قد لا يختلف إثنان على أن النضال الهوياتي في “ثامازغا” هو أولوية حتمية كانت و لا تزال هي العصب الحساس في الكيان الثقافي لجميع الشعوب الأمازيغية باختلاف ألسنتها و ألوانها على طول الإمتداد الجغرافي لبلدان الشمال الإفريقي والإمتداد التاريخي الحضاري الذي ما انفك أن لعب دورا كبيرا في ميزان التطور الإنساني. فالدارس الموضوعي لتاريخ النضال من أجل اللغة و الثقافة الأمازيغية، يخلص إلى أهمية الإحقاقات المنجزة مند ثلاثينيات القرن الماضي، و لعل أبرزها الإعتراف بها كلغة رسمية وطنية في “مروكش” مند سنة 2011، و في الجزائر مند سنة 2017
أهمية اللغة في بناء الهوية الذاتية و الجماعية:
تعتبر اللغة، كوسيلة أساسية للتعبير و التواصل شفاهيا أو كتابيا، المكون الرئيسي للشخصية و بناء الذات ككيان مستقل يرسم الفارق بين الفرد بحد ذاته و مجموع الأفراد الأخرى التي تشاركه الحيز الزمني و المكاني في إطار إجتماعي و لغوي معين، حيث أن الظاهرة اللغوية دائمة الإرتباط بالمكان ومنه بالتوزيع الجغرافي للمجموعات البشرية (1)، فالجانب الفردي و الإجتماعي للغة لا يمكن بأي حال من الأحوال فصل أحدهما عن الآخر (2)، لذا فمهما اختلفت ظروف الحياة يبقى النظام اللغوي قائما و متواصل التطور بطريقة مطردة و موازية للتطور الحضاري للإنسان، في كل لحظة، رغم أنه يبقى في نفس الوقت نتاج الماضي (3). أي أن أي لغة تتغير مع مرور الوقت للتكيف بالطريقة الأكثر اقتصادا لتلبية احتياجات التواصل للمجتمع الذي يتحدث بها و لضمان التفاهم المتبادل و التناسق الإجتماعي. ففي المقام الأول تعمل اللغة ، إذا جاز التعبير، كداعم للفكر، لدرجة أننا قد نسأل أنفسنا ما إذا كان النشاط العقلي الذي يفتقر إلى إطار اللغة يستحق اسم الفكر(4).
تعدد أوجه إستعمال اللغة (اللهجات):
لا يمكن الخوض في المسائل اللغوية جزافيا و بدون تقيد بالنظريات المعتمدة في علم اللسانيات التي ترتبط بعلوم آخرى مثل علم النفس اللغوي و علم الإجتماع اللغوي؛ و هذا إن دل على شيء فإنما يدل على قمة أهمية الموضوع كعامل مهم للتنمية و التطور. و يستند الاستخدام المقيد بشكل عام لكلمة اللغة على نفس التحديد البسيط للهيئات السياسية الوطنية والمجتمعات اللغوية ، حيث يمكن إعتبار اللهجة لغة في حالة إذا كانت عبارة عن وسيلة مفيدة للدولة المنظِمة (5).
اللغات ليست بالضرورة متطابقة مع نفسها في جميع أنحاء الإقليم الجغرافي الواحد، حيث يمكن أن تصل درجة الإختلاف إلى التواصل العشوائي وعدم التفاهم بين المتحدثين، الشيء الذي من خلاله نجزم القول على أن اللغة المستعملة ذات لهجات متعددة، فلا يمكن لأي مجتمع واسع أن يكون متجانسًا لغويًا، مما يؤدي إلى حتمية التحديد الممنهج للهجة المقصودة. عند تحديد مستوى التعامل كما يراه المختص مناسبًا ، يجب أن يعرض الاختلافات في اللغة/اللهجة على أنها اختلافات في نفس الاستخدام وليس باستخدامين مختلفين (6) و يتحكم في هذا التنوع اللغوي مجموعة من الظروف لعل أبرزها:
1ـ التقارب الجغرافي لمناطق معنية بالإختلاف اللغوي.
2ـ وظيفة اللغة في الوسط الإجتماعي؛ حيث أن لغة المقهى تختلف عن لغة المدرسة و العائلة.
3ـ المحيط و البيئة الإجتماعية؛ فلغة الفرد في الدشرة هي غيرها في المدينة، و اللغة في السهول و السواحل هي غيرها في الجبال.
