حكمت العدالة الجزائرية العام الماضي بالسجن النافذ على عدة شباب بسبب حملهم الرايات الامازيغية في مسيرات الحراك الشعبي بتُهمة “المساس بالوحدة الوطنية ” .هذا الحكم الذي جاء في ظروف سياسية خاصة, سوف يبقى وصمة عار و نقطة سوداء في تاريخ العدالة الجزائرية.
بالموازاة مع قمع قوات الأمن لحاملي الرايات الأمازيغية , كانت هناك حملة على شبكات التواصل الاجتماعي لآلاف الحسابات المزيفة أو ما يسمى ب”الذباب الإلكتروني” لشيطنة حاملي الرايات الامازيغية و شرعنة قمعهم و اعتقالهم .
من بين الاكاذيب التي روج لها الذباب الالكتروني كون الراية الأمازيغية صنيعة “الصهيوني جاك بينيت ” (بيني) .
عندما نبحث في محرك البحث غوغل حول الموضوع نجد رابط أو إثنين و فيديو على اليوتيوب . عناوين هذه الروابط تهويلية تعِدنا ب”كشف” خيوط مؤامرة “الصهيوني جاك بينيت ” و حيثيّات تصميمه الراية الأمازيغية . لكن سرعان ما نصاب بخيبة أمل كبيرة عندما نكتشف ان المقال لا يحتوي على أي حقائق تاريخية تكشف هذه “المؤامرة” و انما اسطر إنشائية و كلام مرسل . لا دلائل إذن على كون جاك بيني هو من صمّم الراية الأمازيغية و لا إثبات كذلك على أنه “صهيوني” .
لن نضيّع وقتنا بالطبع في الرد على هذا الإدّعاء السخيف فالأمر لا يستحق الرد , و إنما سوف نتناول في هذا المقال من هو “جاك بيني” و لماذا يدّعي هؤلاء أنه “صهيوني” .
من هو جاك بيني (Jaques Bénet) ؟
هو موظف سام فرنسي و نائب سابق جمعته صداقة مع “محند بسعود آعراب” مؤسس الأكاديمية البربرية ” آڨراو إيمازيغن”. كان جاك بيني من الشغوفين بالثقافة و اللغة الأمازيغية فكانت له أيادي بيضاء على “بسعود آعراب” و جمعيته التي تعرّضت لمضايقات كثيرة من طرف المخابرات الجزائرية و المغربية و السلطات الفرنسية.
فجاك بيني هو من ساعد في تسريع إجراءات إعتماد جمعية “آڨراو إيمازيغن” سنة 1967 بفضل معارفه , و هو من وقف بجانب محند بسعود آعراب عندما سُجن بعد أن حلّت السلطات الفرنسية آڨراو إيمازيغن .
عام 2000 صدرت مذكرات محند بسعود آعراب بعنوان ” أشخاص صغار من أجل قضية عظيمة أو تاريخ الأكاديمية البربرية 1966-1978″ ضمّنها الإهداء التالي : ” اذا كان إخوتي الأمازيغ سوف يتذكّرونني يوما ما و يكرّمون ذكراي , أطلب منهم أن يُشركوا في هذا التكريم جاك بيني . لأنه بدون مساعدة هذا الصديق – كما سوف تُبيّنه الصفحات التالية- كل ما فعلته من أجل هويتنا الأمازيغية كان سوف يكون بدون فائدة ” .
بعد صدور هذه المذكرات خرج العروبيون من جحورهم كالعادة من أجل تشويه صورة جاك بيني بالقول تارة أنه ضابط في المخابرات الفرنسية و تارة بأنه “صهيوني” و هو الإتهام الأزلي لتشويه أي شخص له علاقة بالأمازيغية.
جاك بيني صديق الأمازيغ
يكتب بسعود آعراب أنه التقى جاك بينيت أول مرة سنة 1965 و يقول ” تفاجأت بكوني أمام رجل لست مضطرا أن أشرح له هويتي الأمازيغية . كان يمكنه أن يحدّثك بطلاقة عن القفصيين , الإيبيروموريين , المرابطين , الموحدين , القبائل و الطوارق . بإختصار , لقد كان يعرفنا و يحبنا على عكس الذين كانوا يعتقدون (يقصد أصحاب النزعة الكولونيالية) أنه لدينا قصور فطري على الإستقلال ” .
