الـ”رّافال”؛ كلمات أغنية تعزف سيمفونية مأساة آوراس ما بعد الاستقلال…
يعتبر “عميروش إيغونام” واحدا من أكثر الفنانين التزاما في بلاد إيشاويّن خاصّة ودزاير عامّة، صاحب البحّة الآوراسية الشهيرة، الذي يواصل إلى اليوم كفاحه باللغة الشاويّة، ضاربا بعرض الحائط كلّ الاعتبارات الماديّة التي تأتي أوّلا في حسابات “مغنّي الأعراس” المحسوبين، مغالطةً، على الأغنية الشاويّة. فعلى قلّة إنتاجاته، إلّا أنّه يحوز احترام وإعجاب كمّ عريض من الجماهير الناطقة بالآمازيغية في كامل الشّمال الإفريقي، ويجتذبُ اهتمام كلّ الناطقين بالدّارجة، في منطقة آوراس آمقران خاصّة، الذين يحول جهلهم باللّغة بينهم وبين فهم ما يقول، ومع ذلك فهم أوّل معجبيه.
“ثاروا نييلفان” (أبناء الخنازير) ، “إينْڨُورا” (الأسوأ حالا) ، باب وُجوّاقْ (صاحب الناي) ووو… عناوين كنت أتعجّبُ كيف غاب عن الآكاديميين الناطقين بالآمازيغية، أن يهتمّو بها ويترجموها ويقدّموها لعالم الآكاديميا، كنصوص شعريّة من الطراز الأوّل حتّى يتدراسها الطلبة .. لكنَّ كلّ العجب يزول عندما تفهمُ كلمات هذا العملاق، التي لم يجرؤ أحدٌ غيره، في زمن حصار الآمازيغية، على آدائها.
أغنيةُ الـ”رّافال” أو “ڨاڨا” هي واحدة من أكثر أغاني عميروش جرأةً وأكثرها تركيزا، تعزف على على ألحان “موحند وُشعبان” سيمفونية مأساة آوراس ما بعد الاستقلال، وتضع الأصبع في جرح إيشاويّن الذي لا يزال مفتوحا إلى اليوم. على أنغام قيتارة: تفتح بحّة “عميروش إيغونام” الآوراسية الخام، موالا، فضاءا ذا صدى كأنك تقف على اللاشيء، طافيا في فراغ ما، تضاهي ارتفاع جبل “شليث”، يصدح؛
ⵍⵓⵔⴰⵙ ⴰⵢ ⴰⴳⵓⵊⵉⵍ! .. ⴰⵢ ⵉⴸⵓⵔⴰⵔ ⵓⵄⴰⵜⵉⴷ ⴼⴻⵍⵍⴰ
آوراس أيّها اليتيم .. أيتها الجبالّ أجيبي
ⴽⴻⵏⵡⵉ ⴳ-ⴱⴻⴷⴷⴰⵏ ⴰⵎ ⵡⴻⴼⵚⵉⵍ .. ⵓⵝⵍⴰⵢ ⵉⵏⵉⴷ ⵏⴻⵍⵍⴰ!
أنتِ الواقفات كالجدران .. تكلّمي، قولي ها نحن!
الأغنية المستوحاة من أغانٍ تراثية، تمجّد “الخارج عن القانون” كما وصفته وسائل الإعلام الفرنسي خلال الاحتلال “بلقاسم ڨرين” أو “ڨاڨا” كما كان يعرف. هذا الثّائر الذي رفض التجنيد الإجباري، وصعد إلى الجبل في بداية خمسينيات القرن الماضي، قبل انطلاق ثورة نوفمبر بسنوات، والذي كان يجوب آوراس متّخذا “عصابة” من الخارجين عن القانون الفرنسي les bandit d’honneur أرعبت الجيش الفرنسي، وسيطرت على المنطقة وشكّلت دعامة أساسية لانطلاق واستمرار ثورة نوفمبر.