4ـ العرق أو الإنتماء القبلي؛ بحيث تبدو الفوارق اللغوية جد واضحة بين قبيلة و آخرى في الدشرة الواحدة.
تعايش عدة لغات/لهجات في منطقة واحدة:
يعتبر التعدد اللغوي في منطقة معينة من بين المسائل التي ألقى عليها اللغويون (علم اللسانيات) الكثير من الضوء و الإهتمام و ذلك لحتميته في معظم لغات العالم، فوحدة اللغة في دولة معينة لا يعني بالضرورة وجود لغة واحدة ، بل أن التعدد اللغوي، في واقع الأمر، يفرض نفسه و ذلك لعدة أسباب تاريخية و جيوسياسية بحتة. فيستحيل على اللغويين أن يعتمدوا في أبحاثهم على لغة واحدة دون الدراسة الدقيقة للهجات المختلفة لقوة تأثيرو تأثر كل واحدة بالآخرى(7).
ففي ما يخص هذه المسألة، أي التفاهم و التعايش بين عدة لغات/لهجات، يقول اللغوي الفرنسي المشهور”آندري مارتيني”: “لا يمكن للغوي أن يكون راضٍ عن استخدام المصطلحات بناءً على ملخص للوقائع. للالتزام بالتعريف المعطى أعلاه لماهية اللغة، يجب أن نفترض أن هناك لغة بمجرد أن يتم تأسيس الاتصال في إطار تعبير مزدوج للنوع الصوتي، ونحن نتعامل مع لغة واحدة ونفس اللغة طالما أن التواصل مضمون بالفعل. وهذا يشمل الاستخدامات الحالية للمصطلح: فالفرنسية هي بالفعل الأداة التي يتم استخدامها بنجاح لتواصل عدد معين من البشر فيما بينهم. ولكننا لن نتمكن بعد الآن من رفض تسمية “اللغة” للهجة المحلية للفلاح في “الباسك” أو”البروتون”، وهي بلا شك أدوات لغوية للتواصل بين سكان الريف في منطقة معينة (8)”. فيمكن إذا للهجتين محليتين أن تتعايشتا جنبا إلى جنب في مكان واحد من دون أي خلط لغوي. فقد حدث، عبر التاريخ، أن تمازجت عدة أمم من دون أن يحدث أي إختلاط لغوي بين لهجاتها المحلية، ويكفي لإثبات ذلك إلقاء نظرة على الخريطة الحالية لأوروبا. ففي بعض الدول الأوروبية تصل درجة الإمتزاج اللغوي إلى حد كبير، في “مقدونيا” لوحدها يمكن مصادفة كل اللغات التي يمكن تصورها: التركية، البلغارية، الصربية، اليونانية، الألبانية، الرومانية، … إلخ (9).
اللغة الأدبية و اللهجة المحلية (10):
يرى “فرديناند دو سوسير” أن الإمتزاج و التعايش اللغوي لا يمكن أن يكون مطلقا، حيث يمكن تدمير الوحدة اللغوية عندما تتأثر لغة طبيعية (لهجة محلية) بلغة أدبية. يحدث هذا بشكل غير طبيعي عندما يصل الناس إلى درجة معينة من الحضارة. ولا نقصد “باللغة الأدبية” لغة الأدب فقط، ولكن ، بصفة عامة، أي نوع من اللغة المطورة ، سواء كانت رسمية أم لا ، و التي تُعنى لخدمة المجتمع ككل (11). فحين يحدث التقدم الحضاري بسبب تطور الإتصالات، نختار ، من خلال نوع من الاتفاقية الضمنية ، إحدى اللهجات القائمة لجعلها أداة لكل ما يهم الأمة بصفة عامة. وتتعدد أسباب هذا الإختيار التي يمكن حصرها في:
1ـ نعطي الأولوية للهجة المنطقة الأكثر تقدما حضاريا.
2ـ نختار المنطقة ذات النفوذ السياسي أو التي هي بؤرة للنظام المركزي.
3ـ المحكمة (القانون) هي التي تفرض لغتها على الأمة.
