إن التغييب العمدي لتاريخ الشّمال الإفريقيّ عامّة، و”دزاير” خاصة، من قبل النظام القومي العربي لـ”دزاير” المستقلّة، إنما كان هدفه الأوّل، والأساسي؛ التدليس على عامّة الشعب، وترسيخ الوهم. نفس الوهم الّذي كرّسته الدعاية الفرنسية الاستعمارية، الاستيطانيّة، لإلحاق هته الأرض بفرنسا، هو : ألّا تاريخ لهذا الوطن…
وكذلك فعل النّظام، عشيّة الاستقلال، لإلحاق “دزاير” بالمشرق، بتفخيم ثقافة هذا الأخير على حساب الثقافة والتاريخ الأصيلين، استكمالا لخطّة بدأتها فرنس، تمهيدا، لتُمَكِّنها فيما بعد من أغلى مستعمراتها على الإطلاق، بعد تأكدها أن خروجها مسألة وقت، عقبَ ما لحقها من خسائر، أضعفت بشكل كبير قوتّها وضيّعت قدرتها على الإبقاء على مستعمراتها، في الحرب العالميّة الثانية، وكذا الأولى.
ومن العجيب أن تتزامن أولى إرهاصات التقومج العروبي في الجزائر مع الحربين، والأغرب أن تدعمها فرنسا، بينما يخوض ابن باديس أبرز مريدي القومية العربية حربه المزعومة مع فرنسا، أقول مزعومة لأنّ الأعجب أن تحارَبَ فرنسا على يده بما صنّعت، ودعّمت لعقود.
من المعلوم أن فرنسا فشلت ذريعا في استلاب الشعب الـ”دزيري” لسببين رئيسين: أولهما؛ وحشيّتها، التي لم تتوقّف مذ دخلت، وجورها وظلمها، تجاه هذا الشعب، ما جعله لا يكنّ لها إلا الحقد. والثاني؛ أن فرنسا ككيان هي “آخرُ”، بالنسبة للـ”دزيري”؛ لا يربطه باللاوعي الجماعي الشعبي شيء، لعوامل منها اختلاف الدين واللغة والثقافة، وكذا التباعد الطبقيّ، آنذاك، بين الفرنسيين والـ”دزيريين” على أرض واحدة.
وبهذا كان من المستحيل، فعلا، أن تُذاب “دزاير” في فرنسا، إبان احتلالها، أو أن تلحقها أو تستلب إليها بعد خروجها المحتوم.
وهنا الحيلة!…
ففرنسا (ومن معها) لم تكن لتتمكّن من حُكم “دزاير” أكثر؛ لضعفها، كما لم يكن متاحا أن تستلب شعبها، أو تُلحقه بها. لكنّ صنيعتها : “القوميّة العربيّة”، كانت على أشدّها، مهيّئة، جاهزة لحلول محلّها، إذ اخترقت المجتمع الـ”دزيري”، وصارت رمزا للمقاومة، عبر منبر يعدّ الأبرز بين منابر الممانعة، يعلوه “ابن باديس” القومجي العروبي، الّذي على ما ظهر من عدائه لفرنسا، التّي قتلت كلّ من عارضها، وتاريخ المقاومات معلوم فيه قتلها لكلّ رموز المقاومة مهما كان نوعها، إلا أنه سلم من أذاها بقدرة قادر!.
وتمكنّت بعد الاستقلال، القوميّة العربيّة عبر النّظام الحاكم، عقب بلوغ القومجي الأوّل : بومدين سدّة الحكم. النظام الذي انتهج على النقيض من فرنسا، وعلى أرضيّة مُهِّدَت طوال سنوات باسم الدّين واللغة، سياسة سحب المركز نحو الشّرق؛ مستعملا ترسانته، الثقيلة، المرتكزة أساسا على الشّرعيّة الثوريّة، وسطوته، وقبضته الحديديّة التي ضرب بها كلّ معارضة، مرسّخا لعروبة “دزاير” على جميع الأصعدة وبكلّ الوسائل. العروبة الّتي ولّدت بعد أجيال؛ أجيالا مستلَبَة لا تعلم لها تاريخا، ولا حضارة ولا ثقافة، نراها تحارب اليوم بأظافرها وأسنانها، كلّ دعوة للصحوة والأصالة.
وهكذا اخترقت فرنسا “دزاير المستقلّة” بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، سمّها كما شئت، عبر صنيعتها: “القوميّة العربيّة”.