رغم الإبادة العرقية والثقافية الّتي تعرّضت لها قبائل الهنود الحمر في الأمريكيتين، إلّا أنّ أثارها في الثقافة العصرية قد طبعت إحدى أكثر الصرعات انتشارا، ويكفي أن تبحث عن أصول أنماط الحلاقة التي تميّز محبي موسيقى الميتال، وسائقي الدّراجات النارية وكثير من المشاهير والرّياضيين، حتى تجد أنّها صرعات مستوحات من ثقافة الشيروكي والآپاتشي والموهيكان، وبذلك تحيى إلى اليوم تقاليد باد أهلها وانمحو عن وجه الأرض بفعل العدوان الأوروبي لأكثر من قرنين، ولم يبق منهم إلّا تقاليدهم.
على النقيض من الثقافة الآمازيغية، والشّاوية خاصّة الّتي تزخر بكمّ هائل من المادة الخام القابلة بكلّ سهولة للعصرنة والتطوير وإعادة الإحياء، ومنها في سياق حديثنا قصّة الشعر التقليدية المعروفة : هارقوشت ⵝⴰⵔⵇⵓⵛⵜ taṛqquct
ثارقّوشت (ⵝⴰⵕⵇⵓⵛⵝ – taṛqquct) هي قصّة شعر تقليدية شاويّة وآمازيغية معروفة عبر كامل الشمال الإفريقي، ميّزت الأطفال، أولادا وبناتا، في كثير من الصور واللوحات الفنيّة.
وتتمثّل هذه القَصّة في حلق شعر الرأس كاملا وترك شكل دائري على أعلى مؤخرة الرأس. وتتمّ هارقوشت أو آزكّوض في شكل احتفاليّ حيث يحلق شعر الطفل أو الطفلة البالغين من العمر سنة بالضّبط من قبل العمّ أو الجد (من جهة الاب)، بنزع شعر الرّأس كاملا ما عدى أعلى مؤخرة الرأس التي يترك عليها الشّعر في شكل دائري، يتحوّل فيما بعد إلى ظفائر (أنظر صورة الطفل)
بعد الحلاقة، يتم جمع الشّعر المنزوع ووزنه، وإخراج مبلغ مالي مقابل وزنه بقيمة الذّهب كصدقة تقدّم للزاويّة، ليتم بعدها خلطه مع الحنّاء وتشكيله في كرات صغيرة، يوضع بداخلها خيط وتترك حتّى تجف، على أن يكون عدد الكرات سبعة (عند آيث لموش) أو عددا زوجيّا (عند آيث وجانا)؛ وتعلّق هذه السلسلة على رقبة الطفل بعد أن تجفّ وتترك مدّة سبعة أيّام. ويحتفى مساء بهارقوشت بتحضير وليمة يدعى إليها الأقارب والأصدقاء، متكوّنة أساسا من “آبربروش” (الكسكسي) أو “آشخشوخ” (الشخشوخة) أو “آسكسو” (العيش) أو أيّ من أطباق الولائم، إضافة إلى الحلويات التقليدية مثل “آظمّين” أو “آرفيس”.
والكلمة الأقرب لمصطلح ثارقّوشت هي “آرقّوش” وترادف “هارعقيث” وهو اسم يطلق على قطعة الأرض المخصصة للحرث عندما تكون ذات مساحة صغيرة، كما ترادف أيضا “هابحيرث” أي البستان، أو المجال المخصص في الأرض لزراعة الخضر، كما يطلق اسم “آزكّوض” ( ⴰⵣⴻⴽⴽⵓⴹ- azekkuḍ) عند آيث لموش على وجه التّحديد، على الطّقس، ويروى أنّه ليس مقتصرا على الأطفال فقط بل إنّ بعض البالغين كذلك يقومون بقصّ شعورهم بتلك الطريقة.
ولا يزال إلى اليوم بعض ساكنة بلاد إيشاويّن يقصّون شعور أبنائهم وبناتهم عند وصولهم سنّ العام الواحد كتقليد عريق، يهدف حسب بعض المرويّات إلى مباركة الطفل وحمايته وإعطاء حياته نفسا جديدا أو كما يقال في الموروث الشّفهي “آذيمّوكس فلّاس تّنا” ( ⴰⴸ ⵢⴻⵎⵎⵓⴽⴽⴻⵙ ⴼⴻⵍⵍ-ⴰⵙ ⵜⵜⵏⴰ- ad yemmukkes fell-as ttna) أي حتّى يزول عنه التعب والثقل، ويخفّ الحمل عنه.
وتخصّ “هارقوشت” الأطفال الذين يبلغون السنة الأولى من حياتهم، ذكورا وإناثا، حسب روايات نسوة من أعراش مختلفة : آيث أوعقوب ساكنة ثالا وميمون (عين ميمون) وآيث وجانا ساكنة يابوس، وثاوزيّات، وافراقصو (بوحماما)، وآيث وعمّار ساكنة لحامّا وخنشلا، وآيث سعيذ ساكنة رميلا وقايس التّابعة إداريا لـ”ماسكولا (ولاية خنشلا)، وآيث سلّام ساكنة سوق نعمان، هامليلث (عين مليلة)، وإيسڨنيّين ساكنة ثيكرشث(عين كرشة) وييفكر (عين فكرون) وسيڨوس التّابعة إداريا لـ”ماقوميذاس” (ولاية أمّ البواقي)، وآيث بشينة ساكنة هاحيدوسث التابعة إداريّا لولاية باتنة، وكذا لدى امتدادات آيث سي زرارا بولاية قالما.
ولا تقتصر هذه العادة على بلاد إيشاويّن فقط، بل حتّى على امتداداتها المستعربة، إذ تظهر هارقوشت كتحليقة سائدة بين الصبية في رسومات الفنّان إيتيان ديني (نصر الدّين) (Étienne Dine (Nasreddine الّتي استوحاها من عيشه وسط ساكنة بوسعادا (أنظر معرض الصور في التالي) كما أنّ هذه القصّة منتشرة في كامل الشمال الإفريقي، وإن كانت تحمل أسماء أخرى ربّما.
هذا النمط من الحلاقة، الّذي يشبه في غرابته اليوم كثيرا من تحليقات معجبي الهيفي ميتال، والدرّاجين والشباب المتفتح على الثقافة الغربية ورياضات الإثارة والموسيقى العصرية، يبقى غائبا عنهم لسبب بسيط، وهو أنّ استعماله وإعادة إحيائه عمليّة تحتاج أوّلا اطّلاعا عليه ودراية به، وهو ما يغيب عن كثيرين جدّا، من المختصين الّذين اشتغلوا على بحث أدقّ تفاصيل المعيشية في بلاد نجد وأهملوا ميراثا حضاريا ثريّا جدّا، ها هنا تحت أقدامهم.
هل سنعيش لنرى هذا النوع من الحلاقة يتحوّل إلى صرعة موضة رائجة؟ وينتشر محييا بذلك جزء ضئيلا من ثقافتنا العريقة، خاصّة وأنّ كلّ مقوّمات العصرنة متاحة في مادّة خام غنيّة جدّا، وقابلة بكلّ سهولة للتطوير والتحسين؛ ومن سيفعل ذلك؟