على هامش يوم اللّغة الأم : المجد للأطفال .. المجد للفتيات.
على هامش اليوم الدّراسي الّذي أقامته جمعيّة “ثاموسني” الثقافية، بمناسبة اليوم العالمي للغة الأم، بزوي (اولاد رشّاش) التّابعة إداريا لولاية خنشلة (ماسكولا)، السبت الفارط (27 جانفي 2016) تقرّر بالتنسيق بين أعضاء الجمعية والأستاذة حرّاث سميّة تنظيم ورشة “ثمازيغت للأطفال”، والّتي يبدو أنّها تحوّلت إلى عادة تتخلّل كلّ تظاهرات “زوي”. فأوّل مرّة كانت خلال احتفاليّة ينّار 2965 الّتي ميّزتها ورشة أطفال، كان لي الشّرف أن شاركت فيها بتحفيظ حوالي 15 طفلا نصّ المقطع الأوّل من النّشيد الوطني الدّزيري في نسخته الشّاوية بالتشاور مع مترجمه الشّاعر والكاتب : بشير عجرود، وبموافقته .. وكانت الرّوعة؛ فقد صدَم الكثيرون ليس فقط لبلاغة التّرجمة، التّي لا تخالف ما عوّدنا عليه هذا الشّاعر المتمكّن، بل لروعة آداء الأطفال الّذين أصرّو على اعتلاء المنصّة في نهاية الحدث، وإنشاد “تجاليث” (قسما).
هذه المرّة كانت لي عودة إلى “زوي” مع عدد يفوق 30 طفلا، أغلبيّة ساحقة منهم فتيات، وهو ماكنت أتمنّى بصراحة، فالفتيات هنّ المستقبل، هنّ الأمّهات، هنّ اللّغة الأم .. والمجد للفتيات .. اللّغة الأمّ في عيدها الّذي أقيم اليوم الدّراسي بمناسبته، ترزح تحت وطء استلابهنّ إلى كلّ ما يأتي من الشّرق غالبا، وما يأتي من الغرب أحيانا. أقول “استلاب” وأقصد هجرا تامّا لكلّ ما هنّ عليه واعتناقا كاملا لكلّ ما يردهنّ وليست أمّهاتنا وأخواتنا يالغريبات عنّا، كما نعلم.
حتّى قبل احتكاكي بهؤلاء الأطفال للمرّة الثانية خلال سنتين، اقتنعت أنّ عودة لغتنا الأمّ، واستتباب هويّتنا في مواجهة المدّ التمشرقيّ، خاصّة، والتّمغربي لن يكون إلّا على أيادي النساء النّاعمة، ولن تقوم لنا من غيرهن، على رأس المسيرة، قائمة. وزاد اقتناعي هذه المرّة حدّ الإيمان، بنساءٍ لا أقول سليلات ذايا (ديهيا) فقد أصبح التّعبير مبتذلا، بل أشدّ عزما وقوّة وصرامة من ذايا الأسطورة، التّي عاشت في زمن خلَا، وتعشن هنّ اليوم، وإحداهنّ زوجتي.
وصلت للأسف متأخرًا إلى الورشة، وباشرت بسرعة تركيب عتادي وفي ذهني تراكيب وسيناريوهات لا حصر لها عمّا سأصوّر وما سألتقط من صوت، لكنّ كلّ تلك الخطط انتسيت بصراحة وأخذها ريح تفاعل أولئك الأطفال مع حرف تيفيناغ .. كان الأطفال قد حفظو حروف تيفيناغ وبدؤو في استعمالها حين وصلت، لم يهمّني، صدقا، ما كانو يكتبون أو يرسمون بل كيف كانوا يتفاعلون معها في رسومات وأشغال يدويّة وجمل وخربشات تستحقّ جداريّة على مدخل المدينة، في رأيي، لأنّها ستكونُ أثرا من الجيل الّذي سيفعل ما عجزت عنه الأجيال التي سبقتني، وجيلي .. سيعيد لهذه الأرض ذاتها.
بعض الأطفال تذكّرني من الورشة الماضيّة، كلّ من حضرها يتذكّر النشيد الوطني ستشاويث عن ظهر قلب، استعرضوه واحدا واحدا على مسمعي دون أن أطلب ذلك. القادمون الجدد تملّكهم الفضول فطلبوا من أصدقائهم تعليمهم إيّاه وكذلك فعلوا.
سيدهشكم ما يمكن للأطفال أن يتذكّروا، خاصّة الفتيات منهم؛ الكبار لا ذاكرة لهم، ولا شغف، ولأنّ ثمازيغت للكبار فإنّها لن تمضي خطوة واحدة للأمام، أتجرأ وأقول هذا لأنّي أمضيت أكثر من أربع سنوات في تحفيظ كثيرين من أبناء جيلي “تيفيناغ” الحرف والرّوح، ولكّنهم يسألونني في كلّ مرّة عنها كأنْ لم يسمعوها منّي. الأطفال حفظوها عن ظهر قلب، وصارت جزءًا منهم.
أربكتني أسئلة البعض، لكنّ سؤالا حزّ في نفسي أكثر من غيره: “ملمي آنلمذ هشاويث ڨْ غرباز؟” (متى ندرس هشاويث في المدرسة؟) سؤال طرحته عليّ طفلة دارجوفونيّة لا تحسن هشاويث، كبعض المشاركين في الورشة، عزّ عليّ أن أجيبها بأنّ والديها أصابهم داءٌ تصعب مداواته، وأنّ حكومة بلدها لا تعتبر لغتها لغة، وأنّ كثيرا من المدافعين عن هذه اللغة يتاجرون بها.
أخيرا انتهت الورشة، تمنّيت ألّا تنتهي، وعاد الأطفال إلى بيوتهم ملطّخين بالحبر والصباغ بعد أن عاثوا في القاعة فوضى ولعبا وغناءً في نهاية الورشة، ثمّ نظّفوها فعادت كما كانت، وعدت إلى البيت مساءً وقد لوّثت صفاء ذهني عبارة واحدة تتكرّر : متى نتعلّم من الأطفال؟ .. المجد لهم.