و يردف بسعود قائلا “جاك بيني نورمادي الأصل (normand) أي أنه كان عِرقيّا بعيدا عن الأمازيغ بُعد الأطلس عن نورمانديا … و كان شغوفا بكل ما يتعلق بالإثنولوجيا و اللغات و يملك في هذا المجال معلومات غزيرة و أفكارا جذّابة . فإهتمّ بالباسكيين و بشكل أخص بالأمازيغ إلى درجة أنه كان يتابع دروسا في اللغة الأمازيغية ” .
فنشأت صداقة متينة بين جاك بيني و محند بسعود آعراب كما يرويه الأخير في مذكراته . و يكتب ” في الساعات الحالكة كان جاك بيني و سعيد آيث عمر ككل مرة حاضرين من أجل مساعدتي معرّضين نفسيهما للأذى في مرات كثيرة . جاك بيني وكّل لي محام و كان يكتب للوزراء ويراسل الأصدقاء و يشجعني و يرفع من معنوياتي عن طريق زياراته الكثيرة لي في السجن و كان يضغط على المحامي عندما ساءت صحتي . و كان بانتظاري أمام السجن عندما أُطلق سراحي ستة أشهر بعد ذلك ” .
المؤامرة الصهيونية الأزلية
كلمة “صهيوني” كانت تعني قديما شخصا موالٍ أو مناضل في الحركة الصهيونية العالمية و هي حركة سياسية ناضلت من أجل إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين . كلمة “صهيوني” اليوم تعني شخصا يدعم سياسات دولة إسرائيل أو ينتمي الى مجموعة ضغط (لوبي) تسعى لكسب تعاطف الرأي العام الغربي مع إسرائيل .
أما في الدول العربية فكلمة “صهيوني” هي كلمة تطلقها الأنظمة الشمولية على المعارضين أحزابا كانوا أم أشخاصا من أجل شيطنتهم . فالحزب الذي يطالب بالديموقراطية و التداول على السلطة هو حزب “صهيوني” أما الشخص الذي يطالب بإحترام التنوع الثقافي و الإعتراف بالأقليات الدينية أو الثقافية هو بكل تأكيد “صهيوني” مدعوم من إسرائيل و “المخابرات الغربية”.
فكما يُخوّف الآباء أبنائهم ب”الغول” من أجل أن يناموا , تقوم الأنظمة العربية بتخويف شعوبها ب”الصهويني” من أجل أن يذعنوا و يدخلوا حظيرة الطاعة.
و”جاك بيني” كما رأينا فرنسي من منطقة نورمانديا لا علاقة له بالحركة الصهيونية و لا بإسرائيل . فهو “صهيوني” بالنسبة للعروبيين العنصريين فقط لأنه كان يحب الثقافة الأمازيغية و الأمازيغية كما هو معروف “صنيعة صهيونية” و مؤامرة كولونيالية من أجل ” تقسيم الجزائر” .
و مذكرات “محند بسعود آعراب” وثيقة تاريخية مهمة توضح لنا أن تهمة العمالة لإسرائيل و المخابرات الغربية التي يُروج لها الذباب الإلكتروني اليوم ما هي إلا إعادة تدوير نفايات بالية من زمن الحزب الواحد .
يذكر بسعود آعراب جميع المضايقات التي كان يتعرض لها من طرف “رابطة الجزائريين في فرنسا” (Amicale des algériens en France) و هي جمعية قومية تابعة للحزب الواحد مهمتها مراقبة الجالية الجزائرية في فرنسا و تشويه صورة المعارضين و التضييق عليهم .
فيكتب مثلا في مذكراته ” بالنسبة لرابطة الجزائريين في فرنسا كانت الأكاديمية البربرية حزبا سياسيا يريد تقسيم الشعب الجزائري , تعمل لصالح الحركة الصهيونية العالمية و الإمبرالية الأمريكية . ففي نظر هذه الجمعية كانت الأمور في غاية البساطة . أنتَ لا تريد أن تكون عربيا ؟ فأنت إذن عميل لجهة ما , غالبا توجهها يميني حتى و إن كانت آراءك السياسية أكثر يسارية من مسيري هذه الرابطة . و لا تحاول أن تشرح لهم أن بلدنا بعيد جغرافيا و إثنيا عن العرب فسوف يرفضون ذلك … و بالنسبة لحزب جزائري آخر ” من يقف وراء الأكاديمية البربرية هما بيجار و ماسو (Massu et Bigeard) !!” .
