من طقوس الختان عند إيشاويّن
على امتداد بلاد إيشاويّن الفسيحة، تتنوّع الطقوس والعادات، وتمازج، وتتباين، بين الضاربة في عمق التاريخ والمحدثَة، الأصيلة والمكتسبة. هذا الثراء، ربمّا كان التمايز الجغرافي الواضح للمنطقة، وعراقة التجمعات البشرية المنتشرة في شتى ربوع ثامورث نيشاوين أحد العوامل المؤثرة عليه، والمشكّلة، والمتحكمة في بعض الطقوس والممارسات. إحدى مناسبات الفرح، الكثيرة، التي توليها العائلة الشاوية أهمية بالغة وتنشغل بالتحضير لها والعناية بأدق تفاصيلها، هي الختان.
يتم الختان في منطقة آوراس آمقران، على الطريقة الإسلامية، بقطع جلد الحشفة، من العضو التناسلي للذكور غير البالغين، بينما لا وجود مطلقا لختان الإناث في المنطقة. ولقد أصبح الختان عادة اجتماعية أكثر منها دينية، بل إن مظاهر التديّن في مسألة الختان، غائبة تماما عن الاحتفالية من أولها إلى آخرها، تحتفي به الأسر والأعراش في أريحية وإيمان مطلق بتقاليدهم العريقة، عدى بعض الحالات الفردية التي يلجأ فيها أفراد ذوو ميول تشددية إلى تحريم بعض الطقوس التي يمارسها المجتمع، بفتاوى مستوردة من بيئة غير هذه البيئة.
التحضير لحفل الختان:
تحرص العائلة (غالبا الأم) على تحديد موعد ختان الطفل، مسبقا، وكلّ أيام السنة صالحة لذلك، عدى شهر “مغرس” (مارس)؛ فالسائد عن أهل هاغرّيست، بنواحي يابوس، جنوب غرب ماسكولا (خنشلا) بأن الجراح لا تندمل في “مغرس” (مارس) وهو موسم تكاثر الطيور، اعتقاد شائع في كثير من التجمعات البشرية الشاوية. يسود أيضا الاعتقاد في المنطقة، بأنّ العروس التي لم يمض على عرسها شهر بعد، لا يجب أن تدخل على الفتى المختون، وإلّا مرض وزاد حال جرحه سوءا. بناء على هذه المعطيات، وباعتبار الحالة الاقتصادية للعائلة، تتمّ جدولة موعد الختان.
في اليوم الذي يسبق موعد الختان، تقوم النسوة بقطع “هاصطّا نهايذا” (شجرة صنوبر) فتية وخضراء، ليتم تزيينها، وتعليق عراجين “هيحبا” (التمر) والرمان، و”هيملالين” (البيض المغلي) على أغصانها، لتوضع بعد تزيينها بالغرفة التي سيختن بها الطفل، وتبقى هناك لمدة سبعة أيام. يتمّ بعدها تحضير طبق “آظمّين نيرشمن” وآظمين هو الطبق المحضّر من “لغرس” (معجون التمر، والزبدة، والسميد) والمعروف بالدارجة في الشرق الدزيري بـ”الطمينة”، في هذه المناسبة يتم خلطه بـ”إيرشمن” أو شرشم، وهو عبارة عن قمح مغلي حد الليونة.
لا تحضّر الأطباق الرئيسية إلّا بعد سبعة أيام من ختان الطفل، في هذه الحالة، ويكتفي أهل الطفل بطهي كميات من اللحم، تقدّم للوافدين المباركين. ويحضّر نصيبان رئيسيان من الشاة المنحورة بالمناسبة، للخاتن والمختون، يُخصُّ الطفل المختون بـ”هاغروطّ” (كتف الشاة)، بينما يترك “سهمّ” للخاتن.
في اليلة التي تسبق الختان، تعنى جدّة الطفل لأبيه أو عمّته أو امرأة من أهل أبيه إن لم توجد الجدة والعمة، بوضع الحنّة للطفل، التي يجب أن تكون ممزوجة بالحليب، لا بالماء، في آنية من فخار، وتحنّى يدا الطفل حتى المعصم، ورجلاه حتى الكعب. وتهديه جدّته أوّلا ثمّ الحاضرون “هاحجّيلث” وهي هديّة تتمثل في مبلغ من المال.
طقوس يوم الختان:
صباح يوم الختان، يحمل العمُّ (وهذا ضروري) الطّفل إلى النساء ليأخذ حماما، عمّه هو المكلّف بنزع ملابسه وإلباسه ملابس الختان، وهي عبارة عن “هاجبيبث” ومنديل بلون “آزيزا” أخضر عشبي، يثبّت إلى صدر الطّفل بحليّ من فضّة، سواء “هابزيمث” أو “هاخلالث”. يأخذ الطفل حماما سريعا في إناء كبير، يحتفظُ بمائه لما بعد. قبل الشروع في عملية الختان، ترخي أمّ الطفل شعرها أمام ابنها، وتضع قدمها اليمنى واقفة في الماء الذي استحمّ به، وتصدح حناجر النساء الحاضرات بترديد الأغنية الشهيرة “طهّر آ لمطهّر”، عندما تبدأ عملية الختان، تعضّ الأم غرضا من فضّة، لا تفلته حتى تنتهي العملية، ثم تضعه في يد طفلها، المختون توا، اليسرى، ويوضع نصيب الختّان من اللحم الذي حضّر سابقا (سهّم) في يد الطفل اليمنى، ويطلب منه أن يضرب خاتنه به، على كتفه، ثم يدهن عضو الطفل الذكري بـ”هلوسيِّ” (الزبدة) لأغراض علاجية، بعد ذلكّ تعلّق “هاكمُّوست” (وهي كملة من الملح في صرّة من قماش) في قد الطفل اليمنى، ويجلس متوسّطا الغرفة، لتوضع أمامه أطباق “آظمّين نيرشمن” والرمان، واللحم المطهي، ولا ينال من تلك الأطباق شيئا إلّا المهنّؤون الذين يمنحون الفتى “هاحجيلت” (الهدية المالية). ليأخذ الخاتنُ هديته المتمثلة في “ثاكلولث” (وهي عبارة عن قفة تحوي السكر والقهوة وآظمين والحلويات …إلخ) إلى هنا تنتهي مراسم الختان، ويدخل الطفل فترة نقاهة تدوم سبعة أيام.
