إن ثقافة “العطلة” (Vacation culture) التي سادت العالم الحديث، هي واحدة من أكثر الظواهر تأثيرا اليوم، ففترة الانقطاع عن الجهد بعد مداومة والسفر داخل أو خارج بلاد بعينها كنوع من المكافأة الذاتية، عامل ذو آثار واستقراءات نفسية واجتماعية وثقافية عميقة جدّا، وفعل ذو آثار اقتصادية وسياسية معتبرة. فالفرد الذي يسافر ويقيم لفترة بعينها خارج محيطه المعتاد لسبب أو لآخر يتأثّر/يؤثّر على جميع الأصعدة المذكورة، في محيطه والمحيط الذي يقصده، وجماعية هذا السلوك هي ما يعتمد عليه اقتصاد أكبر دول العالم اليوم، وما يتسبب، تبعا لثنائية التأثير والتأثر، في رقيّ وازدهار مجتمع أو انحطاط وانحدار آخر.
تتمتّع بلاد إيشاويّن بتنوع فريد قد لا تكاد تملكه منطقة أخرى في “دزاير” (الجزائر)، فجغرافيتها بين الجبل والسّهل والهضبة والصحراء، والمنابع طبيعية ساخنة وعادية والوديان والمسطّحات المائية، ثريّة متميّزة متمايزة من الناحية الإيكولوجية ما يجعلها قبلة جيدة جدّا للسياحة الطبيعية. وتاريخها العريـق العامر بالمآثر والمحطّات أكثر من ملائم لتأسيس سياحة “تاريخية” تستثمر فيها مواقع المعارك والمحطّات التاريخية الكبرى، وتحال بإمكانيات بسيطة إلى محجّات سياحية تستقطب الملايين سنويا. التراث الآركيولوجي الشامل لجميع مراحل التاريخ الإنساني أيضا مقوّم آخر من مقومات السياحة في آوراس آمقران، يضاف إليه التراث الثقافي الغنيّ حدّ الإبهار من عادات وتقاليد وميثولوجيا وطبخ ولباس وصبغة مجتمعية فريدة.
مجتمعة، تعدُّ هذه العناصر والعوامل خلطة ممتازة من أجل معادلة سياحية “كاملة” قد تكون، منفردة، كافية من أجل النهوض اقتصاديا في ظرف قصير نسبيا بمنطقة آوراس آمقران. إضافة إلى أنّ مناصب الشّغل التي تستحدثها السياحة، قارّة كانت أو موسمية، حتّى وإن كانت جهوية، ستكون إحدى أهمّ موارد الدّخل للساكنة الذّين سينعشون بدورهم اقتصاد البلاد بوصفهم “دافعي ضرائب” .. أي أنّ المنفعة عامّة!
على ذلك تقبع المواقع الطبيعية والتاريخية والآركيولوجية في بلاد إيشاويّن تحت وطء التآكل الطبيعي والسرقات المنظمة والتّخريب العفوي للوافدين والساكنة، محرومة من أبسط المرافق، الضرورية منها للحياة فما بالنا بالكمالية. شرفات غوفي، مدينة تابردڨا، قلاع إيغوسار، حظيرة بلّزما، غابات شليث (شلية) وبوحماما، والحامّا، حمّام الصالحين، والكنيف، ضريح إيمدغاسن، وماسنسن، وسيدياس، وقصر ذايا (ديهيا-الكاهنة)، إيغزر نييڨليذن (وادي الملوك)، آنو نْذايا (بئر الكاهنة)، ووو …إلخ مواقع كثيرة كثيرة جدّا لا يمكن بحال أن نلمّ بها في مقال أو دراسة أو حتّى كتاب، دون ذكر المواقع الأثرية غير المكتشفة والمواقع الطبيعية المعزولة الوعرة والمنابع الطبيعية غير المستغلّة والمحطّات التاريخية المسكوت عنها عمدا.