و كانت هذه الرابطة بالإضافة الى المخابرات يقومون بتشويه صورة محند بسعود آعراب و أعضاء الأكاديمية البربرية في المقاهي التي كان يتردد عليها المهاجرون الجزائريون و ذلك بنشر أكاذيب عن كونهم عملاء للإسرائليين و الأمريكان . فيقول بسعود في هذا الشأن : “الكثير يتفاجئون عندما يكتشفون أنني محند آعراب الذي يُقال عنه جاسوس السي آي آي . فقد كانوا يتخيلون أنني كنت فاحش الثراء . إن فقري ساعدني كثيرا , أولا لأنه قرّبني من أهلي القبائل و لأن هذا الفقر الواضح وحده كان يكذّب جميع الإتهامات التي كانت تُكال لي و لجمعية آقراو إيمازيغن .
“كنت أقول لمن يردّد هذه الإتهامات : هل تظن لو أنني كنتُ عميلا لليهود حقا (كما يزعمون), كنت سأخاطر بحياتي بالمجيء الى مقاهي المهاجرين الجزائريين ؟ أنظر الى ملابسي (الرثّة)… !!! و هو كلام كان يُعطي ثماره غالبا “.
كما يروي بسعود حادثة طريفة تمثلت في تنظيم حفل موسيقي أمازيغي من طرف الأكاديمية البربرية و جميع المضايقات التي تعرض لها أعضاء الجمعية و المطربين المشاركين فيها.
فيقول أنه ليلة الحفل كان هناك أشخاص في محطات المترو يحاولون ثني الناس عن التوجه للحفل , فيكتب ” في جميع محطات المترو المحيطة و الأرصفة , كان هناك أفراد يتقدّمون من أي شخص يحمل ملامح متوسطية و يحاولون ردعه عن الذهاب للحفلة قائلين : لا تذهب الى حفلة الجزائر الفرنسية (l’Algérie française) منظموها يعملون لصالح إسرائيل ” .
و في اليوم الموالي لتنظيم الحفلة الموسيقية قامت القنصلية بإستدعاء جميع المغنّين اللذين شاركوا في الحفل و هدّدتهم . و يروي محند آعراف ذلك قائلا : “تم إستدعاء جميع المغنين الذين وردت أسمائهم في ملصقة الحفلة الى القنصلية و تمت معاتبتهم بسبب غنائهم من “أجل إسرائيل” . فالدلائل كثيرة : قيل لهم ” محند بسعود آعراب تحت تأثير جنرال إسرائيلي و أن الثورة الجزائرية و وحدتها مُهدّدة في صميمها و بالطبع لم ينسوا السي آي آي و الآباء البيض و فوكار ” ( Jacques Foccart وزير و ساسي مقرّب من شارل دوغول ) .
الآباء البِيض (les pères Blancs) هم رجال دين فرنسيين كانت لهم أديرة منتشرة في أنحاء الجزائر . و لأنهم نشروا بعض القواميس حول الأمازيغية والدارجة الجزائرية في المناطق التي كانوا فيها , أصبحت النزعة الأمازيغية “صنيعة الآباء البيض” و هي بهارات تآمرية تلعب على وتر الدين (الآباء البِيض مسيحيون , و هم كاليهود الصهاينة “أعداء للمسلمين” ) كانت تستعملها السلطات الجزائرية بعد الإستقلال ليشطنة المطالبين بترقية الأمازيغية.
ثم يتسائل محند آعراب قائلا : ” إذا سلّمنا جدلا أن الشيطان أي إسرائيل عدوة العرب و الله , هي من ألهمني لتأسيس الأكاديمية البربرية ,كيف يمكن لبعض الأنغام الأمازيغية على قيثارة أن تهدد الثورة و الوحدة الوطنية ؟ ” .
