بدايةً من الضروري بماكان التمييز بين التعليم والتعلّم المدرسي أو الأكاديمي للغة وثقافة ما و بين التعليم والتعلّم خارجهما، فالأول يُعنى باللغات والثقافات ذات التقليد الكتابي أما الثاني يختص باللغات والثقافات الشفوية … وسنعود لهذا الأمر بالتفصيل خلال هذا المقال. كما نذكر، وإن كان الأمر معلوماً، أن هذه اللغة بكل متغيراتها والثقافة التي تحتويها كان تواردها ولعدة ألفياتٍ شفوياً، وأقل مما هي عليه اليوم طبعاً. لكن، وكما يذكر الإتنولوجيون (علماء الأجناس)، فأن صفة الشفهية في العالم تختلف، فشفوية الأمازيغية ليست بحتة كتلك التي اتسمت بها الشعوب العديدة التي لم تعرف الكتابة بتاتاً. الوضع بالنسبة للأمازيغ غير هذا، إذ يمكننا الحديث عن شفوية ثانوية نظرا للسياق الثقافي الذي تميزوا بالعيش فيه والموسوم بالكتابة والثقافة الخطية القوية الحضور، و المقام لا يسع ذكر الأسماء الكثيرة للأمازيغ الذين ألّفوا عدة كتب بالإغريقية القديمة، باللاتينية وبالعربية في القرون الوسطى وبالفرنسية منذ 1830 إلى يومنا هذا.
الغريب في الأمر أنه خلال كل هذه القرون الطويلة، لم تتمكن أي مجموعة أمازيغية من تأسيس أو تطوير أي كتابة سواء للأمازيغية أو إحدى متغيراتها تكون ذات حيوية اجتماعية. حتى الإيموهاغ (الطوارق) اللذين يبدو أنهم شذوا عن هذه القاعدة، هم في الواقع ليسوا حالة خاصة بأتم معنى الكلمة، فالنظام البياني تيفيناغ الذي احتفظوا به وحافظوا عليه ، هو بعيد عن كونه مرادفا لتقليد كتابي لسبب بسيط يتمثل في الاستعمال المنحصر جداً لهذا النظام في المجتمع التارقي سابقاً وحالياً.
عادةً تفسر هذه الظاهرة الغريبة بالعوامل الخارجية التي من بينها: يقال مثلاً، إذا كان الأمازيغ لم يطوِّروا أو يؤسسوا لممارسة ٍكتابية للغتهم العامية على مدى ألفي عام، فذلك لأن شمال أفريقيا عرفت موجات متتالية من المستعمرين منعتهم من ذلك، وهذا التبرير يغالي قليلاً بعموميته، لأن هذه الحملات الإستعمارية اقتصرت على الجزء الشمالي من شمال أفريقيا. علاوة على ذلك، خلال العشرين قرناً هذه ، كان الأمازيغ ولفترات طويلة أحراراً ومستقلين، كالمرحلة المعروفة باسم الممالك الأمازيغية المسلمة.
