الحاج محمد بورڤعة، نيرير الطيب، محمد لبايضي، وغيرهم من المطربين الذين اشتهروا في بلاد إيشاوين… تلك التي تمكّنت من الخروج من قوقعة المحلي إلى الإقليمي بل والعالمي آنذاك، تجعل المتتبع لمسيرتها يتساءل : ما السر وراء ذلك ؟
في مسقط رأسها بنواحي “هامشروحث ⵀⴰⵎⴻⵛⵔⵓⵃⴻⵝ” (المشروحة) تحديدا في دوّار “آيث بربر” التابعة لولاية سوق اهراس حاليا (أو ثاڤاست)، يتناقل الجيل القديم، بشيء من التقديس، التقاليد التي أرستها أسطورة الفن الشعبي بمنطقة شمال آوراس؛ حدّا الخنشا، أو “بڤار حدّا ⴱⴻⴳⴳⴰⵔ ⵃⴻⴷⴷⴰ Beggar Ḥedda” المولودة في شهر ينّار (جانفي) 1920، الفنانة المغنية والشاعرة الثائرة.
“هزيت عيوني .. قابلوني جبال لْمْشْرُوحَا .. جبال لمشروحه القلب مليان .. والكبده مجروحة”
…تقول حدّا في إحدى أغانيها ذات طابع “الركروكي البحري”. سيلتمس كلّ من يستمع إليها، أنينا وألما ليس سببه الفقر فقط، بل الوجع الّذي لازم حياة الفنّانة، الفتاة التي زفّت إلى شيخ طاعن في السّن، وعمرها 14 سنة؛ وفاءً لعرف منافٍ للإنسانيّة. ووجع آخر، سبّبته العاهة التي لازمتها وكانت سبب تسميّتها بالـ”خنشا”. وسط طفولة لم تعشها زادها الحرمان والفقر والعوز، وسيطرة أعراف متسلّطة، كانت كأترابها ترعى الغنم بمسقط رأسها، وتدندن .. لاحقا، حفّزت كل تلك الظّروف القاسية والضّغط والتسلّط، ولادةً عاجلة لروح ثائرة تمرّدت على أعراف المجتمع كلّها، وصدحت بنبرة ناقمة على كلّ ذلك.
تقول المرحومة : رغم حبي لإبراهيم كثيرًا إلا أن أحببت أن أرى كيف ستكون الجزائر، وفي كوخي الصّغير غنيت في الليل أغنيتي الأولى، التي تعود ذكراها لوقوفي أمام والدي وأصدقائه. بحبّ رفعني للسّماء وقال: «غنّ يا حدّا الفحلة».
الزواج الثاني؛ البداية لعصر ذهبي…
عرفت الفنانة أوج شهرتها عندما دخل حياتها “آقصاب” (عازف آلات القصبة-الزرنة-الغايطة) إبراهيم بن دباش لتنشأ بينهما علاقة حب كلّلت بزواج غير مألوف أواخر الثلاثينيات، تتحدث الراحلة عن هذا الحب : متعة الهروب أغرتني أكثر من البقاء مع رجل لا أحبّه، لم أكن ذميمة الخلقة وكان صوتي أجمل من أن يُرى، زوّجوني لرجل عجوز وعمري أربعة عشرة سنة، وطلبوا منّي أن أرضى بمصيري ولقّبوني ﺑ «حدة الخنشة»، لكن إبراهيم القصّاب الذي أحبّني دون أن يراني أرسل رسائل حبّه لي من خلال عزفه، فهمتها، مزمار يتغزّل بصوت، علا صوتي كما يعلو ريش الطاووس ليخبر بأن الألوان تتعدد لتبهج الرائي، التقيته في ليل مظلم، بعيدًا عن مكان العرس الذي كنت أغني فيه. سألته: ماذا أتى بك هنا؟ لتكون الإجابة: ماذا أتى بك إلى هنا؟ من وقتها لم أسأل أيّ سؤال لأنه فهم إشارات أغنيتي كما فهمت إشارة مزماره. ألا يستحق الحبّ أن يبدأ بإشارات كاختبار أول للحبيب؟
بعد حادثة بقيت عالقة في أذهان سكان مشروحة بمدخل ولاية سوق أهراس ناحية قالما؛ حيث فرّ “بن دباش” و”حدّا” معا، بعد عرس كانت تحييه في المنطقة. تمّ الزواج، وانفتحت لـ”حدّا الخنشا” بذلك أبواب الشهرة، فجابت الفنانة رفقة زوجها العديد من المناطق الفرنسية التي تشهد تواجد المهاجرين من منطقة بلاد إيشاويّن والشمال الافريقي بصفة عامة، على غرار مرسيليا، ليون، باريس، سانت إيتيان وستراسبورغ وغيرها من المدن الفرنسية أين أحيت سهرات فنية كثيرة، لم تسجّل للأسف أيّ منها أو تذاع.
