الآمازيغ كينونة استعصت على الذوبان
إن تاريخ الآمازيغ ضارب بأطنابه في عمق الذاكرة الإنسانية ، وهذه الأمة حسب ما أورده الباحثون من أقدم شعوب الـمعمور ضمن اثنين وثلاثين شعبا الأقدم في العالـم كما أشار إلى ذلك الباحث الـجزائري الأوراسي ساسي عابدي في مقاله الأمازيغية هي هوية الجزائر، والأمة الأمازيغية استقرت في بلاد تـمازغا أي بلاد الأمازيغ في العصور الـحجرية القديمة وأنشؤوا حضارتهم الـخاصة ، وتشير الاكتشافات الأركيولوجية الـحديثة حسب الباحث الـمغربي لـحسن أمقران في مقاله الموسوم : بــــ ” اللغة الأمازيغية مقاربة أنثروبولوجية ” إلى اكتشاف مدينة أمازيغية قديـمة بـجنوب الـمغرب الأقصى بالصدفة تعود إلى خـمسة عشر ألف سنة قبل الـميلاد كما يرى البعض وعلى رأسهم أستاذ علم الآثار مصطفى أوعشي ، في حين يرى البعض الآخر أنها تعود إلى تسعة آلاف سنة قبل الـميلاد وقد ظهرت مع الإنسان القفصي على أقل التقديرات ، ويرى الـمؤرخ التونسي عثمان الكعاك بأن للأمازيغ خصائصهم الـجنسية في الطول وصبغة الشعر ولون العينين وشكل الـجمجمة كما لـهم عاداتـهم العائلية والـموسمية والقروية والدينية الـخاصة ، ولـهم لغتهم الـمتميزة بذاتها الـمعروفة من قديم والـمتسلسلة إلى الآن لها آدابـها الشعبية والعلمية كتابية وشفاهية وهذه الكلمة تعني الأشراف الأحرار.وفي ذات السياق يبين الباحث التاريخي الدكتور العربي العقون في دراسته الموسومة بـ الأمازيغ عبر التاريخ نظرة موجزة في الأصول والـهوية بأنه في الواقع ينبغي : فحص معطيات الأنثروبولوجيا والألسنية تباعا ٬ كما تنبغي العودة إلى آلاف السنين لفهم كيف تكوّن تعمير هذه المنطقة الشاسعة ما بين الصحراء والبحر الـمتوسّط ٬ وأن نضع أنفسنا في بداية العصر الذي يسمّيه الباحثون في ما قبل تاريخ أوربّا : الباليوليثي الأعلى ٬ ففي ذلك العصر كان يعيش في الشمال الإفريقي إنسان من نوع الإنسان الـحالي هو الإنسان العاقل العاقل وهو صانع الحضارة العاترية ٬ تلك الثقافة الشبيهة بالـموستيرية ٬ وهذا الإنسان العاتري الذي اكتشف في موقع دار السلطان في الـمغرب الشبيه بالإنسان الذي اكتشف في جبل إرحود يجعلنا نقبل فكرة أنّه انـحدر منه ٬ ومن الـمهمّ هنا الإقرار بتسلسل سلالي من الإنسان العاتري إلى خلفه الإنسان الذي عرف منذ مدّة طويلة بالإنسان الـمشتوي في الخصائص الطبيعية، وإنسان الـمشتى(Mechtoïde) هذا شبيه بإنسان كرومانيون – (Cro-Magnon) الطول 1,74 م في المتوسّط للذكور٬ سعة الـجمجمة 1,650 سنتم وقلّة الانسجام ما بين الوجه العريض والـمحجر ذي الشكل الطولي. إنسان المشتى في البدايات يصنع أدوات صنّفت تـحت اسم الإيبرومورية (Ibéromaurusiens).