لم يأت إطلاق تسمية المنطقة التاريخية “الأولى” على منطقة آوراس-نمامشا من فراغ، ولا محظ ترتيب ، أو نتيجة قرعة منحتها ذلك. فمنطقة آوراس نمامشا، أو بلاد الشاوية (إيشاويّن) عرفت منذ فجر التاريخ بتمرّدها على كلّ القوى الكولونيالية الوافدة إلى الشمال الإفريقي، المنطقة التي أنجبت ماسنسن، ويوغرثن، وزرع أبناؤها، على مرّ العصور، الرّعب في قلوب الغزاة، ودفعت أبهض الأثمان من أجل الحرية على مدى العصور.
ولعلّ موضوع كون آوراس “مهد ثورة نوفمبر” المجيدة، أحد أكثر المواضيع إثارة للجدل والأمر نتيجة مباشرة للتغييب العمدي لتاريخ المنطقة، وكذلك ندرة جهود التأريخ والكتابة من أبنائها المثقفّين، خاصة أولئك الذين نجو من حملات الاغتيالات والمحاكمات الصورية وعمليات الإزاحة التي حصلت بانتظام خلال الثورة وبعد الاستقلال، وهو ما يجب على دارسي التاريخ اليوم، من أبناء المنطقة خاصة، الاشتغال عليه بجدّية لأنّ الموضوع أصبح بعد أكثر من نصف قرن لا يحتمل التأجيل.
لا يخفى على جزائري، كما لا يمكن لعاقل – وهذا معلوم للعام والخاص – أن ينكر أن:
أولى الهجومات انطلقت في المنطقةالأولى، وأنّ أوّل قتلى الثورة من العسكريين الفرنسيين كانو : AUDAT Pierre وEugène COCHET في هباثنت (باتنا) وAndré MARQUET بخنشلا، وأنّ أول ضابط فرنسي قُتل، هو الملازم دارنو Lieutenant DARNAULT، بمدينة ماسكولا (خنشلا) (1) وهو الأمر الذي أثار زوبعة إعلامية خدمت الثورة أكبر خدمة، إذ أخرجتها إلى العلن. وإن كانت الدعاية الفرنسية، وكذلك آمال الفرنسيين، تصبّ في سياق أن الثورة كانت تمرّدا محلّيا، وهو ما جعل الفرنسيين يزجون بما استطاعو من قوة ورجال وعتاد في المنطقة التاريخية الأولى من أجل القضاء عليها.
أولى القتلى المدنيين الجزائريين الموالين لفرنسا الذين سقطو كان “الحاج الصادق” ڨايد “هيمسونين” المعروفة بمشونش اليوم، بولاية بسكرة، وأنّ أول القتلى المدنيين الفرنسيين كان المدرس Guy Monnerot الذي قضى في حادثة الحافلة الشهيرة بـ”ثيفلفال”، التابعة لولاية باتنا .. بالمنطقة التاريخية الأولى.
أوّل من سقط في ميدان الشرّف كان الشهيد: “أحمد مزوجي” المدعو أحمد أقرور، الذي استشهد يوم 02 نوفمبر 1954، في “هاسريانت” (سريانا)، بولاية باتنا، وكان رفقة فوج الشهيد “بلقاسم ڨرين” (2) عضو جماعة الخارجين عن القانون التي اعتمد عليها أب الثورة الدزيرية مصطفى وُبولعيذ كثيرا، والتي ثارت وحملت السلاح قبل الثورة النوفمبرية بسنوات، واستعصت على القوات الفرنسية، إلى غاية الحملة التي شنّتها فرنسا للقضاء عليهم والتي كان قوامها 5000 مضلّي قضى بعد عشرة أيام من المعارك فيها الشهيد بلقاسم ڨرين .. وكانت تلك أولى المعارك، وكانت بالمنطقة التاريخية الأولى.
أول ديبلوماسيي الثورة كانو ممثلي آوراس نمامشا في تونس، وهم أول من أدخل السلاح إلى دزاير .. وأنّ أول مصلحة للصحة العسكرية كانت في آوراس، وأقيمت بإيعاز من “وُبولعيذ” للممرض “سالم بوبكر” وأنّ أول مستشفى عسكري أنشئ من قبل المجاهد “عاجل عجول” بغابة كيمل. وأنّ الولاية التاريخية الأولى آوراس نمامشا كانت تسمّي إدارتها في وقت الشهيد “شيحاني بشير” بالقيادة العليا للثورة، وكانت تصدر جريدة، ومنشورات باللغة العربية والفرنسية والألمانية.