بعدها يذكِّر محند آعراب بسعود بنضال منطقة القبائل في الحركة الوطنية و الثورة التحريرية “هل نسوا أن القبائل هم من حقّقوا الوحدة الوطنية في إطار نجم شمال إفريقيا و حزب الشعب الجزائري ؟ هل نسوا الدور الحاسم للقبائل أثناء ثورة التحرير ؟ لا أحد تنبّه في تلك الفترة لكي يصفنا بأننا لسنا جزائريين لأننا لم نكن نغني بالعربية . لكن بعد إنتهاء الحرب و بعد تحرير الوطن , فإذا بنا نصبح حلفاء لإسرائيل , أي أعداءا للعرب و عليه أعداءا لله ” .
ما أقرب اليوم بالبارحة , ماذا كانت ردة فعل محند أعراب بسعود لو علم أن نفس هذه الإتهامات السخيفة لا تزال تُستعمل سنة 2020 ؟ .
الصهيونية في زمن “صفقة القرن”
يجب الإعتراف أن الإتهام بالصهيونية لم تعد له الحمولة الرمزية لسنوات السبعينات و ذلك لسببين . الأول هو الإفراط في إستعماله الى درجة إفراغ اللفظ من معناه . و الثاني أن هذه الأنظمة العربية التي كانت تتاجر بالقضية الفلسطينية اصبحت تطبّع مع الدولة ” الصهيونية” جهارا نهارا . و إليكم بعض الأمثلة التي سجّلتها في الأيام الماضية فقط :
– الرئيس الأمريكي و رئيس الوزراء الإسرائيلي يعلنان على ما يسمى “صفقة القرن” . و هي خطة سلام بين إسرائيل و فلسطين تعترف بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل و تعترف بسلطة إسرائيل على جميع المناطق التي بنت فيها مستوطنات مع عدم التطرق الى ملف اللاجئين الفلسطينيين. الإعلان كان بحضور سفراء الإمارات و البحرين و عُمان.
– نتنياهو ينعي الرئيس المصري السابق حسني مبارك و سفارة مصر في تل أبيب تفتح أبوابها لتلقي التعازي في موت مبارك . و مبارك يُعتبر في مصر من أبطال حرب أكتوبر ضد إسرائيل ( لم يسبق لي صراحة أن رأيت عدوّا ينعي عدوّه و يثني على خصاله ).
-وزير الخارجية الاماراتي ينشر تويتة حول التحالف الإسرائيلي العربي و نتنياهو يرد و يثني عليه.
-تهنئة سفارة الامارات في أمريكا لليهود بمناسبة عيد “الهانوكا” الاسرائيلي و تلفزيونات اسرائيلية تُشيد بذلك.
– وسائل إعلام عربية تعلن أن إسرائيل بدأت تصدير الغاز الى الأردن بقيمة 15 مليار دولار .
– التلفزيون الاسرائيلي يعلن ان الحكومة تسمح -للمرة الأولى في تاريخ إسرائيل- لمواطنيها بزيارة السعودية .
-مواطنون سعوديون مقيمون في السعودية يظهرون في التلفزيونات الاسرائيلية للدفاع على اسرائيل و المطالبة بالتقارب معها .
– رئيس المجلس العسكري السوداني “عبد الفتاح برهان” (و الحاكم الحقيقي في السودان) يلتقي بنتنياهو في أوغندا .
هل يجرأ أعداء الأمازيغية في شمال إفريقيا أن يشيروا بأصابعهم على “الصهاينة ” الحقيقيين ؟
أخشى أن لفظ “صهيوني” قد تجاوز فترة صلاحيته و أن على أصدقائنا العروبيين أن يبحثوا عن لفظ آخر يشنّعون به على المدافعين على الأمازيغية .
لكي نختم هذا المقال نقول , رغم التخوين و الشيطنة و الأحكام القضائية الجائرة و الاعتقالات , لم تشهد الراية الأمازيغية انتشارا كالذي عرفته في العام الماضي . لقد حملها شباب الحراك في المسيرات الشعبية يوم الجمعة و مسيرات الطلبة أيام الثلاثاء في جميع ربوع الجزائر بما فيها المناطق الغير ناطقة بالأمازيغية . لم تعد الراية الأمازيغية رمزا ثقافيا فقط , بل أصبحت رمزا للانتماء للجزائر و شعارا للتوّاقين للديمقراطية و الحرية و المُنادين بالجمهورية الجزائرية الثانية .
يوغرطا حنّاشي