منذ صعوده إلى الجبل سنة 1950، عاشت “نَّا مبروكا” على ترقّب مرور ابنها “ڨاڨا” ورفاقه “الخارجين عن القانون-les bandits d’honneur” ليهدأ روعها، وتطمئن على سلامته. كان يمرّ كلّ مرّة يحتمل رشّاشه الذي عرفتْ تماما كابنها، تكتفي في كلّ مرّة بمروره ذاك، وهي تعلم أنّه سيأتي يوم لن يمرّ فيه ولن تراه بعده، لكنّها لم تملك أن تفعل شيئا غير الانتظار، ممنيّة نفسها بنصر في حربه على الفرنسيين.
بعد استشهاده، في الحملة التي قادها المضليون الفرنسيون على معاقل جماعته بجبل “شليث” (شليا) واستغرقتهم عشرة أيام من المعارك بعدة 5000 مضلّي لقتله؛ واصلت “نَّا مبروكا”، أمّ المقاتل المتمرّد “ڨاڨا” (ڨرين بلقاسم)، ترقّبها لا تعلم أكان حيّا أم ميتا.
ذات مساء، مترقّبة كعادتها مرور “”ڨاڨا” ورفاقه بالدّوار، لمحّت “نّا مبروكة” رشّاش ابنها على كتف أحد المقاتلين، تمعّنت في وجوههم جميعا .. لا أثر لبلقاسم ! أيقنت أخيرا أنه قد مات، كانت تعلم أنّه لا يمكن أن يغيب عنه سلاحه .. فناحت نوح الشّاويات المألومات على فراق حبيب.
المشهد لايزال خالدا في الموروث الشفهي لبلاد إيشاويّن بأغانٍ ومواويل غنّتها الشّابات الشّاويات حينئذ، واكتفى “مغنّو الأعراس” اليوم بتجاهلها، لأنّها لا تدرّ مالا ولا تصبّ في سياق رداءتهم. تلك الرداءة التي شذّ عنها عميروش، وأحيا ذكرى ذلك المتمرّد الخالد، بأغنيته هذه : الـ”رَّافَالْ” التي وقد أكون خلطت المعاني، أو أخطأتُ في ترجمة أو فهم بعض الكلمات، وذلك طبيعي جدّا، فأغاني عميروش معروفة بصعوبة ألفاظها، أثناء محاولتي هذه للترجمة من “هشاويث” إلى العربية”، والتي يقول عميروش في مطلعها؛
ⴰⵛⵛⴰ ⴳⴰⴳⴰ ⴰⵢ-ⵓⵄⴻⴻⵎⵎⵉ! ⵔⵔⴰⴼⴰⵍ ⵏⵏⴻⴽ ⵎⴰⵏⵉ?
أيا ڨاڨا يا ابن عمّي! .. أين رشّاشك؟
ⵍⴽⵓⵏⴼⴻⵝ ⵀⵄⴻⴷⴷⴰ ⵉⴹⴻⵍⵍⵉ .. ⵢⴻⵎⵎⴰⴽ ⵝⵉⵍⴰ, ⵓ ⵝⵖⴻⵏ-ⴰⵢ
بالأمس مرّ رفاقك .. فبكت أمّك، وهالني حالها
ⴰⵛⵛⴰ ⴳⴰⴳⴰ ⴰⵢ-ⵓⵄⴻⴻⵎⵎⵉ! ⵔⵔⴰⴼⴰⵍ ⵏⵏⴻⴽ ⵎⴰⵏⵉ?
أيا ڨاڨا يا ابن عمّي! .. أين رشّاشك؟.
لا أظنّ أن كلمات “عميروش” هذه تحتاج إلى تفاسير وشروحات، على بلاغتها – أرجو أن أن أكون قد أصبت بعض المعاني التي يصعبُ حقًّا ترجمتها – إلّا أنّها تسردُ بكلّ وضوح لكلّ ذي عقل، وتشرحُ دون تكلّف مأساة إيشاويّن التي حلّت بهم، بعد خروج فرنسا، كأنهم يدفعون ثمن مقارعة أقوى الجيوش الكولونيالية التي مرّت من هنا، دما ودموعا ودمارا في حينه، ثم جوعا وفقرا وتهميشا بعده، عند تولّي أبطال الكارطون على السلطة.
