يبدو أن القومجيين عندنا بدؤوا يتخلّون عن اسطورة “الهجرات اليمنية” و انصرفوا يبحثون عن اسطورة انتماء اخرى. و قد وجدوا في تاريخ تأسيس قرطاج من طرف البحارة الفينيقيين ما ينسبهم الى هذا المشرق الاسطوري الذين فُتِنوا به .
ألم نسمع مؤخرا المدعو محمد الامين بلغيث يقول على قناة الشروق الجزائرية “اسلافنا الفينيقيين ” !
و من أجل خدمة هذه الاسطورة الجديدة يتم الترويج عبر وسائل الاعلام المعهودة لجملة من المغالطات التاريخية منها تقديم الحضارة القرطاجية على أنها حضارة شرقية خالصة و نفي أي اسهام للأمازيغ فيها عبر تدوير بعض الكليشيهات الكولونيالية القديمة .كما يقوم هؤلاء المدلّسون بالخلط بين لفظي “الفينيقيين” و “البونيقيين” لايهام الناس أنهما مترادفين .
من هم الفينيقيون ؟
لعل اقدم النصوص التي اوردت اسم الفينيقيين و تحدثت عنهم هي اشعار هوميروس صاحب الملحمتين . و جاء اسم الفينيقيين في كتب المؤرخ اليوناني هيرودوت و غيرهما كثيرون . فالكلمة اليونانية التي استخدموها في هذا الصدد هي
“Phoinikes ” و هي نفس الكلمة التي وردت في المصادر اللاتينية ك”تيت ليف” (Tite-Live) و الشاعر فيرجيليوس (Virgile) فقد تحدثت كذلك عن الفينيقيين و سمّتهم Phœnices .
و الفينيقيون حسب هذه المصادر يقطنون باقصى السواحل الشرقية من البحر المتوسط و هو ما يقابل لبنان الحالية و اشهر مدنهم هي صور , جبيل , صيدا .
و كلمة Phoinikes مشتقة من الكلمة اليونانية Phoinix و التي تعني صباغة الارجوان التي اشتهر بها التجار الفينيقيون و كانت هذه المادة تستخرج من احد انواع المحار الذي يوجد بوفرة على السواحل اللبنانية .
كان الفينيقيون من كبار التجار في عصرهم مما جعلهم يجوبون البحار و يؤسسون المصارف و المدن على شواطئ البحر المتوسط .و في اواخر القرن التاسع قبل الميلاد اسسوا مدينة على الساحل الغربي للمتوسط قرب “توناس” الامازيغية , سموها “قرت حدشت” التي تعني “المدينة الحديثة” و اعترى العبارة الفينيقية تحريفات صوتية كثيرة حتى بَلَغتنا اليوم بصيغة “قرطاج” .
و حسب المؤرخين فمدينة قرطاج كانت تدفع ضريبة سنوية للملك الامازيغي “يرباص” و ذريته من بعده طيلة قرون الى أن اشتد عودها و فرضت نفسها كقوة بحرية و عسكرية منافسة لروما . فقرطاج اذن مدينة فينيقية باعتبار مؤسسيها .
من هم البونيقيون ؟
ظهرت في المصادر اللاتينية كلمة جديدة هي “Pœni” للإشارة الى الذين في رأيهم ينتمون الى الحضارة الفينيقية و يقطنون السواحل الغربية للمتوسط. و كلمة “Pœni” مشتقة من نفس الكلمة اليونانية التي تولد عنها اسم الفينيقيين أي مادة Phoinix التي تعني الأرجوان كما أسلفنا . و لكلمة Pœni اشتقاقات عديدة منها النعت Punicus و اليه تعود كلمة “البونيقيون” (les puniques) .
يبدو اذن أن المؤرخين اللاتينيين يفرقون بين الفينيقيين في الشرق فيسمّونهم Phoinikes و بين فينيقي الغرب و يسمّونهم Pœni .