مراسم دفن الحشفة:
باعتبارها صاحبة الشأن في حفل ختان حفيدها، تحمل الجدة (أو العمة) “ثزيوا نوقشّوظ” (قصعة خشبية” على رأسها، وقد وضع فيها بعض التراب، ووضعت الحشفة المقطوعة عليه، وإلى جانبه بعض من “آظمّين” و”هقشقشت” أو القشقشة (وهي مزيج من المكسرات والحلويات مشهور في الاحتفالات الشمال إفريقية) وتشق طريقها إلى أقرب نبتة “هازڨارث” (السدرة) ليتم دقنها تتبعها مسيرة نساء مميزة. النساء، اللائي غالبا ما يتبعهن أطفالهن، يجب أن تسرن تحت رداء أخضر كبير بلون المنديل الذي وضع على عنق الفتى (آزيزا – أخضر عشبي)، تحمله مرأتان في مقدمتهن، وامرأتان في المؤخّرة، ولا يجب تحت أي ظرف أن تخرج أي امرأة من تحت الرداء.
خلال المسير كما عن الوصول إلى مكان الدفن، تكرر النساء أغنية خاصّة “…طيشنا التراب والحجر، وجبنا المال والرجال…” بينما تحفر “هامغارث” جدّة الطفل، لتصل إلى جذر نبتة هازڨارث وتضع الحشفة، ثم تضع فوقها بعضا من آظمّين وتدمرها تحت التراب، ينتهي الدفن، بأنّ ترمي الجدّة بعضا من “هقشقشث” تجاه القبلة أولا، ثم ترميها في كل ناح، للأطفال.
لا احتفال إلّا بعد سبعة أيام:
هكذا تنتهي رمسا مراسم الختان، لينصب اهتمام العائلة على راحة الطفل الذي يلزم خلال فترة نقاهة مدّتها سبعة أيّام الغرفة التي ختن فيها، لا يتركها أبدا، ولا يغيّر هاجبيبث التي كان يرتديها عند ختانه، تسهر الأم على راحته في كلّ الأوقات، تعالجه باستعمال “هلوسيِّ” وتبقى “هايذا” بكل ما هو معلق فيها، في تلك الغرفة طوال فترة النقاهة تلك لا تلمس.
بانتهاء فترة النقاهة، في صباح اليوم الثامين، يغير الفتى “هاجبيبث” التي ارتداها طوال أسبوع، ولابد من غسلها قبل العصر كما تقتضي التقاليد، ويمنح الأطفال تلك الأطايب التي كانت معلقة إلى “هايذا”، وتذبح ذبيحة على شرف الفتى المختون، ويطهى “آبربوش” ويدعى الأهل والجيران والأقارب إلى الوليمة، ويمضي الرجال الليل يرقصون ويغنون مع إيرحابن.
بعض المعاني والدلالات:
تعتقد الساكنة بمنطقة هاغرّيست، ببعض الدلالات والمعاني لكلّ طقس من طقوس مراسم احتفالية الختان، منها العلاحي، والنفسي والخرافي، والرمزي؛ فشجرة هايذا الخضراء، وزينتها، دلالة على أمانٍ للفتى بازدهار حياته ونجاحه، وإرخاء المرأة لشعرها أمام ابنها قبل ختانه له معنى مشاركتها للألم الذي سيتعرض له، ووضعها لقدمها اليمنى في الماء الذي استحمّ به، عبارة عن تواصل بينهما، من أجل تخفيف ألمه، وعضّها على حلية فضية أثناء ختانه كذلك، وربط صرّة من الملح إلى قدم الطفل، لمنع الأذى عنه أو كما يقال “باش أُوذ يتُّوصاضافشا” أي حتى لا يمسّ أو يؤذى، ودفن الحشفة تحت نبات “هازڨارث” من أجل شفاء عاجل، لما للنبتة من خصائص طبية يستعملها أهل المنطقة لأجلها.
يبقى هذا المجال، الثريّ حدّا والمتشعّب، الخام، بحاجة إلى دراسات جادّة، وعمليات رصد وجمع وتصنيف وتفسير في أطر آكاديمية وعلى أسس علمية. في ظلّ العزوف الذي لا أجد له تفسيرا، للمتخصصين، عن الخوض في هذا المجال فإن كلّ الجهود مهما كانت متواضعة محمودة. وإن كانت الرواية الشفوية في كثير من الأحيان، من أفواه أصحاب التقليد وممارسيه، وافية مليئة بالتفاصيل، بل تصويرية، لكن تفسير مختلف الطقوس والممارسات والأفعال والأقوال، من الصعب بمكان، ولا يمكن ذلك يمعزل عن الإرث التاريخي للمنطقة وأهلها، ولإطارها الحيوي والإقليمي، لذا فإن ذلك، أظنّ، من اختصاص الانتروبولوجيين وعلماء الاجتماع، وعلماء نفس الاجتماع، والمختصين في تاريخ الأديان…