ⵍⴳⵉⵔⵔⴰ ⵎⴻⵙⵍⴻⵏⵜ ⴰⵢⴻⵝⴱⴰⴱ ⵎ-ⵎⴰⵍⵍⴻⵏ .. ⵙⴰⴽⴽⴰⵔⴻⵏⵜ ⵉⵔⴳⴰⵣⴻⵏ
الحرب شكّلها كالطّين الحكماء، وثار لها الرجال
ⴰⵎ ⵜⵡⵉⵣⴰ ⵖⴻⵔⵙ ⵜⵏⴰⴽⴽⴰⵔⴻⵏ .. ⵜⴰⴼⴻⵏ ⴼⴻⵍⵍⴰⵙ ⵉⵎⴰⴳⴳⴰⴸⴻⵏ
كـ”ثويزا”* سارعو إليها، ولم يبقى بعدها إلّا الجبناء.
ⴰⵎ ⵜⵡⵉⵣⴰ ⵖⴻⵔⵙ ⵜⵏⴰⴽⴽⴰⵔⴻⵏ .. ⵜⴰⴼⴻⵏ ⴼⴻⵍⵍⴰⵙ ⵉⵎⴰⴳⴳⴰⴸⴻⵏ
كثويزا سارعو إليها، ولم يبقى بعدها إلّا الجبناء.
“ثويزا” هي طقس آمازيغي، شائع جدّا إلى اليوم في بلاد إيشاويّن، ويتمثّل في التعاون لإنجاز المهام الصعبة، كبناءا لبيوت وشقّ الطرق ووو… وتكون تطوّعية عفوية، يشاركُ فيها الجميع دون مقابل، ودون تحفيز أو دعاية. وكذلك كانت الثورة في آوراس فعلا، فقد قام إليها إيشاويّن بنفس العفوية والحماسة التي يقومون بها إلى تويزا، وقدّمو أنفسهم وأبناءهم وأموالهم قربانا، وعرّضو أهاليهم لأبشع أنواع التعذيب والإهانة، من أجل الحرية، ولكنّ…
ⵣⵉⴽ ⵎⵉ ⵢⴻⵙⵙⵉⵡⴻⵍ ⴰⵥⴻⵕⴱⵓⴹ, ⵏⵍⴰⵇⴰ ⵉⴸⵎⴰⵔⵏ ⵏⵏⴻⵖ ⴸ ⵉⵎⴻⵣⵡⵓⵔⴰ
عندما لعلع الرّصاص، فتحنا صدورنا في أوّل الصفوف
ⴰⵙ ⵎⵉ ⵝⴻⴼⵔⴰ, ⵏⴻⵏⵏⴰ ⵏⴻⵔⴳⴰ ⵙⴻⴳ ⵍⵓⴹ, ⵏⵡⴻⵍⵍⴰ ⵏⴻⵜⵛⵏⵉ ⴸ ⵉⵏⴻⴳⴳⵓⵔⴰ
ويوم جاء الفرج، ظننّا أننا خرجنا من المستنقع الموحل، لكننا أصبحنا في آخرها.
ⴸⴻⴳ ⵉⴸⵓⵔⴰⵔ ⵏⴻⵜⵚⴻⴼⴼⴻⵇ ⵏⴻⵜⵖⴻⵏⵏⴰ, ⵏⴻⵇⵇⴰⵔ ⵜⴰⵃⵢⴰ “ⴱⵔⵉⵣⵉⴷⴰⵏ”
في الجبال كنّا نصفّق ونغنّي، نهتف فليحيا الرئيس
ⵢⵓⴷⴰⵏ ⵏⴻⵀⴱⴻⵏ ⵏⴻⵜⵛⵏⵉ ⵏⴻⵜⵖⴻⵏⵏⴰ, ⴰⵢ ⵏⴻⵇⵇⵉⵎ ⴰⵎ ⵉⴱⵉⴷⴰⵏ
كان الناس ينهبون وكنّا نحتفل، فبقينا كالقوارير الفارغة.
ⵢⵓⴷⴰⵏ ⵏⴻⵀⴱⴻⵏ ⵏⴻⵜⵛⵏⵉ ⵏⴻⵜⵖⴻⵏⵏⴰ, ⴰⵢ ⵏⴻⵇⵇⵉⵎ ⴰⵎ ⵉⴱⵉⴷⴰⵏ
كان الناس ينهبون وكنّا نحتفل، فبقينا كالقوارير الفارغة.
