بعد يوم شاقّ من المهام “المكسيّة” في جوّ رمضانيّ حارّ جاف “مغبّر” بقلب الأوراس الأشمّ الذي تحوّل فجأة إلى صحراء لا أدري كيف! وفي طريقي إلى البيت تفوح منّي جميع أنواع الروائح المكسيّة المستحرَمة والسوليتفوحية والماعزيّة استوقفني على باب مقهى مدينتي المحبوبة – أين ينعقد عادة مجلسي الموقّر – نقاش شابّين يافعين “مثقفين” جامعيين بصوت عال جدّا، حتّى ظننت أنّهما مُرَمْضِنَان* كعادة أمّتي الحبيبة طوال أيام شهر الصيام، أو أنّ المقهى حوّل نشاطه إلى بيع الزلابية فتشاجرا حول الدور لشرائها…
اقتربت منهما، فعلمت أنّهما “يتناقشان” بطريقة “حضارية” تسودها مصطلحات محترمة من قبيل “الأم” و”الأب” وما يلحقها من أفعال ومحسنات بديعية شاويّة حول الصلح الإسرائيلي-التّركي، وتزامنه الاستراتيجي مع انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبّي، وتأثيراته الجيو-استراتيجية على قارة أوروبا والصراع في الشرق الأوسط و…
بصراحة أعجبت كثيرا بالفتى الأوّل، الذي كادت عروق عنقه تنفجر وهو يصرخ واصفا أردوغان بالخائن للعروبة! والقضيّة الفلسطينية، والخلافة الإسلامية، والأمّة العربية والمتآمر مع الصهاينة ومطلقا العنان لمخيّلته حول أمّ أردوغان وأمّ خصمه… ذكّرني في أيام شبابي، ونقاشاتي الماراطونية مع أساتذتي في الحركات النضاليّة العالمية حول التفسيرات الأنثروبولوجية لمرق “آسكسو” وإيتيمولوجيا “آبربيضت ⴰⴱⴻⵔⴱⵉⴹⵜ”***
لكنّ الفتى الثاني أثار إعجابي أكثر، بثباته الانفعالي وهو يصرخ شاتما بألفاظ أبدَعَ، مصرّا على الدفاع عن أردوغان ومفسّرا لصديقه بأنّ السياسة تحكمها المصالح فقط، وأنّ أردوغان هو الخليفة القادم، وأنّ الأمّة العربية! (مرّة أخرى!) ستقوم (مرّة أخرى!) على يد أردوغان!…
لم أقف طويلا، حتّى حضر “جوني العظيم” قهواجي مجلسي الموقّر، وطردهما شرّ طردة، وهو ينعت، بشاويّة سهليّة ثقيلة، أهاليهما بأبلغ الأوصاف. لكنّهما نقلا نقاشهما “الحضاري” إلى قارعة الطريق المهترئ، وكلّ منهما يصرّ على رأيه، حتّى في مسألة مجالسة خليفة المسلمين في القرن الواحد والعشرين لـ”متحوّل جنسيا” بعد أن أكلَ متظاهرون من أجل “حقوق المثليين” “قزّول**” السلطات التركية الإسلامية الحنيفة حتّى شبعوا في اليوم السابق.
فجأة، دونما سابق إنذار ثارت ريح صرصر وغبار كثيف أجبر المفكّرَين العظيمين على السكوت والتكوّر تحت سقف مقهى “جوني العظيم” حتّى مرّت العاصفة الرملية، فجعل كلاهما يلعن “بلاد ميكي” هذه، ويكفر بها، ويستشهد بنظافة قرى الڨاوري الكافر الخالية من الغبار، وحقوق المواطنين في بلاده الفاجرة. حتّى أنسياني فيما كانا يختصمان.
لم أجد بعد هذا المشهد السريالي إلّا جرجرة “سوليتفوحي” النّتن نحو بيتي في قارة إفريقيا في “الأوراس الأشم” الذي يبدوا أنّ الشمّة التي أدمن عليها، جعلت من أبنائه، أبناء البطة السوداء، يعجزون عن رؤية الكعّالات تتآكل قدميه، متحمّسين لنصرة تركيا وأندونيسيا وقطر وجزر بلاد الواقواق العربية، ولتذهب بلادهم التي يعيشون ويأكلون ويشربون ويتغوّطون فيها إلى الجحيم.
إلى يوم مكسيّ آخر.
هذا الركن ساخر، وغير موضوعي، ولكنّه يتناول مواضيع حقيقيّة وواقعية في بلاد إيشاويّن، يكتبه لكم كل أسبوع حصريّا على موقع إينوميدن.كوم صديق الأطفال والمسؤولين : الأستاذ الدكتور: “م. بغبوصي” كاتب ناقد ومفكّر أرستقراطي وطني مجاهد ومهاجر مستقر في الأوراس الأشم.
*رمضَنَ يُرَمضِنُ رَمْضَنَةً أي “حكم عليه رمضان”
**آقزّول: العصى ستشاويث
*** مسائل يصرّ مناضلون عظماء على أنّها محور الكون والنضال.