قبل الاستقلال، أواخرَ الخمسينيات تعاملت الفنانة مع Edition Sar التي كان مقرها في فرنسا، كما بثت الإذاعة الوطنية في الماضي العديد من أغاني الفنانة لكنها لم تسجل للإذاعة مطلقا.
الوطن والثّورة في تراث “بڤار حدّا”
إلى جانب الحب والشوق، ظلّت صاحبة رائعة “هزي عيونك راهم شافو فيا” لسنوات متوهجة بصوتها وحضورها تصنع الفرح وتشيع البهجة لغاية اندلاع ثورة نوفمبر في آوراس، أين عايشت عن قرب، وهي ابنة المنطقة كفاح الثوار بالقاعدة الشرقية ضد الاستعمار الفرنسي، ليصدح صوتها هذه المرة بأغاني الثورة؛ بين تمجيد ورثاء لروح الشهداء جسدتها في أغاني “الجندي خويا”، و”يا جبل بوخضرا” التي يعتقد أنها غنتها بعد قصف قوات المحور (الإيطالية) لقوات فرنسية بالمكان .. فيما يذهب آخرون لكون الجبل عرف حريقا مهولا في عشرينيات القرن الماضي بسبب البدء في استغلال مناجم الحديد بالمكان، إضافة إلى أغنيّة “دمو سايح” الّني يعتقد أنها رثاء لروح الشهيد عباس لغرور. أغان كثيرة، لـ بقار حدّة بصمت بها يوميات الكفاح التحرري إلى غاية استقلال البلاد. وغنّت أيضا بعفويّتها المعروفة للحرية والنصر والاستقلال. كانت تتنقل بين قرى وارياف سوق اهراس وحوز تبسة وعنابة تحيي حفلات غنائية ضخمة لأكبر العائلات وحتى لمسؤولين كبار في الدولة.
الإذاعة الوطنية لم توفي الفنانة حقها
لا يعرف الجيل الجديد اليومَ، عن الفنانة شيئا؛ رغم أن هناك من أعاد بعض أغانيها، كما أن البعض أعاد ما تغنت به “بڤار حدّا” وتنكر لذلك. ساهم التهميش الإعلامي بعد الاستقلال في طمس حياة الفنانة، فلم يسجل التلفزيون لها سوى حصة أعدها “لحبيب فوغالي” من محطة قسنطينة أواخر السبعينيات، فيما اكتفت الإذاعة بمجرد بث أغانيها دون أدنى تعريف بها.
ومن الفنانين الذين أعادوا أغانيها: يمينة، سليمان القالمي، الذي يقلد نبرتها أحسن تقليد، الشيخة موني، جميلة العنابية التي تنحدر من نفس منطقة المرحومة وأعادت الكثير من أغانيها منها “يما لعواشة بحلالتك محتاجة”. كما يعتبر المرحوم “سماعيل بلغريب” والمعروف بـ “إسماعيل القطاري” أكثر الفنانين اشتغالا على أعمال المرحومة، فأحيى كلماتها في رتم سريع وايقاع عصري ساعده في ذلك قصابه المعروف بالطاهر “لاندياني” الّذي يعتبره أصحاب حرفته، الابن الرّوحي لـ”بن دباش” في أسلوبه وطريقة عزفه. إضافة إلى الفنّانة “حوريّة عايشي” الّتي أعادت أغنيّة “ارول آلزرڨ ارول”.
وفاة بن دباش.. بداية النهاية
بعد وفاة الزوج و الحبيب ابراهيم سنة 1988 افترقت الفرقة الموسيقية التي كانت عائلتها الوحيدة، ووجدت “بڤار حدّا” نفسها تعيش وحيدة، بعيدة عن الأضواء في كوخ بقرية بولاية سوق أهراس، لتقرر التنقل إلى عنابة، أين قضت آخر أيامها في غرفة تشبه القبو بالطابق السفلي لإحدى العمارات بشارع 01 نوفمبر.
كانت آخر مرة خرجت فيها “بڤار حدّا” من العتمة إلى النور من خلال حصة “مساء الخير ثقافة” التي استضافتها (لأول وآخر مرة) سنة 1992، لتفارق الحياة بنفس القبو وبنفس العمارة، أين كانت تعيش فقيرة معدمة واضطرت إلى بيع أثاثها البسيط لشراء حاجياتها البسيطة لغاية وفاتها في صمت، بعد أن غنت متمرّدةً على بيئة ترى في غناء المرأة عاراً، وأصبحت مطربةً ذات خصوصية وتفرّد طيلة الخمسينيّات والستينيات، بصوتها الجبلي ولهجتها “الشاوية” التي ترافقها آلة “القصبة” وعبرت أغانيها حدود منطقة “آوراس” إلى العالميّة.
ليتوقف نفسها ذات سبتمبر 2000 في صمت رهيب لروح كان قدرَها الحبُّ والموسيقى معاً.
أيوب بوعزيز