طبيعة، فإنّ أول سؤال سيخطر ببال هو : لماذا تقبع هذه الثروة التي لا تقدّر بثمن مردومة غير مستغلّة ؟ والجواب لا يمكن أن يكون بتلك البساطة التي نتوقّعها، فحتّى لو استندنا إلى نظرية “الفساد” الشائع في دزاير، ومركزية الكلّ في العاصمة وبلاد المسؤولين أيّا كانت، لن يكون جوابنا محيطا فعلا. وحتّى لو وسّعنا نظريّة “المؤامرة” إلى الشقّ الاقتصادي الذي يلعب دورا هامّا في السيطرة على آوراس آمقران، فإنّ ذلك لن يكون كافيا لفهم حجم الورم المتفشّي في جسد المجتمع الشّاوي، والنيّة من وراء هذا التدمير الممنهج المتواصل لكلّ ما يمكن أن يشكّل عكّازا ترتكز عليه عملية استيقاظ إيشاويّن من سباتهم.
سنة 1963، في آوراس الذي خرج توّا من حرب التحرير الطاحنة التي كان أكبر المتضررين فيها (مقارنة ببقية مناطق الجزائر) بخسارته نسبة كبيرة من بناه التحتية وعددا معتبرا من كوادره الثقافية والسياسية إن لم نقل أغلبهم، طُبّقت إحدى خطط نظام الدولة الفتية “العبقرية” أو ما سمي حينها بـ”مدارس التّعليم الأصلي” التي اضطلعت بمهمّة “تعريب الشّاوية” وتعليمهم “لغة القرآن” ومحو “أميتهم” …. إلى ما هنالك من الشعارات الرنّانة التي صدّع ويصدّع إلى اليوم بها رؤوسنا البغبغائيون من المرتزقة والمتمثقفين. “المدارس” التي عملت بنجاح على مسخ المجتمع الشّاوي في مواصلة لعمل “جمعية العلماء” التي دأبت منذ نشأتها على هدم كلّ ما للهوية الآمازيغية للشاوية من أسس، بدءا بمحاربة الأعياد والعادات والتقاليد وانتهاءً بتجسيد للعبارة الشهيرة : “تباريك الله في الشاوي إذا تعرّب”.
لتتواصل بعدها خطّط المسخ الممنهجة المتتالية من “ثورة زراعية” بومدينية حكمت بأن تنزع الأرض من مالكيها منذ قرون وتمنح لكيانات اجتماعية غريبة تمّ استقدامها بمنهجية من أجل تفتيت اللحمة القبلية لإيشاويّن، كان ذلك استجابة لنصيحة “مولود قاسم نايت بلقاسم” الذي رأى بأنّ هويّة إيشاويّن وتركيبتهم المجتمعية وشخصيّتهم العصيّة التي كانت شوكة في حلق فرنسا ستشكّل “خطرا” مستقبليا على الدّولة الجزائرية الفتية، وعليه وجب تفتيتها بالقضاء أولا على لغتهم عبر استقدام كتل مستعربة من مختلف المناطق البدوية، واستمرّ العمل الممنهج عبر استيراد السّاكنة من مناطق مستعربة في إطار “القرى الاشتراكية” التي تمركزت في مواقع استراتيجية تؤجج الكيانات المستوردة إليها إلى اليوم صراعات قبلية بين القبائل الرئيسية في مختلف الحواضر الشاوية.
منظومة التعليم الحالية، لم تكن يوما ببعيدة عن الهدف الذي تمّ تحقيقه، ألا وهو الجهل اللغوي، وإشاعة العربية بين العوام، بينما تحتفظ الأوليغارشيا بالفرنسية، وتضمن لأبنائها بسهولة الانتقال إلى الإنجليزية. لتضمن بذلك شعبا “غير مثقّف” غير قادر على الاستيعاب بعيدا تماما عن الوعي، بفضل ما توفّره اللغة العربية من أدبيات الطاعة والولاء وعقليات المظاهر والسفاسف التي أغرقوا بها البيئة الإعلامية/الفكرية الوطنية عامة والآوراسية خاصة.
