أتسائل إن كان بعض بقايا البعثيين و الإسلاميين عندنا لا يزالون يجترّون مثل هذه الترّهات خاصة في ظل ما يحدث اليوم أين أصبحت دول عربية كبيرة تطبّع جهارا نهارا مع إسرائيل . فالفكر التآمري في الأنظمة المستبدة يُستعمل لإيهام المواطنين أن المشاكل التي يعاني منها ليست نتاج أسباب موضوعية منها تخلف هذه البلدان و استبداد حكّامها و إنما إلى “أيادٍ خفية” تتربص بهذه الشعوب و تحيك لها المكائد طيلة اليوم . فجميع المطالب الشرعية للمواطنين داخل هذه الدول المتخلفة هي “مؤامرات خارجية” و المدافعون عن الهوية الأمازيغية كانوا من أكبر ضحايا هذا الفكر التآمري .
على كل حال , لقد تذكرت هذا الإتهام السخيف و ابتسمت طويلا عندما شاهدت مؤخرا بعض البرامج الإخبارية العربية و التي عرضت حقائق يبدو أنني الوحيد الذي لا يزال يجهلها .
على قناة مُعارِضة مصرية يبدأ الصحفي برنامجه بمقدّمة حماسية يذكّر فيها ب”ثوابت الأمة العربية” و أن “القدس هي الوجدان العربي ” ثم يستشهد ببعض الأبيات كعادة العرب , ثم يقول :
” بعد أن كشف نتنياهو عن صفقة بيع الغاز الإسرائيلي لمصر واصفاً يوم إمضاء المعاهدة ب”العيد” , يبدو أن أنظمتنا العربية لم تعد تخجل من إقامة علاقات تجارية و سياسية مع الكيان الصهيوني , بل إنّ مناهضة التطبيع مع إسرائيل أصبح اليوم جريمةً يُعاقب عليها القانون . في السعودية تم مؤخراً إعتقال ناشطة بعد أن نشرت مقطع فيديو على التويتر تندّد فيه بالتطبيع , و في الإمارات شارك وفد من إسرائيل في دورة دولية في رياضة الجوجيتسو و التي أهدى خلالها أميرٌ إماراتيّ ساعة ثمينة لرياضية إسرائيلية كما أوردته الصحافة الإسرائيلية. في المغرب, و في إطار دورة رياضية أخرى عُزف أول مرة النشيد الإسرائيلي في دولة عربية “ يتنهّد الصحفي عميقا ثم يواصل و قد أظهر التأثر : ” لقد سُحبت القدس كشرط أولي لكل تفاوض على حل الدولتين , فهذا ولي العهد السعودي و في مقابلة مع قناة سي بي آس الأمريكية عندما سألته الصحفية عن رأيه في قرار إدارة ترامب بنقل السفارة الأمريكية في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس , قال أنه يفضّل أن يركّز على الأمور التي تخدم جميع الأطراف . لقد باع الأعراب قضية الأمة العربية و الإسلامية ! ” .
على قناة أخرى كانت قضية النقاش التقارب الحديث بين السعودية و إسرائيل و أحد مواضيعه الفرعية فتح المملكة السعودية لأجوائها لرحلة مباشرة للخطوط الجوية الهندية تربط بين نيودلهي و تل أبيب وهي سابقة تاريخية . أجمع ضيوف الحصة أن إسرائيل لم تعد العدو الأول للأنظمة الخليجية و إنما إيران و أن هذه الأنظمة أصبحت تنظر لإسرائيل كشريك اقتصادي. و في هذا السياق ذكّر أحد الضيوف بمشروع مدينة “نيوم” الضخمة التي تنوي بناءها السعودية و الذي تشارك فيها كل من مصر و الأردن بالأرض و السعودية برؤوس الأموال و قال أن هذا المشروع الإقتصادي العملاق سيجعل من مدينة “نيوم” فضاءً دولياً للتجارة الحرة تشارك فيه جميع الدول الإقليمية بما فيها إسرائيل و هو مشروع تنبأ به شمعون بيريس في مذكراته التي عرض البرنامج مقاطع منها .
حتى على بعض القنوات المحسوبة على الإسلاميين أصبحت إسرائيل موضعا للمدح و الثناء . فعلى قناة للإخوان المسلمين بُثّ روبورتاج حول الظروف الغير إنسانية في السجون المصرية أين يتكدّس عشرات الأشخاص في زنزانات صغيرة جدا , بالمقابل يعرض الروبورتاج الظروف الحسنة جدا للمساجين الفلسطينيين في سجون الإحتلال الإسرائيلي , ثم يُشيد الصحفي بالتعامل “الإنساني” لقوات الأمن الإسرائيلية التي تضرب الفلسطينيين بالرصاص المطّاطي “فيما يقصف بشار الأسد مواطنيه بالبراميل المتفجرة “ .
يبدو أن التطبيع مع إسرائيل لم يعد من “الطابوهات” عند الشعوب العربية , ربما لأن لديهم أولويّات أخرى و ربما لأنهم أدركوا أخيرا أن أسباب تخلفهم و خراب أوطانهم ليس “اللوبي الصهيوني” أو ” المؤامرة الماسونية العالمية ” و إنما تجبّر رؤسائهم و ملوكهم و غياب الديموقراطية في بلدانهم و أن إسرائيل ليست بحاجة للوبي لكي ينصاع لها هؤلاء الحُكّام .
بالعودة إلى عنوان المقال الذي أردنا أن نبيّن من خلاله غباء و عبثية الفكر التآمري , تخيلوا أن يُتّهم (من طرف نسخ مغشوشة من العرب ) شاب فقير من قلب الأوراس أو من الأطلس المغربي بالتآمر مع ” اللوبي الصهيوني” فقط لأنه يريد أن يُحافظ على لغة أجداده , في الوقت ذاته وعلى بعد آلاف الكيلومترات , يعقد ملوك و رؤساء دول عرب (أقحاح) علاقات إقتصادية و سياسية كبيرة مع ما يسمونه “الكيان الصهيوني” ؟
إنه لأمر يدعو حقيقةً للضحك .
يوغرطا حنّاشي