أنا إنسان من صنع جزائر الإستقلال، خريج المدرسة الجزائرية مئة بالمئة. عشت الأيام الأخيرة للثورة والأولى للإسثقلال . رأيت بأم عيني أنا وأقراني الأطفال ، جنود جيش التحرير ينزلون من الجبال ، بأثياب رثة وقشاشيب أوراسية بالية ، وأحذية ممزقة ، يحملون رشاشات وأسلحة أخرى خفيفة لا نعرفها . كم كنا نشعر بالأمان بجانبهم ، وهم يغدقون علينا بقطعة نقود ، أوحبة حلوى كانوا قد خبؤوها للأطفال في جيوبهم خصيصا لهذااليوم . كان الواحد منهم ينصب رشاشه تحسبا لأي طارئ أو مباغتة من طرف الإستعمار الذي لم تنقطع فلوله بعد . وآخرون ينظمون استعراضا تحت تصفيرات الإيعاز من قائدهم.وهم ينشدون قسما ، ومن جبالنا ، وجزائرنا . كنا لا نفهمها، ولكن وقعها في نفوسنا تقشعر له الأبدان . كان الكهول والشباب من أبناء الشعب، في قرية تاقوست المجاهدة ،يحملون أكياسا بيضاء ، لجثامين الشهداء ، ملفوفة بالعلم الوطني ، وهم ينشدون : ” إخوني لا تنسوا شهداكم … “.
دخلنا مدرسة الإستقلال ، بدأت دروس العربية والفرنسية ثم الإنجليزية فيما بعد . كنالا نعرف من العربية إلا ما تعلمناه في المدرسة . حدثت القطيعة بين البيت والمدرسة . أصبحت اللغة الأم لامكان لها رسميا . في المدرسة والإدارة والإعلام .كل مانسمعه على ألسنة معلمينا ، ونقرأه في الكتب المقررة : ” أنا عربي ، العروبة والإسلام ، الأمة العربية ، العربية لغتي…” العين والراء والباء ، حروف تنغدى بها ونتعشى بها، ونتنفسها مثل الهواء الذي نستنشقه، والماء الذي نشربه . بدأ الشعور بالنقص يسري في نفوسنا سريان الأفيون في عقول مدمنيها . كنا ننظر إلى أقراننا الناطقين بالعربية على أنهم صفوة الخلق ، لأنهم يتكلمون العربية ، وكانوا ينظرون إلينا على أننا حثالة الخلق ، لأننا نتكلم الشاوية . كان المسؤولون في المدرسة وفي أعلى المستويات ، يشجعون هذاالشرخ بين أطفال الجزائر المستقلة .
فرغم إقصاء الأمازيغية من المدرسة وتهميشها وتخوينها ولعنها ، بقرارات سياسية ، إلا أن ما يسجل لصالح مدرسة الإستقلال ، هو الطابع شبه علماني لهذه المدرسة ، حيث كان التنافس بيننا شريفا ،همنا الوحيد هو العلم والنجاح ،ولايوجد في قاموسنا مايسمى ” الغش “، وحيث كانت التربية الإسلامية لاتدرس خارج المقررات الدراسية ، وكان أستاذ التربية الإسلامية يلتزم بما ورد في المقرر الدراسي دون اجتهادات أو تأويلات أيديولوجية أوسياسية ، مثلما يحدث الآن . حيث أصبح أطفالنا في المدرسة فريسة سهلة لجميع الإيديولوجيات الهدامة ، والتجهيل والإستغباء . فأصبح الغرض من تدريس التربية الإسلامية يؤدي إلى نقيض التربية . يدرسون ” من غشنا ليس منا “، ويغشون في الإمتحانات ، والأمثلة عن الآفات الأخرى كثيرة . تصوروا أستاذ الرياضيات أوالفيزياء أوالعلوم، يوقف الحصة ليفتي لتلاميذ في أمور الدين ؟ تصوروا أستاذة العربية تقول لتلاميذها أن الشهداء مأواهم النار، لأنهم لم يموتوا في سبيل الله ،بل ماتوا من أجل حفنة من تراب؟ تصوروا أستاذ الشريعة يفتي لتلاميذه بعدم جواز الوقوف للعلم الوطني واعتبار ذلك شركا بالله ؟ يحدث هذافي المدارس الرسمية للدولة أمام أعينها وأعين أولياء التلاميذ الذين لم يحركوا ساكنا .ومايحدث من غسيل للمخ في ما يسمى بالمدارس القرآنية ، ،وبعض مكاتب جمعية العلماء، وبعض المساجد ، والجمعيات الخيرية .أعظم.
