تعدّ الآمازيغية (l’Amazghité) واحدة من الظواهر الثقافية-الاجتماعية المثيرة للجدل على الساحة الثقافية الدزيرية، والشّمال إفريقية، إن لم تكن أكثرها. فبين فصائل الثقافة، الفرقاء، المتخندقين في الحياد السّالب منها فصيلا، والمتقوقعين فيها فصيلا ثان، والمتحزّبين ضدّها فصيلا ثالثا، تفرزُ بوصمها “ظاهرة”، ومصطلحا وإرثا ولغة ومذهبا تاريخيا، كمّا معتبرا من التجاذبات والتصادمات، الأدبية والفكرية والشعبوية وحتى الدينية، تجمعه بضع من “شبه نظريات” ثقافية وسياسوية متناولة لموضوعها، من موقع أو آخر، مؤوّلة ومفصّلةً الحججَ والبراهين، على تفاوتها، من أجل إثباتها أو نفيها، بين شوفينية وتخوين.
بعد .. انسحاب الجيش الفرنسي وإعلان .. استقلال الجزائر، جمهوريةً ديمقراطية شعبية، تغلّب الجناح الاشتراكي القومي العربي، وآل إليه الحكم، وإن شاب قوميّته “العربية” ما يقالُ في مراحل من عمره، وانسلخت عنه اشتراكيته في مراحل أخرى، إلّا أنّه يسيطر على مفاصل الدولة ويصبغ توجّهاتها، منذ أكثر من نصف قرن، ككيان سياسي ذي ثقافة تمشرقية وانتماء حضاري مستلب إلى العروبة، ظاهرا فقط في مراحل من عمره، وباطنا كذلك في مراحل أخرى. خلال تلك الفترة، برزت إلى السّطح كـ”فكرة” : “الآمازيغية” التي، على اختلاف الأشكال التي اتخذتها في مسار المطالبة منذ بداياتها (التي يُختلَفُ في تحديدها) ظلت محلّ عداوة ونبذ، وتلاعب واستثمار مؤخّرا، من قبل السلطة والحاشية السلطوية. ولعلّ إحدى أبرز تجلّيات العداء للآمازيغية من الحاشية السلطوية، المبطّنة منذ “بن بلّة” بترسانة من “المثقّفين” والأدباء والفنانين والسياسيين والمفكرّين… : “رِهاب الآمازيغية” ومشتقاته، الذي شاع – وتفشّت وبانت أعراضه، المعلومة: من تخوين وتفسيق وتكفير وتسفيه ومحاولة احتواء- على تدرّج وتراتبية ونسبية، في الفصيل الثقافي الذي اعتبر في يوم من الأيام “أصوليا” معاديا للاستلاب، بمعاداته للفرنسية كلغة وثقافة، وحمله لشعارات التحرّر من التبعية الثقافية، والحقد على فرنسا، والكفر بها ووو… هذا الفصيل الذي شمل أطيافا ثلاثة: القوميون العروبيون، والإسلامويّون، وطيف ثالث يمكن أن ينطوي تحت عنوان: “مولود قاسم نايت بلقاسم”.
بوصمهم الأكثر تعصّبا للعربية والعروبة – التي اعتبرت تسليما : هويّة ولغة أصيلة دون “نقاش” – رفض ويرفض القوميون العروبيون الآمازيغية، لغة أو هويّة أو حتّى رافدا من روافدها، ويعتبرونها مؤامرة من “القوى الإمبريالية” ومحاولة لتفريق الأمّة “العروبية” من قبل “فرنسا” التي يروّجون أنّها “صنعتها”، بعد أن لم تكن، من لهجات لا ترقى إلى مصاف اللغات، ويصمونها بأنها رجعية تسدّ سبيلهم، هم التقدّميون! كذلك فعل، ويفعل، الإسلامويّون الذّين يسوّغون للقوميّين العروبيين على اختلافاتهم الجوهرية، رهابهم الآمازيغيةَ وعداءهم لها، وينبذونها باعتبارها “دعوى جاهلية” و”أدنى من العربية لغة القرآن” وكذلك “مؤامرة” من الغرب الكافر، ومحاولة لتفريق الأمّة “الإسلامية” من قبل الكفّار… إلى آخر الاسطوانة. الطّيف الثالث، الذي اختلَفَ، منذ البداية، بعض الشّيء تعامله مع الآمازيغية، فأخذ منها التّاريخَ وشكّله وفق مذهبه، ورفض ما عداه، وتعصّب لرفضه، حتّى الدّارجة الدزيرية، وليدة اللغة الآمازيغية الطبيعية، اعتبرها خطرا على اللغة العربية*، والّذي يمكنُ أن يعنوَنَ بـ”مولود قاسم نايت بلقاسم” – الذي كان يمقت القوميين العروبيين، كما لم يكن إسلامويّا تقليديا – باعتباره رائدا فيه، وقدوة لتلاميذه وتابعيهم إلى اليوم، وهم كثُر. هذا الطّيف اعتبر كلّ مُطالب بالآمازيغية ومريد لها إمّا مغرّرا به أو “عميلا”، فكان بذلكَ موافقا لطرح القوميين العروبيين، ومسايرا للإسلامويين، وكان الطيفَ ذا التأثير الأكبر في التاريخ الثقافي للجزائر المستقلّة، بأثر باقٍ إلى اليوم في أذهان الأجيالٍ المشكّلةٍ وفقا لكثير من “نظرياته”.
