينة بها على كل من يخرج عن مبدأ الحرية و الأخوة و المساواة ” .
مبدأ “الحرية و الأخوة و المساواة ” Liberté, Égalité, Fraternité هو شعار الجمهورية الفرنسية الذي نجده مكتوبا على مدخل جميع المؤسسات العامة اليوم في فرنسا .
في المجال اللغوي يرى كذلك بن باديس في الجمهورية الفرنسية و ” يعقوبيّتها اللغوية ” القدوة التي يجب الاحتذاء بها .
و اليعقوبية هي نظرية فلسفية/ إدارية ظهرت إثر الثورة الفرنسية ، نسبة إلى نادٍ تأسس إبّانها في دير سابق للرهبان اليعاقبة في باريس. أساس الفكرة هو الدولة المركزية المستندة إلى مؤسسة إدارية متماسكة و قوية، ترفض التنوع بجميع أشكاله سواء كان ثقافيا , دينيا , أو لغويا .
على المستوى اللغوي قامت اليعقوبية على القضاء على اللهجات الجهوية في فرنسا وفرض الفرنسية كلغة رسمية و حصرية في جميع المجالات تحت شعار “لغة واحدة لجمهورية واحدة” .
و من اقدم النصوص في هذا المجال , ما يعرف بتقرير القس غريغوار الذي كتب في 1794 و يشرح الخطوط العريضة لسياسة اليعاقبة (les jacobins) في المجال اللغوي , جاء فيه :
“ان هذا المشروع الذي لم يطبقه أي شعب آخر , لن يُعجز الشعب الفرنسي , الذي بعد ان جمع كل التنظيمات الاجتماعية في مركز واحد , يجب أن يرسّخ في أقرب وقت ممكن الاستعمال الأوحد و الدائم للغة الحرية (الفرنسية) في اطار جمهورية واحدة غير قابلة للتقسيم “[1] .
في مقال بعنوان “كيف أصبحت الجزائر عربية” لبن باديس يظهر بشكل جلي تأثر الأخير بفكرة اليعقوبية الفرنسية فيحتج بها على من دعوا الى الاعتراف بوجود لغة أمازيغة في الجزائر . فيكتب بن باديس :
“وإذا نظرت إلى كثير من الأمم الأوروبية اليوم ـ وفي مقدمتها فرنسا ـ فإنك تجدها خليطا من دماء كثيرة, ولم يمنعها ذلك من أن تكون أمة واحدة لإتحادها فيما تتكون به الامم . على انك تجد في قرى من دواخل فرنسا أمة واحدة و أعلى جبالها من لا يحسن اللغة الفرنسية و لم يمنع ذلك القليل – نظرا للأكثرية – من ان تكون فرنسا أمة واحدة وهذه الحقيقة الموجودة في فرنسا يتعامى الغلاة المتعصبون عنها و يحاولون بوجود اللغة المازيغية في بعض الجهات وجودا محليا و جهل قليل جدا بالعربية في رؤوس الجبال ان يشككوا في الوحدة العربية للامة الجزائرية التي كوّنتها القرون و شيدتها الأجيال “.
يتبنى بن باديس الطرح اليعقوبي الفرنسي و يسقطه على الواقع الجزائري : “فرنسا أمة واحدة” (جمهورية واحدة) بلغة واحدة و “امة عربية جزائرية واحدة” بلغة واحدة. كما نلاحظ ان بن باديس لا ينظر الى الأمازيغية على انها رافد من روافد الهوية الجزائرية و انما على انها عنصر تشويش و تشكيك في “الوحدة العربية” للأمة الجزائرية .
فكرة ازدراء الأمازيغية و اعتبارها عاملا مُهدّدا للوحدة الوطنية ورثها النظام الجزائري بعد الاستقلال و لم يتوقف عن الترويج لها الى غاية اليوم رغم المكتسبات الدستورية المهمّة التي حققها النضال الأمازيغي .
يوغرطا حنّاشي
[1] Rapport sur la nécessité et les moyens d’anéantir les patois et d’universaliser l’usage de la langue
française, du 28 prairial an II – 16/VI/1794 – par Grégoire