أما الحجة الثانية التي تُقدم في نفس الموضوع فتتعلق بالعلاقة بين الدولة، الكتابة والمدينة. صحيح أن علماء الإثنولوجيا أظهروا وجود علاقة سببية بين هذا الثلاثي، وبعبارة أخرى: حيث توجد دولة، سيكون هناك بالضرورة الكتابة والمدينة والعكس صحيح. لكن هل أقام الأمازيغ دولاً ؟ آخر الأخبار تقول ووفقا لبعض المؤرخين الفرنسيين المحملين بالكراهية والعنصرية أنهم (الأمازيغ) “مصابون بعجز خلقي” يمنعهم من البناء !!! لحسن الحظ فإن الحقائق التاريخية لا تزال حاضرة هنا وهي تظهر العكس تماماً. هذا المؤرخ المزعوم، العنصري والمثقل بالكراهية، أو الذي يستجيب لأوامر الإستعمار (أو الاثنين معاً ربما ) ألم يكن يعلم بوجود دول أمازيغية في زمن قرطاج وروما ؟ ألم يكن يعلم أن حنبعل الجنرال القرطاجي قد عبر بفرسانه النوميديين سلسة جبال البيرينيه و كان قريباً من إحتلال روما ؟ ألم يعلم أنه ولعدة قرون أقام الأمازيغ دولاً، وأن أحدهم غزا جنوب إسبانيا ووصل تقريبا إلى حدود فرنسا ؟
إذا كان الأمازيغ في الماضي لم يضعوا أسس تقليدٍ كتابيٍ قابلٍ للاستمرار للغتهم وثقافتهم المحلية ، فذلك بالتأكيد لا يعود للأسباب الخارجية المذكورة أعلاه، لأن الأسباب الحقيقية من وجهة نضرنا هي من مصدر آخر، أي داخلية أكثر منها خارجية، ويجب أن تكون كذلك. لكن النقاش حول هذه المسألة يبقى مفتوحاً.
ما سبق يمكنه تفسير “كيف” وليس “لماذا” أن الأمازيغية بقيت حية بفضل التوارد الشفوي طيلة هذا الزمن إلى جانب اللغات والثقافات ذات الممارسة الكتابية العريقة والصلبة مثل الفينيقية (؟)، اليونانية القديمة، اللاتينية، العربية، التركية و الفرنسية. لكن بالمحصلة وبإختصار، فقد تواردت الأمازيغية لغةً وثقافةً ولعدة قرون شفويا، أي من الأفواه إلى الأذان ومن جيل إلى جيل.
إذا كانت الأمازيغية تاريخياً تنتقل بهذه الطريقة، فذلك يعود دائما لظروفٍ اجتماعية، ثقافية وسياسية مناسبة. لقد تمثلت حياة وديمومة هذه اللغة والثقافة إذاً في مجموعة من الممارسات الفردية، الأسرية والاجتماعية. فالأسرية أو الاجتماعية منهاً مثلاً كان يعاد إنتاجها و تناقلها في حالات زمانية ومكانية ضرورية ودقيقة، فتغيّر أو غياب هذه الوضعيات يؤدي إلى الإختفاء الكلي أو الجزئي لتلك الممارسة اللغوية، وبالتالي إختفاء جزء من هذه اللغة والثقافة. وفقاً لهذا، فمنذ انفتاح منطقة القبائل على العالم “المتقدم” و إسهاماته في التنمية الاقتصادية، التثاقف، الاتصال والتعليم، فإن العديد من الممارسات اللغوية والثقافية الأمازيغية لم تعد قائمة، لأن الحالات المكانية و الزمنية على وجه التحديد التي كان يعاد فيها إنتاجها وإنتقالها عادةً قد اختفت. فمثلاً وصول الكهرباء إلى المنازل بالمنطقة ثم التلفاز أنهى الظروف والحالات التقليدية التي عاشت فيها بعض الممارسات الأدبية الأسرية مثل timucuha (الحكايات) التي كانت تسرد بين أفراد العائلة بعد العشاء، أو تراجع (ليس كليأً أو نهائياً ربما) الإحتفال التقليدي في الأعراس المعروف بـــــــUrar n lxalat (غناء ورقص نسوي) أمام وصول ما يسمى بالديسك جوكي، والأمثلة كثيرة.
ولكن قد يكون من الخطأ تعميم هذه الحجج التفسيرية بسرعة على جميع الحالات التي لم يعد فيها التوارد اللغوي والثقافي بين الأجيال شفوياً. ففي الواقع هناك حالات لا علاقة فيها بين هذا الانتقال والتجديد من جهة والظروف المادية المذكورة أعلاه من جهة أخرى، ويكمن مردّها لأسباب دينية، أيديولوجية، نفسية، اجتماعية وثقافية، مثل ما هو عليه الحال بالنسبة لغالبية الأمازيغ المعرّبين لغويا لأسباب تتعلق بالإسلام الذي وصلهم بالعربية. من ناحية أخرى فإن بعض الأولياء المتعلمين في المنطقة اليوم لا يرون ضرورةً في نقل الممارسة اللغوية التي اكتسبوها بدورهم من آبائهم إلى أطفالهم. الغريب أن هؤلاء الآباء والأمهات الذين في رأيي إكتسبوا وتبنوا ثقافات أخرى مثل المنتمين إلى الطبقة الوسطى أو البرجوازية الصغيرة، يعيشون في منطقة القبائل وغالباً في المدن.