وإنْ كان الإسلامويّون أقل قربا إلى السلطة من بقية الأطياف، التي تداولت على بطانة “الحاكم” تبعا لتوجّهاته المرحليّة، إلّا أنّهم (الإسلامويّون) لم يسلموا من داء “رهاب الآمازيغية” التي يرفضها أغلبهم، ويرى فيها خطرا عليهم (وهذا جوهر اهتمامهم) وعلى “الشعب والدولة” الجزائرية (وهذا شعارهم) فكانوا، يا للغرابة! موافقين للسّلطة ومثقّفيها، وموالين لها في مواقفها من الشأن الآمازيغي، رغم كونها مطلبا شعبيا (جهويّا)، وهم أرباب الدفاع عن مطالب الشعب! لكنّ الأمر ليس بغريب إذا ما علمنا، المعلومَ من الآمازيغية بالضّرورة، أنّ الإسلامويّين “يكرهون” الآمازيغية كرههم للمتقوقعين فيها، والمطالبين بها، من مثقّفين وجماهير، لكونهم الأعداء التاريخيين للتيّار الإسلامويّ. وهم اليومَ على لوثة الرّهاب التي تشوبهم تجاهها إلّا أنهم، في رأيي، من المتخندقين في السّالب من الآمازيغية اليوم، يرفضونها، ويرفضون ترسيمها وترقيتها، ولكنّهم لا يشتغلون عليها اشتغال القوميين العروبيين، والمولوديين** (إن صحّ تصنيفهم) بدرجة أقل.
الطيفان الباقيان، كانا إلى غاية مرحلة “الاستعمال” التي دخل فيها النظام الدزيري تحت (حكم) بوتفليقة، حدّي السّيف الذي تضرب به السّلطة الآمازيغية ومريديها والمتقوقعين فيها والمطالبين بها بمناسبة وبغيرها، وبطانة البلاط، التي نفذت خطوة بخطوة ترسانة مثقّفي السلطة التي كانوها، عبر وسائل الدّولة من مدرسة ومسجد وإعلام عملية الشيطنة والتشويه والفلكرة والتسفيه والاحتواء، عملية نجحت إلى أبعد الحدود، لتضع الآمازيغية بعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال، موضع “المكروه” في قلوب وعقول كثير من أبناء الشّعب البسطاء، والتّابعين من المثقّفين والمتسيّسين. وليس موقع هذين الطيفين (القوميون العروبيون والمولوديون) من الآمازيغية إلّا إيعازا من “منظومة” السّلطة التي رأت في حربها مع من أسمتهم بالـ”بربريست” ويلاتٍ، لا ينكرها إلّا مخدَّرٌ، على مستويات عدّة : ثقافية وسياسية وشعبية، وقرّرت أن هذا التوجّه، دون احتواء، سيكون قاصم ظهرها (المنظومة السلطوية) وعليه فإن حربه لابد أن تكون مؤسسة ذات جذور ومدى أطول من استجابة للمطالب، أدوات الحرب على الآمازيغية كانت مثقّفي السلطة الذين كانوا يعيشون في ظلّ الرّيع جزاء بذلهم للثقافة في مقابل العطايا.
خلاصة القول: أن المثقّفين الرافضين والمعادين للآمازيغية كتوجّه، ولغة وتاريخ وأصالة وفكرة، لم يفترقوا يوما عن دواليب الحكم في دزاير، هم الذين سخّرت لهم وسائل الدولة وأموال الشّعب من أجل مواجهتها، لأنّها كانت خطرا على “الفكرة” الحاكمة منذ الاستقلال. غيّرت السّلطة طريقتها إلى الاستعمال، وتسيير الأمور عملا بآية “يا سلّاك الرّاس”، لكن مثقّفيها التاريخيين لم يغيّروا منهجهم، الذي تلقّفه عنهم جيل “مدغمج” كرّس خطابهم يؤجج اليوم الصراع بين أبناء الوطن الواحد، من أجل ماذا؟ .. هم لا يعلمون…
** نسبة إلى مولود قاسم نايت بلقاسم