ⴸⵉ ⵍⴳⵉⵔⵔⴰ ⵏⴻⵔⴼⴻⴸ ⴰⵏⴻⵣⴳⵓⵎ, ⴰⵙⵙⴰ ⵏⵓⵃⴻⵍ ⴸⴻⴳ ⴰⵖⵔⵓⵎ
في الحرب (الثّورة) كنّا نحمل الهموم، واليوم لا نجد الخبز
ⵓⴸⴰⵏ ⵉⵏⵉⵏ ⵓⵍⵉⵏ ⵙ ⵛⵓⵎ ⴸ ⵕⵓⵎ, ⵇⴰⵔⴻⵏ ⵓⵔ ⵢⴻⵜⵇⴰⵡⴰⵏ-ⵛ ⴰⴸⵉⵥⵓⵎ
أولئك المزيّفون الذين أصبحو أبطالا، قالو لنا : فليصم من لا يحتمل الجوع
ⴰⵛⵛⴰ ⴳⴰⴳⴰ ⴰⵢ-ⵓⵄⴻⴻⵎⵎⵉ! ⵔⵔⴰⴼⴰⵍ ⵏⵏⴻⴽ ⵎⴰⵏⵉ?
أيا قاقا يا ابن عمي، أين رشّاشك؟
ⵉⵄⴻⴷⴷⵉⵣⴻⵏ ⴽⴽⵔⴻⵏ-ⴷ ⵉⴹⴰⵍⵍⵉ, ⵄⴻⴼⵙⴻⵏ ⴼⴻⵍⵍ-ⴰⵏⴻⵖ ⵏⴻⵜⵛⵏⵉ
بطون لا تاريخ لها، تدوس رؤوسنا اليوم.
ⵉⵄⴻⴷⴷⵉⵣⴻⵏ ⴽⴽⵔⴻⵏ-ⴷ ⵉⴹⴰⵍⵍⵉ, ⵄⴻⴼⵙⴻⵏ ⴼⴻⵍⵍ-ⴰⵏⴻⵖ ⵏⴻⵜⵛⵏⵉ
بطون لا تاريخ لها، تدوس رؤوسنا اليوم.
ⵍⵓⵔⴰⵙ ⵢⵉⵍⴰ, ⵙ ⵉⴸⴰⵎⴻⵏ ⵎ-ⵓⵍ-ⵏⵏⴻⵙ .. ⴰⵍ ⵉⵎⵉⵔⴰ ⵜⵃⴻⵡⴰⵎⴻⵏ ⵅⵙⴻⵏ ⴰⴸⵚⴻⵔⵖⴻⵏ ⵀⵙⴰ ⵏⵏⴻⵙ
بكى آوراس دماء قلبه .. يحومون، إلى اليوم، حوله، يريدون إشعال كبده.
الأكيد، أن العملاق “عميروش” ليس إلّا واحدا من أولئك المقاتلين الأوفياء الذين لا يزالون واقفين على رأس آوراس آمقران، وبينهم الشّاعر كاتب كلمات هذه الأغنية الذي عجزت عن معرفته، لكنّي أوجّه له شخصيّا تحيّة إجلال. “عميروش” الذي تعرّفت على أغانيه وأنا لا أزال فتى، صغيرا، مغيّبا، معرّب اللسان إذ لم أكن قد تعلّمت هشاويث بعدُ حينها، كان من القلائل الذين شدّو انتباهي لدرجة الهوس. ألحانه، وصوته، والكلمات القليلة التي حُزْتُ في مراهقتي، جعلتني أدخلّ عالمه وأبدأ رحلة البحث من أجل تفكيك شيفراته .. ولا أجدُ أبلغ من خاتمة أغنيته هنا:
ⵉⵄⴻⴷⴷⵉⵣⴻⵏ ⴽⴽⵔⴻⵏ-ⴷ ⵉⴹⴰⵍⵍⵉ, ⵄⴻⴼⵙⴻⵏ ⴼⴻⵍⵍ-ⴰⵏⴻⵖ ⵏⴻⵜⵛⵏⵉ
بطون لا تاريخ لها، تدوس رؤوسنا اليوم.