تعليم وتعلّم الأمازيغية كتابياً وشفوياً:
سنتفادى بكل سرور شجب التعليم والتعلّم الذي يجري خارج الإطار الأكاديمي، ونحن ندرك جيدا وجود تعليمية المادة وطرق تعليم وتعلّم شفوية. من ناحية أخرى حتى في حالات التعليم والتعلّم المدرسي والأكاديمي خاصة بالنسبة للغات والثقافات الأجنبية، غالبا ما يستخدم ما يسمى بالغمر و الحمامات اللغوية لتكملة تدريب المتعلمين ورفع مستوى مهاراتهم اللغوية والخطابية.
لكنه ليس مؤكدا أيضا أن تعليم وتعلّم اللغةً والثقافةً كتابياً وبالكتب يؤدي إلى تحصيل مهاراتٍ لغوية وخطابية أفضل لدى المتعلمين، والدليل على أن آباءنا الأميين وأحاديي اللغة يتقنون لغتهم مثل إن لم يكن أفضل من الذين تعلّموها في المدرسة بطريقة أكاديمية. ويكمن الفرق بين هذين النوعين من التعليم والتعلم في جوانب أخرى.
التعليم والتعلّم في ظروف النزوح والهجرة:
بالإضافة إلى الأسباب المذكورة آنفاً خاصة تلك المتعلقة بالتعريب اللغوي لجزء كبير من الأمازيغ (الجزائر والمغرب وتونس وليبيا و …)؛ والأسباب التي دفعت بعض القبائل والأمازيغ الآخرين الذين يعيشون في المدن إلى تغيير لغتهم أو حتى هويتهم، سنذكر هنا أسبابا أخرى مرتبطة جزئياً بالاقتصاد، والتي دفعت أبناء المنطقة لمغادرتها للعمل والعيش في أماكن أخرى.
قبل الهجرة إلى فرنسا وأوروبا التي تعود إلى بداية القرن التاسع عشر، ثم إلى أمريكا الشمالية (كندا، و.م. الأمريكية) حديثاً، شهدت منطقة القبائل نزوحاً ريفياً وهجرة داخلية إلى العاصمة، وهران، قسنطينة و مدن أخرى. في الأساس هي نفس الأسباب الاقتصادية التي دفعت العائلات إلى البحث عن العمل والقوت أولاً ثم الاستقرار لفترة طويلة أو بصفة نهائية في مدن جزائرية أو بلدان أخرى تكون فيها الظروف المعيشية مناسبة.
في حالتي الهجرة الداخلية والخارجية المذكورتين، نجد نفس الآثار تقريبا هي المترتبة على تعلّم لغة وثقافة القبائل وكذلك تواردها بين الأجيال، إذ تتغير الأوضاع اللغوية، الاجتماعية والثقافية للأسر المهاجرة في كلا السياقين على ما كانت عليه في موطنها الأصلي. خارج المحيط الأسري تُمارَسُ لغاتٌ وثقافاتٌ أخرى غير القبائلية وبالنتيجة يُحكم عليها بالاندماج والذوبان التدريجي: فعلى المدى القصير أو الطويل، وبعد بضعة أجيال، ينتهي المطاف بهذه الأسر إلى نسيان وفقدان صفتهم القبائلياتية: اللغة، الثقافة والأصل.