التي توجد آثارها في كلّ الـمناطق الساحلية والتلّية ٬ وكانت الإيبرومورية هذه معاصرة للمغداليني (Magdalénien) والأزيلي (Azilien)الأوربيين ولها نفس الـخصائص التي تـحملها صناعة العصر الـحجري القديم الـمتأخّر (صغر الأدوات الـحجرية) ، وهذه الأشياء هي عناصر أدواتية عبارة عن (Lamelles à dos)نصيلات صغيرة ذات الظهر وفي غالب الأحيان تكون في شكل قطع منفصلة يـمكن تركيب مقابض خشبية أو عظمية عليها مـمّا يـجعلها أدوات وأسلحة فعّالة .كان من الـمألوف اعتبار إنسان الـمشتى – وهو ابن عمومة لإنسان كرومانيون – ذي أصول من خارج الشمال الإفريقي ٬ فقد اعتبر البعض أنّه قدم من أوروبّا عبر إسبانيا ومضيق جبل طارق لينتشر في الكناري والشمال الإفريقي كلّه ٬ ودليلهم أنّ أمازيغ الغوانش احتفظوا بـخصائصه حتّى الغزو الإسباني ٬ ويعتقد البعض الآخر أنّ إنسان الـمشتى منحدر من الإنسان العاقل-العاقل الذي ظهر في الشرق (إنسان فلسطين) ومن ذلك الـمنشأ الأصلي ( انطلقت هجرتان الأولى أعطت لنا إنسان كرومانيون والثانية اتـجهت نحو إفريقيا ونـموذجها هو إنسان الـمشتى. ومن هذين الافتراضين نـجد ، أنفسنا أمام فكرة الأصل الشرقي والأصل الأوربي ٬وهما عنصران ظهرا فيما بعد في القصص الأسطورية العتيقة ٬ وفي التفسيرات التهويـمية(Fantaisistes) في العصور الـحديثة التي لاتـخلو منها حتّى الفرضيات العلمية الـحالية ٬ ومع أنّ الفرضيتين متضاربتان تضاربا كبيرا يـجعل قبولـهما أو قبول إحداهـما صعبا للغاية ٬ فافتراض نزوح إنسان كرومانيون عبر إسبانيا لا يـمكن تـحديده ٬ لأنّ الـمقاربة التشريـحية لا تقرّ ذلك ٬ فجمجمة الباليوليثي الأعلى الأوروبّي لـها خصائص أقلّ وضوحا من نسله الـمنحدر منه فرضا في الشمال الإفريقي ٬ ونفس الـحجّة يـمكن أن تعترض سبيل فرضية الأصول الشرقية لإنسان الـمشتى ٬ لأنّه لـم توجد أيّ وثيقة أنثروبولوجية ما بين فلسطين وتونس يـمكن الاعتماد عليها ٬وأكثر من ذلك لدينا معلومات كافية عن سكّان الشرق الأدنى في نـهاية الباليوليثي الأعلى من النمط البروتو-متوسّطي٬الذي يختلف كثيرا عن إنسان الـمشتى ٬إنَّـهم الناطوفيون (Natoufiens) ٬فكيف يـمكن – على ضوء ذلك – تفسير فكرة انـحدار إنسان الـمشتى من أصول شرقية دون أن يترك ذلك أيّ أثر على الصعيد الأنثروبولوجي ؟
وفي ذات السياق بين الباحث الأستاذ محمد شفيق في كتابه الموسوم بــــ: “ ثلاثة وثلاثون قرنا من تاريخ الأمازيغيين ” بأنه قد عُمل بـجد، خلال الأربعين سنة الأخيرة، على استغلال الإمكانيات الأركيولوجية والأنثروبولوجية واللسنية في البحث عن أصل الأمازيغيين، أو عن أصول الـمغاربة على الأصح. والنتائج الأولى التي أفضت إليها البحوث أن سكان إفريقيا الشمالية الـحاليين، في جـملتهم لـهم صلة وثيقة بالإنسان الذي استقر بـهذه الديار منذ ما قبل التاريخ، أي منذ ما قُدر بتسعة آلاف سنة، من جهة، وأنَّ الـمد البشري في هذه الـمنطقةكان دائما يتجه وجهة الغرب انطلاقا من الشرق، من جهة أخرى، وبناء