أعظم ثورة في القرن العشرين، لماذا آوراس؟
من الضروري التذكير بأن من حق الناس معرفة الحقيقة كما هي ، حقيقة الأحداث ، الأشخاص والأماكن دون تضخيم ولا استهانة و تقليل للأدوار ،والشائع أن الكذبة التي يكثر تداولها تصبح بفعل التكرار والتداول مستساغة أكثر.
بعد ما يقارب 180 انتفاضة ضد الاحتلال الفرنسي للجزائر، جاء نوفمبر، واندلعت أكبر ثورة تحرير عرفها العالم في القرن العشرين، كان الحدث محصلة طبيعية للوعي الجماعي ولتراكم التجربة التي فاق عمرها القرن.
لقد صممت نخبة من الشبان على تجاوز الواقع الاستعماري الاستيطاني الذي طال عمره ، وبادرت باتخاذ قرار باسم الشعب ، مراهنة كليا على وعد مصطفى بن بولعيد بضمان استمرارية شعلة الحرب حتى استكمال باقي المناطق للتحضيرات والتحاقها بالكفاح المسلح .
ثورة عظيمة ، وكانت مغامرة نوفمبر بدايتها ، لم يكن يخطر ببال عاقل إعلان الحرب على النظام الاستعماري الفرنسي ، ذلك الجيش الرابع في العالم ، المستند على قوة الحلف الأطلسي الهائلة ، رغم كل ذلك ، لم يعبأ الثوار بحسابات الميدان المنطقية ، لأن قناعتهم راسخة في كون الحرب مجرد صراع إرادات ، وإرادة التحرر من الظلم ستكون أقوى وستنتصر لا محالة . حرب أطرها 200 جنرال وآلاف الضباط ومئات الآلاف من الجنود من مختلف التشكيلات العسكرية وعدد لا يحصى من الآليات.
ثورة عظيمة لأن أثرها تجاوز الجزائر ليحرر إفريقيا ، بدءا بتونس والمغرب ثم عشر دول في افريقية بالجملة .
المؤسف أن التاريخ الرسمي لثورة التحرير حين يتناول بالتحليل يكشف عن روايتين لتوجهي مجموعتين متعايشين هما نتاج حدثين هامين هما لقاء الصومام وأزمة صيف 62 ، في غياب الرواية الأخرى تلك التي عاشها الفاعلون الحقيقيون لملحمة نوفمبر 1954 .
هذا الوضع أطلق العنان للتظليل الذي مس كل جوانب تاريخ الثورة ، حتى أصبح الكذب والتظليل فجا ووقحا في غالب الأحيان ، و أمسى مستساغا لكثرة ترديده و تداوله ، وكمثال على ذلك، تلك الصور المظللة التي يسوقها الإعلام الوطني بكل تنوعاته ، حين يبرز المجاهدين في نوفمبر بالبزات والأحذية العسكرية النظيفة،والسلاح المتنوع ، حتى الثقيل منه ، خلافا للحقيقة التي هي ابعد ما تكون عن تلك الصور، فالمجاهدون في نوفمبر كان اغلبهم بلباس مدني “قشابية” ، منتعلين أحذية بسيطة من التي كانت تباع في الأسواق بأثمان بسيطة ، أما أسلحتهم فقد كانت مهترئة و قليلة ، اغلبها بنادق صيد ،الآن تعودنا على تلك الصور التي تعرضها كل القنوات في نوفمبر ، صورا لجيش جزائري نظامي كبير العدد و العدة ، خلافا للحقيقة .
أشعلت الشرارة في أوراس ، إيذانا ببدء عصر جديد ، يؤرخ فيه لما قبلها و ما بعدها ، لمن من معها ومن ضدها ، لمن كان وقودا لها و من استفاد منها .
حولت فرنسا اوراس ـ النمامشة إلى محتشد كبير محاط بالسياج و الجنود ، عدد العسكريين الفرنسيين فيه يفوق عدد السكان، النار في كل دشرة ، رائحة الموت تزكم الانوف ، و منظر الدماء على كل الصخور .
لماذا أوراس ؟
بعضهم يعزو صمود الثوار في أوراس، فقط إلى التضاريس الوعرة ، البعض الآخر لا ينسب ذلك للاوراسيين بل لأجانب قدموا من كل الفيافي ليشعلوا أوراس ، كل ذلك استكثار على المنطقة ، للدور الذي لعبه ثوار أوراس-نمامشا ، متناسين أنه في أوراس ، ترضع الأمهات أبنائهن الأنفة والشهامة والرجولة بدل إرضاعهم حليب أثدائهن ، يمكن التشكيك في ذلك ، للتأكد من تلك الحقيقة ،على المرء سماع الحقائق الخارقة للعادة من أفواه العجائز الشاويات.
من المؤكد أنه حين كانت النيران تبتلع المنطقة الأولى ، لم تطبق المناطق الأخرى أيديها ، بل عملت بكل إمكانياتها لتحسيس الشعب وتنظيمه ، وهذا عمل ثوري هام ،لكنه لا يضاهي الغرق في الحرب الضروس التي خاضها مجاهدو وكل سكان أوراس-نمامشا .
لما تهافت ثوار المنطقة الأولى على الجهاد ، كانوا على يقين من أن جيش الاحتلال سيلجأ إلى أكثر الوسائل وحشية في تعذيب و إذلال عائلاتهم ، لكنهم قرروا مصيرهم وبلغوا نقطة اللاعودة ليلة أول ومبر (نوفمبر)، لقد فاقت جرائم فرنسا الخيال والمجاز بواقعها وحقيقتها، فأصبح أوراس-نمامشا مسرحا لإفراغ كل العدوانية الناجمة عن خسارة حرب الهند الصينية.
كانت نظرة القادة النوفمبريين في أوراس-نمامشا تتلخص في أن المعركة المصيرية ستنتهي حتما بجلاء الاحتلال عن ارض الأجداد في كل شمال إفريقيا أو استشهاد آخر رجل أوراسي، لذلك يذكر المؤرخون انخراطهم بقوة في جيش التحرير المغاربي وتقديمهم لأموال معتبرة ومساعدات أخرى للمقاومة التونسية.
كافح الآوراسيون الفلاحون والفقراء بشراسة واستشهدوا وضحوا بسخاء ،ثم أخفي كفاحهم و تمت التغطية على تضحياتهم، حين نذكر ذلك، ينزعج البعض و يغتاظون لأسباب غالبا يمكن تفسيرها .
كانت الخيبة الكبيرة على وجوه الأحياء، كثير من الرجال لم يعودوا، الثكالى واليتامى في كل مكان ، النظام الجديد أعطى فرصة لبروز الكثير ممن كانوا معادين أو حياديين و لتبوؤهم المناصب، كما أن أبنائهم لم يقوموا بطرد الكولون المحتل لتحل محله مجموعات أخرى من البدينين ببدلات أنيقة وربطات عنق ملونة، لكنهم لا يستطيعون شيئا أمام الواقع الجديد المر، كان عزائهم الوحيد رؤيتهم للجنود الفرنسيين والحركى يغادرون.
وُخليفَا رْبِيعي