في حالة ترقية لهجة محلية معينة إلى رتبة لغة رسمية و مشتركة؛ فنادراً ما تبقى هذه اللهجة المتميزة كما كانت من قبل، بل تمتزج مع عناصر اللهجات في مناطق أخرى، وتصبح أكثر ترابطًا، دون أن تفقد تمامًا طابعها الأصلي. هذا هو الحال في اللغة الفرنسية الأدبية ، أين نتعرف على لهجة شبه الجزيرة الفرنسية، ولهجة “التوسكان” في اللغة الإيطالية المشتركة (12).
لغة أم لغات أمازيغية:
فكما لاحظنا أنه من البديهي أن لكل لغة لهجات قد تتعدد بتعدد الإنقسامات الجغرافية أو الإثنية في أي وحدة إقليمية معينة مع إمكانية التعايش اللغوي الذي، بطريقة أو بآخرى، يخدم التكامل الهوياتي للكيان الإجتماعي الواحد. ففي الجزائر مثلا، دون غيرها من دول العالم عموما، و الشمال الإفريقي على الخصوص، نجد أن ما يطلق عليه إصطلاحا “لغة أمازيغية”؛ هي في الحقيقة مجموعة لغوية مكونة من مختلف اللهجات و المتغيرات الممتدة على مختلف المناطق الناطقة بها، كل حسب نسق لساني محكم، فنجد: الشاوي، القبائلي، المزابي، الترقي، … إلخ.
يرى “سالم شاكر” أنه شريطة أن تنتمي إلى الأصل البربري، فإنه من الاستثنائي أن نجد وحدة معجمية للهجة معينة لا توجد بشكل أو بآخر في واحدة إلى عدة لهجات أخرى. و بعبارات لغوية صارمة، يبقى المفهوم الأحادي للغة البربرية صحيحًا تمامًا ومؤسسًا جيدًا. وقد لوحظ أنه لا توجد أبداً، داخل مجموعة البربر، أي تجمعات أو وحدات مفصلية (13) واضحة تجعل من الممكن تثبيت الحدود العازلة بين الأصناف المختلفة ومن ثم تحديد، على أساس لغوي صارم، مجموعات فرعية متجانسة يمكن اعتبارها لغات منفصلة (14).
من خلال هذا الطرح المختصر نفهم أنه في ميدان الدراسات اللغوية للأمازيغية قد تعددت الوسائل و الهدف واحد و هو العمل على تطويرها و ترقيتها، في أي بلد يذكر، حسب الإمكانات و السبل المتاحة من طرف السلطات السياسية في البلاد من حيث أنها تبقى المؤطر الأساس و مصدر القرار المركزي في هذه المسألة؛ إذ لم يبقى لنا سوى أن نبني كل الآمال المنشودة على النتائج المتوقع الوصول إليها من خلال البحث العلمي الجاد في المجالات المتخصصة في علم اللسانيات بكل فروعه المعروفة، من أجل الإرساء الحقيقي للإرادة الفاعلة و الفعالة لإقامة صرح المواطنة الواضحة المعالم و إزالة الترسبات التي تشوه المفاهيم العامة للهوية الوطنية. فهل يا ترى ستكون أمازيغية واحدة موحًدة و موحِدة، تجمع شمل جميع اللهجات و المتغيرات؟! أم سيكون الأمر كغيرها من اللغات العالمية التي مر تطورها بمرحلة الإنتقاء والعمل على ترسيم لهجة واحدة تكون هي أساسا و داعما عضوي لتطور اللهجات الآخرى؟
يونس أغڨّالي
قائمة المــــراجع :
(1). (2) : Ferdinand De SAUSSURE, cours de linguistique générale, de la diversité des langues, édition « Talantikit », p. 289-290.
(3). (4) : André MARTINET, élémént de linguistique générale, les fonctions des langues, édition « Mehdi », p. 34.
(5) : A. MARTINET, communauté linguistique et corps politique, p. 154.
(6) : A. MARTINET, la discréption des langues, variété des usages, p. 53.
(7). (9) : F.D. SAUSSURE, complications de la diversité géographique, coexistence de plusieurs langues, p. 293-294.
(8) : A.M, la variété des idiomes et des usages linguistiques, l’intercompréhension comme critère, p. 154-155.
(10) : L’idiome : langue/dialecte d’une communauté commune.
(11). (12) : F.D.S, langue littéraire et idiome local, p. 296.
(13) : Les faisceaux d’isoglosse.
(14) : Salem CHAKER, manuel de linguistique générale (2) ; syntaxe et diachronie, le lexique, p. 16-17.