السلاح الذي بدأت به الثورة، دخل عبر بلاد إيشاويّن بأموال أغلبها لأب الثورة الدزيرية مصطفى أوبولعيذ. وفي معرض هذا حادثة أكثر من معبّرة، فقبل انطلاق الثورة، باع الشهيد البطل عبّاس لغرور، الذي اغتيل على أيادي من يعتبرون اليوم أبطالا ورموزا، ولا يخفى على أحد أن على رأسهم بومدين، “باع كل ممتلكاته الشخصية، وطلب من أبيه نصيبه من الميراث، وفي العادة لا تتم عملية القسمة بين الأبناء مادام أن الوالد على قيد الحياة، إلا أن أباه لبى طلبه دون إشكال، حيث كان نصيبه حصان وقطعة أرضية مساحتها نحو 9 هكتارات، وقد تأكدت من المعلومة فيما بعد، والغريب أنه باعها للمعمر سنة 53 واسترجعها في 1962 حسب الوثائق. كما باع كل ما يملكه وله قيمة مادية من أجل تعزيز خزينة الثورة” (3)
ولا أظنّ أنّ علينا أن نذكر أيضا بأنّ الثورة قد ولدت وبدأت واستمرّت في آوراس الذي قبع تحت القصف والحصار والاعتقالات وعمليات الترحيل والاغتيالات والترهيب لأكثر من ستة أشهر، إلى غاية مشاركة أبنائه في هجومات 20 أوت الشهيرة، لفك الحصار عنه. وأنّ أبطال بحجم مصطفى أوبولعيذ أب الثورة الدزيرية، ابن آريس وعباس لغرور ابن ماسكولا، الذي خاض حوالي 163 معركة ضدّ العدو الفرنسي، والذي يصفه Henri Alleg بأنه Võ Nguyên Giáp الدزيري، ويقول بأنّه الرجلّ الذي ألحق أكبر قدر بالجيش الفرنسي خلال حياته، هم أبناء آوراس نمامشا، وإحصائيات كالّتي سردت السيدّة عمران جميلة، كما يشير الأستاذ صالح لغرور في مقاله : الأوراس مهد الثورة (4) أكثر من كافية لتسليط الضوء، بالأرقام، على واقع أنّ منطقة آوراس نمامشة، كانت فعلا الأولى والرائدة خلال حرب التحرير المجيدة.
دون أن نغفل طبعا ما عانته ساكنة ثامورث نيشاويّن من ويلات، جراء حملات الانتقام المسعورة التي قادتها الإدارة الفرنسية وأعوانها على المدنيين العزّل كلّما منيت بهزيمة أو فشلت في كبح جماح أسود آوراس، فأوّل عمليات الترحيل (déplacement) وأول المحتشدات (camp de regroupement) وأول المناطق المحرمة (Les zones interdites). وأول مجموعة “حَرْكَا” تكونت سنة 1955، كانت في آوراس النمامشة، المنطقة التاريخية “الأولى”
…
أظنّ أن ما سردتُ كافٍ جدّا لإثبات أنّ منطقة آوراس نمامشا، كانت بحقّ مهدَ الثورة ومحرّكها، وإلّا لما كانت سمّيت أصلا بالمنطقة التاريخية “الأولى”، فكونها الأولى، لا يحتمل التأويل ولا التقوّل : آوراس هو المصدر، والرائد والقائد، الذي لولا شجاعة وتضحيات أبنائه لما كانت الثورة أصلا ولا بدأت مشوارها، ولما واصلته، ولتأخر النصر على فرنسا سنوات. فإلى متى يستمرّ هذا الإجحاف، الذي لا يظهر إلّا إذا تعلّق الأمر بآوراس؟
ڨاسمي فؤاد
2. كتاب شهداء منطقة الأوراس، الجزء 1
3. “نكافح من أجل إبراز الحقيقة حول إعدام عباس لغرور التي يحاول البعض طمسها” حوار الإعلامي نور الدين برقادي مع الأستاذ صالح لغرور، في جريدة النصر.
4. في دراستها الصادرة في كتاب Retentissement de la révolution algérienne, colloque international d’Alger du novembre 24 au 28 1984.ED ENAL-GAM 1985 تحت إشراف المركز الوطني للأبحاث التاريخية، بعنوان: ”L’Extension de la lutte armée pendant les premières années de la lutte de la guerre de libération”