ومع ذلك هناك بعض الأولياء والأسر المحافظة والواعية التي يمكن استثنائها من هذا الوضع العام، لكن كيف ؟ في العموم فالأولياء الأوائل هم الذين يفرضون إنضباطاً تعليمياً صارماً داخل أسرهم بتعليمات واضحة: داخل المنزل، يمنع التحدث بلغة البلد المضيف. بعض الأولياء اللذين يؤخذون المسألة بجديّة يلجأون إلى اتخاذ تدابير وعقوبات ضد من يخالف تعليماتهم. زيادة على هذا يضيفون حمامات لغوية لأولادهم: فيصرّون مثلا على أن يزور أطفالهم بانتظام خلال العطلة الصيفية، قرى أجدادهم في منطقة القبائل والعيش هناك لفترات معينة. بهذه الطريقة فقط تمكنت بعض العائلات التي تعيش لعدة أجيال في الجزائر العاصمة وهران الخ، أو استقرت في مدن فرنسية وأوروبية، من إيصال لغة وثقافة أسلافها شفوياً إلى خلفها.
مع كل هذا هناك سبل وطرق أخرى لتعليم وتعلّم هذه اللغة والثقافة ونقلها عبر الأجيال التي لم يستطع القبائل ولا الأمازيغ عموما استغلالها حتى وقت قريب.
صحيح أن هذه اللغة والثقافة كانت ولقرون طويلة ذات تقليد شفوي، وهذا يعني ما يعنيه! ولكن من بين ما يمكن فهمه من هذه الحقيقة أنه لم تكن هناك أبدا أي مدارس تلقَّن فيها بأي شكل من الأشكال هذه اللغة والثقافة حتى قبل ظهور الاستعمار الفرنسي سنة 1830، رغم أن منطقة القبائل كانت حاضنة للمدارس القرآنية والإسلامية من مختلف المستويات، ولكن لم يثبت إلى اليوم أن الأمازيغية أو أي من متغيراتها دُرِّست فيها، كما لا يُشهد أيضاً بتاتاً أن القبائل اللذين كان لهم باع في العربية والعلوم الإسلامية قد أي شيئ لوضع الأسس الأولى لاقامة تقليد كتابيّ للغتهم. لكن في الوقت الحاضر، تغيرت حالتها وتحسن وضعها بشكل ملحوظ، فقد أصبحت تُكتب و تُقرأ، ولو من عدد قليل من الناس. هناك العديد من الكتب بالقبائلية وحول القبائلية، كما أن الوسائل البيداغوجية لتعليمها وتعلّمها متاحة اليوم.
لم يبقى إلاّ شيء واحد فقط: تنظيم أفضل، لتأسيس مدارس نتمكن من خلالها ممارسة تعليم وتعلّم هذه اللغة والثقافة خارج منطقة القبائل خاصة في أوروبا وأمريكا الشمالية اللتين تتوفران على نظام تشريعيّ مواتي ويسمح فيها لنشاط الجالية في هذا المجال. يمكن للمرء أيضا تعليمها أو تعلّمها شفوياً أو ذاتياً كما يمكن ذلك بالكتب والأدوات البيداغوجية كالمراجع النحوية والقواميس.
قد يتسائل البعض عن كيفية تمويل هذه النشاطات إذا كانت سلطات البلدان المضيفة لا تحبذ، لا تستطيع أو لا تريد الإسهام فيها ؟ هناك حلول أخرى ممكنة، تقليدياً ينظم القبائل أنفسهم هناك حسب قراهم أو تنظيماتهم ألأخرى في الوطن للمساهمة وبشكل دوري في جمع آلاف اليوروات أو الدولار لتغطية تكاليف إعادة جثامين ذويهم، يؤسسون جمعيات تجمع الأموال أيضاً ذات منفعة جماعية، ينظمون حفلات للترفيه أو للمساهمة في الأعمال الخيرية… فلماذا لا يوجه هذا أيضاَ لإنشاء جمعيات تعليمية أو مدارس ؟
كمال بوعمارة، يناير 2018
ترجمة الأستاذ قاسي مخلوف