إذا كانت (( المجتمعات تقاس بمدرستها )) كما يقول أحد المفكرين ، وهذا هو حال مدرستنا ، فإلى أين ذاهبون ياترى ؟ هذه هي نتائج الكذب على الأطفال منذ الإستقلال .” أناعربي ” لقد سلبت هوية الشعب بالكذب والنفاق والتظليل ، والصراع على السلطة. فألبسوه هوية لاتمت لتاريخه ووطنه بصلة . أصبح يمشي مشية الغراب ، قابل للإنحلال والذوبان والإستعمار . فأين عرابي العروبة في الجزائر؟ . مصالي الحاج ، أحمد بن بلة ، هواري بومدين ، وكل أشباه المثقفين ، مثقفو القصور والمصالح الشخصية الضيقة والإنبطاحية . لمن تركوا الوطن ؟. من يدفع الثمن الآن ؟ إنه الوطن الذي ضحى من أجله الشهداء هو من يدفع الثمن وحده .
ثم يأتي ظهور الأحزاب الإسلامية ، التي أنتجتها السلطة لانتقاء معارضة قريبة من إيديولوجيتها العروبية ، ولتخدير الشعب وإلهائه في مشاكل هامشية ، وهي تعلم أن ليس لهذه الأحزاب ما تقدم إلا اللغو والغوغاء .
هذه الأحزاب التي تلغي تاريخ وهوية الشعب الجزائري إلا ما بدأ من عهد الفتوحات .
والحزب العتيد الذي يؤرخ للجزائر من سنة 1832 فقط. لصالح من هذا التلاعب بهوية وتاريخ وطن ؟ . أليس لصالح فرنسا التي قالت للجزائريين إن بلادكم حديثة النشأة ، ولم تكن آهلة بالسكان قبل الفتوحات الإسلامية ، فأنتم عرب وافدون . فلها الحق إذن في احتلال هذا الوطن لأن العرب غزاة، ولم تكن هذه الأرض ملكا لأحد قبل ذلك ؟ لذا فهي تشجع التعريب أثناء الإحتلال من خلال المكاتب العربية ، وعن طريق عملائهابعد الإستقلال .
فلو حددت الأهداف الكبرى للمدرسة الجزائرية منذ الإستقلال ، ومن هو الفرد المراد تكوينه ؟ لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه . المواطن الجزائري الذي يحس بالإنتماء لهذا الوطن ، ويعتز بتاريخه القديم والوسيط والحديث والمعاصر ، ويقرأ عن بطولات أجداده وانتصراتهم وانتكاساتهم . يعرف جغرافية بلده ومواقعه الأثرية والحضارات والثقافات التي مرت ببلده . وأن يقرأعن أعلامه ومدى مساهمتهم في بناء الحضارة الإنسانية .
وأن تكون الأمازيغية إلى جانب العربية في المدرسة ووسائل الإعلام . كي نحقق الإنصاف بين أطفال الوطن الواحد ، بدلا من خلق عقد نفسية ، والإحساس بالتفرقة بين أطفال الجزائر . مع التفتح على جميع اللغات الحية للضرورة العلمية . وتلقينه مدى مبادئ التسامح الديني و مبادئ احترام الصداقة بين الشعوب ، واحترام الآخر ، وحق الإختلاف .
فلو قمنا بذلك منذ الإستقلال ، لأكسبنا الشعب مناعة طبيعية غير مصطنعة ، بدلا من حل مشاكلنا أمنيا في كل مرة . لو قمنا بذلك منذ الإستقلال ،لما وصلنا إلى سنوات الإرهاب .
لو قمنا بذلك ، أيخرج مدني مزراق على قنوات الخيانة والعمالة ، ويفتخر بقتله لإخوانه الجزائريين ؟ ثم يعين كشخصية وطنية يستشار في دستور الجمهورية الجزائرية ؟
لوقمنا بذلك ، أتحدث فتنة غرداية بين أبناء الشعب الواحد ؟
لوقمنا بذلك ، أنخاف باعوض داعش ، الذي أنتج في مخابر الإستعمار لاستهداف العقول والأوطان ؟
لو قمنا بذلك ، أيوجد فينا من يصدق خرافة الإسلام السياسي ودولة الخلافة ؟
لو قمنا بذلك ، أيكون فينا لصوصا وسراقين يخربون بيوتهم بأيديهم ؟
لوقمنا بذلك ، أتجرأ دويلات مثل قطر والسعودية بإهانة بلد المليون ونصف المليون شهيد ؟
وفي الأخير أشكر البوابة الثقافية الشاوية (إنوميدن) ، والتي أعتبرها شبيهة ببندقية الصيد التي حارب بها أجدادنا أعتى قوة في العالم.
أخوكم : مسامح عبد السلام . مواطن جزائري .