على هذا، يـمكن القول إن من العبث أن يبحث للبربر « عن مواطن أصلية غير التي نشأوا فيها منذ ما يقرب من مائة قرن. ومن يتكلف ذلك البحث يستوجب على نفسه أن يطبقه في التماس « مواطن أصلية » للصينيين، مثلا، أو لـهنود الـهند والسند، أو لقدماء الـمصريين، أو لليمانيين أنفسهم وللعرب كافة، ليعلم من أين جاؤوا إلى جزيرة العرب. وكل ما يـمكن تأكيده اليوم، فيما يرجع للقرابة القديـمة الـمحتملة بين إمازيغن واليمانيين، يكمن في قرائن ثلاث :أ- عدد لابأس به من أسـماء الأماكن التي توجد على الطريق البري الواصل بين الـمغرب الكبير وبين اليمن عبر القارة الإفريقية، لها صيغ أمازيغية واضحة ولبعضها مدلولات في اللغة «البربرية». منها في صعيد مصر: أبنو، وأسيوط، وأخميم، وتيما، وتالا، وأصوان (أسوان)، وتوشكا… وفي شـمالي السودان :تاراكَما، وأتبارا، وتيمرايين… وفي إيريتريا : أكسوم، وأسـمارا، وأكَولا،وأكَوردات أو أكَورضاد… لكن، لا يوجد في اليمن نفسها، حسبما هو مرسوم في الـخرائط العادية، أسـماء أماكن من هذا القبيل، إلا اسم جزيرة «أنتوفاش».
أ- يرجع تسلسل الأسـماء السالفة الذكر على الطريق القارية الرابطة بين إفريقيا الشمالية وبين اليمن إلى عهد هجرة قديمة تركت آثارها في الأصقاع التي عبرتـها؟ أم يرجع إلى قرابة بين اللغة الأمازيغية وبين الـمصرية القديـمة واللغات الكوشية ؟
ب- لقد عثرت شخصيا على عدد من الألفاظ العربية التي قال بشأنـها صاحب « لسان العرب » إنها « حِمْيرية »أو « يـمانية ؛«وهي ألفاظ لها وجود في الأمازيغية، إما بـمدلولها «الـحِمْيَري وإما بـمدلول معاكس، وكأنـها انقلبت إلى أضدادها. لكن عدد هذه الألفاظ قليل لا يسمح بـجزم في الـموضوع، إلا إذا تـمت دراسة مقارنة ميدانية بين اللهجات الأمازيغية واللهجات اليمانية الـحالية من حيث معطياتـها الـمعجمية والصرفية والفونولوجية.
ج- بين حروف « تيفيناغ »، القديمة منها والتواركَية، وبين حروف الـحميريين، شبه ملحوظ في الأشكال، لكنها لا تتقابل في تأدية الأصوات، إلا في حالتين اثنتين بتجاوز في التدقيق مراسلة شخصية بيني وبين الباحث الفرنسي كريستيان روبان، «Christian Robin»، مـحرر الفصل الـخاص بـحضارة جنوبيِّ الـجزيرة قبل الإسلام في. «l’Arabie du Sud» ولعل طريق البحث في هذا الـموضوع سيختصر في العقود الأولى من القرن الـمقبل، أو قبلها بقليل، لأن وسائل الـمقارنة الأنثروبولوجية بين الشعوب أصبحت جد دقيقة بفضل الاكتشافات الأخيرة التي حققها العالـمان « جان دوصي »، « Jean Dausset » وجان بيرنار، «Jean Bernard» الـمتخصصان في فحص الكريَّات الـحمراء على مستوى أشكال سطوحها. ولقد تـمكن هذان العالـمان من اقتفاء آثار شعوب هاجرت مواطنها الأصلية منذ خمسة عشر ألف سنة (Le Sang et l’histoire).
عادل سلطاني ، ماجيستير في علم الاجتماع | ثيفيست (تبسّا)