جمعية “العلماء” وأزمة المواطنة
يعاني الفرد الدزيري* عموما من أزمة مع هويته. هذه الأزمة، وإن كانت لا تبدو بالضرورة خطيرة، تخلف انعكاسات مدمرة على الدزيري ومحيطه. لا بد أن القارئ قد لاحظ عزوفي عن استعمال مصطلح “مواطن” لوصف الشخص الدزيري، وهو في حقيقة الأمر خيار دقيق بعيد كل البعد عن الصدفة أو الإهمال غير المقصود، فالأزمة التي أشرت إليها آنفا تجعل ابن بلدي الدزيري يفشل في تعريف المواطنة في حد ذاتها، تائها بين مواد دستورية رجعية، خطابات سياسية أكل الدهر عليها وشرب، ونظام تربوي مكرس للشمولية وتهميش الرأي الآخر.
“لن تقوم للعلم عندنا قائمة ما دمنا نرمز له بابن باديس”، عبارة أطلقها أحد زملائي المفكرين على موقع التواصل الاجتماعي “فايسبوك”. في هذا المقال القصير، سأنطلق من هذه العبارة لا لأتطرق للفهم الضبابي لمعظم الدزيريين لماهية العلم، وهو الأمر الذي عالجه زميلي بامتياز من خلال ردوده على المتفاعلين الذين تفاوتت مواقفهم بين مستنكر ومشدوه، بل للرابط الوثيق الذي يصل جمعية ” العلماء” بالأزمة التي لمحت إليها في بداية المقال، والدور الفعال الذي لعبته المؤسسة التربوية في توطيد ذلك الرابط وترسيخه.
يقول عبد الحميد في مطلع إحدى أشهر قصائده:
شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب
من قال حاد عن أصله** أو قال مات فقد كذب
هذان البيتان، وما يليهما مما لُقنا وحفظنا عن ظهر قلب في مدرستنا الحبيبة، كافيان لوضع اليد على موضع الجرح الذي ينزف بصمت منذ عقود. كمعظم المتفاعلين مع مقولة زميلي العزيز، لا شك أن القارئ يتساءل في قرارات نفسه “ما مشكلة الكاتب بالضبط؟ أين الجرح وأين الأزمة المزعومة؟ ما الذي يتحدث عنه وما علاقة الإمام العالم به؟”. إذا كانت إحدى هاته الأسئلة قد تناغمت مع ما هممت بقوله أو صدى لما ناجيت به نفسك منذ لحظات، فأنت أحد المعنيين بتلك الأزمة .. المزعومة على حد تعبيرك. ما عليك إلا أن تتريث، وسأحاول جاهدا الإجابة على تساؤلاتك.
يطرد هذان البيتان بصفة نهائية، على طريقة الحرمان الكنسي “excommunication“، اللاديني والملحد والمسيحي وكل من تدين بغير الإسلام من خانة الشعب الدزيري. بل ويعتبر ” الإمام”، عبر قصيدته، العروبة مقوما أساسيا للهوية الدزيرية لاجئا مرة أخرى لمنطق الإقصاء الذي يرمي بكل منكر للانتماء العروبي خارج القافلة. والأدهى والأمر أن الشاعر يسترسل في منطق الأحادية و نبذ الغير ليلصق تهمة الكذب بكل من خالف تعريفه – من خلال البيت الأول – لمعالم الهوية الدزيرية. وبذلك فإن ابن باديس، وخلفه المدرسة الدزيرية التي لا تتوانى عن حشو جماجم أبنائها بقصائده، يضع إطارا محددا منعدم المرونة للمواطنة في “دزاير” ممثلا بدين واحد ولغة واحدة.
وهكذا، ينشأ الفرد الدزيري في ظل تراكمات المدرسة الظلامية والخطابات القومية الرثة ليتحول إلى آلة من الكراهية والتعصب متقوقعا في تصوره البدائي للمواطنة، نازعا صفتها عن كل من خالفه في رسم معاييرها وحدودها. في المقابل، يترعرع أبناء من تعلموا الدرس على المساواة وتقبل الآخر بغض النظر عن لغته ودينه في سياق مواطنة رحب أين يساهم الجميع بازدهار ديمقراطية تضمن لهم حرياتهم وحقوقهم***. مقدرا أن فيما سلف جرعة كافية لتنبيه عصبونات القارئين الأعزاء لما تبقى من هذا الأسبوع، أتمنى أنكم استمتعتم بالمطالعة وإلى اللقاء في الأسبوع القادم.
**وصل المقطوع للضرورة الشعرية
***لمعرفة أيهما أفضل يكفي الاطلاع على معطيات الهجرة في العالم