هل هذا التفريق يستند الى المفهوم الجغرافي فقط ؟
ينفي المؤرخ التونسي محمد فنطر ذلك و يقول ” إن البونيقيين هم الذين ينتمون الى الحضارة الفينيقية و يقطنون بربوع تهدهدها أمواج غربي البحر الابيض المتوسط . على أن ذلك لا يحتم انتسابهم جنسيا الى الذين أقبلوا من السواحل اللبنانية بل من المرجح انهم ينتسبون غالبا الى الارض التي حل بها ركب الفينيقيين . فالبونيقيون في مغربنا مثلا هم نتيجة لقاء الأفارقة بالعناصر الفينيقية التي أقبلت من الشرق . و قد يكون ذلك اللقاء حضاريا و قد يكون صهرا بين الأجناس. مع الملاحظ أن المزج بين الأجناس كثيرا ما يكون سببا أو نتيجة للقاء الحضارية “[1].
و يستطرد السيد محمد فنطر قائلا ” كذلك نتبين أن البونيقيين ليسوا أولائك الفينيقيين الذين غادروا صور أو جبيل أو صيدا و أسسوا مدنا على شواطئنا كأوتيك و لبدا و استوطنوها, بل هم الذين تولدوا عن ذلك اللقاء الحضاري بمعناه العميق الفسيح . فالحضارة البونيقية ليست حضارة الفينيقيين بغربي البحر المتوسط بل هي حضارة طريفة تولدت عن احتكاك الحضارة الفينيقية الشرقية بحضارات وجدها الفينيقيون في ربوع تطل على مياه غربي البحر الأبيض المتوسط .
ان الحضارة البونيقية في بلادنا هي نتيجة احتكاك الحضارة الفينيقية الشرقية بحضارة الأفارقة ” .
ويختم محمد فنطر قائلا “فالفرق في رأينا بين الفينيقيين و البونيقيين كبير و له أبعاد مختلفة منها الجغرافية و منها السياسية و منها البشرية و ينتج عن ذلك كله أبعاد حضارية “.
و يقول غابريال كامبس “منذ بدايات قرطاج كان هناك كيانين : التجار المشارقة و نوع من السيادة الليبية . هذه السيادة امتدت لقرون لأن قرطاج استمرت في دفع ضريبة سنوية مقابل الاراضي التي كانت تشغلها . وُلدت الحضارة البونيقية من التقاء الكيان الشرقي مع الكيان الافريقي . فهي ليست مجرد اعادة زرع ما كان في صيدا و صور على الارض الافريقية . ان ارتباط الافارقة القدامى بالحضارة البونيقية دليل على انها لم تكن غريبة عنهم بل انها نشأت في وسطهم , في مدن لم تفلح اسمائها السامية من حجب الاسهام الاثني الافريقي فيها “[2].
أما في رأي كريستيان كورتوا فلفظ “بونيقي” الوارد في بعض النصوص التاريخية يُقصد به الأمازيغ . فيقول “نصوص تاريخية كثيرة تبيّن أن الألفاظ poenus و punicus لم يلبثا أن تجاوزا معناهما الاصلي , على الاقل ابتداءا من حقبة حكم شيشيرون (Cicéron) , لم تعد هذه الالفاظ تنطبق فقط على القرطاجيين و ما يتّصل بهم , بل تعدّتهم الى الافارقة بشكل عام و ما يتعلّق بإفريقيا “[3] .
فاللفظين “فينيقي” و “بونيقي” ليسا اذن مترادفان . و أن الامازيغ لم يكونوا مجرد متفرجين سلبيين يتلقّون حضارة جاهزة جاءتهم من المشرق بل كانوا مساهمين فعّالين في نشأة هذه الحضارة البونيقية التي بسطت سيطرتها لقرون على غرب البحر المتوسط .
يوغرطا حنّاشي
[1] “الفرق بين الفينيقيين و البونيقيين” محمد فنطر
[2] Camps Gabriel. Les Numides et la civilisation punique. In: Antiquités africaines, 14,1979. pp. 43-53;
[3] Courtois Christian. Saint Augustin et la survivance de la langue punique. In: Comptes rendus des séances de l’Académie des
Inscriptions et Belles-Lettres, 94ᵉ année, N. 3, 1950. pp. 305-307;