استكمالا للصورة، وبعد أن دفعت منطقة آوراس ثمن انقلاب أبيض مزعوم قام به “الطّاهر زبيري” على بومدين، عمل الأخير بعده على تمريغ جبهة إيشاويّن بالتّراب، وحرمانهم من أي فرصة لاسترجاع النّفس فحرمهم من المشاريع الاقتصادية وواصل بدون هوادة سياسة ثنائية : “التفقير والتجهيل” التي أحالت المجتمع الشاوي بعد عقود، إضافة إلى ما سبق، على عملية التدمير الذّاتي التي نتساءل جميعنا عن أسبابها وحلولها دون جدوى…
على صعيد ثقافي يمكن تعريف السيّاحة بأنّها مواجهة ثقافتين، ثقافة الزائر وثقافة المزار، هذه المواجهة، مستمرّةً، تؤدّي طبيعة إلى تغيير سطحي، أو تحوّل عام، أو استلاب تامّ في منظومة القيم التقليدية. فعملية التمازج الثقافي التي يمكن أن نماثلها، كونها واحدة من التأثيرات التحديثية (modernisational influences؛ إن جازت التسمية)، بعملية التمدّن (urbanization) تملك أن تتمكّن من السلوكات وتغيّر القيم الإنسانية. وهو ما يمكن أن نسميه بالتثاقف السياحي (Touristic acculturation) وهو عملية لا يمكن أن تؤدّي إلى استبدال ثقافة بثقافة كما يروّج بعض الرجعيين، مدّعي “الأصالة” و”المحافظة”. نعم! سيؤدّي الاحتكاك في أيّ من أشكاله إلى تناقل الأفكار الثقافات واللغات وحتّى إلى تغييرات في أنماط المعيشة (حسب مدى الاحتكاك بالزوّار) بالضرورة، لكنَّ ذلك ليس سلبيا بالمرّة، فاكتساب لغات جديدة ومثاقفة مجتمعات أكثر تطوّرا وتفتّحا لن يكون إلّا إضافة إيجابية إلى مجتمع بدائي متخلّف كالّذي ينتمّي إليه مجتمع إيشاويّن اليوم.
إذن فبوصم السياحة عاملا أساسا في التطوّر الاقتصادي والثقافي والحضري، وبوابة هامّة جدّا إن لم تكن الأهمّ نحو ثقافات العالم المسيطرة، ولغاته المهيمنة، ووسائل تحصيل “الفكرة” المتحرّرة من أغلال التراث والطّاعة فهي في نظر أرباب دزاير أخطر سلاح يمكن أن يمنح لإيشاويّن، لأسباب منها : أنّ الاستثمار في ثقافة إيشاويّن كعامل جذب سياحي (وهو ما يقتضيه التخطيط الصحيح) سيعيدهم إلى المبدأ، ويجعل لهم مرجعية هويّاتية بعد أن تاهوا بلا بوصلة، وأنّ التعرّض للغات أجنبية كالإنجليزية والألمانية والإسبانية وغيرهما، سيحيله على التمسّك بلغته (أقصد الآمازيغية طبعا) أكثر، وهو ما سيشكلّ انتكاسة في المخطط الـ”بومديني-الفرنسي” بكلّ تأكيد، ناهيك عن أنّ اكتساب الشّاوي للغات أجنبية كالإنجليزية، سيمكنّه حتما من قراءة تشومسكي بدل أحلام مستغانمي، ومشاهدة سلسلة Zeitgeist مثلا بدل سلسلة “القادمون” وبناء فكره بدل استلافه…
خلاصة القول؛ إنّ السياحة في بلاد إيشاويّن هي سلاح يرفض أرباب دزاير الّذين يعلمون جيّدا أن الشّاوي المثقّف الواعي (الذي ستنتجه بالضّرورة) خطر محدق بوجودهم ومصالح أربابهم، وأنّها بوّابة ما إن تفتح حتّى ينغمسَ الشّاوي في عملية تحضّر خطّطوا لعقود من أجل عزله عنها.
وعليه فإنّها بوّابة ملعونة، يرون، أنْ لا يجبُ أن تفتحَ أبدا.
ڨاسمي فؤاد