حتّى مع كلّ قناعاتي “الراسخة” بأن منطقة بلاد إيشاويّن عامّة، وماسكولا (خنشلة) خاصّة، تعاني من حصار تعليمي وثقافي ذي أساسات اقتصادية صلبة، هدفها الوحيد هو ثنيُ المنطقة وساكنتها، وتثبيط إنزيمات الثورة الّتي يقيدها التاريخ منذ ما قبل الميلاد، في سجل هذه الأرض وهذا الشعب؛ لا أستطيع، حقّا، أن أصدّق ما نشرته جريدة “الشروق” ، من أنّ مدرّب نادي مدريد الملكي Real madrid الإسباني : زين الدين زيدان قد تكفّل بتجهيز عشرة مدارس في نسيغا وهامزا… ورغم علمي بالخطّ التحريري لهذه الجريدة، و”اللّون الفكري” لمراسلها هذا بعينه، إلّا أنّ الخبر وقع عليّ كالصاعقة، صدقا.
أشيع مؤخّرا في دوائر قريبة من فخامة والي الولاية، أنّ نسبة 75% من ميزانية التسيير قد “عادت” إلى العاصمة، بحكم الرخاء الذي تعيشه المنطقة والأموال المتدفّقة من مختلف المشاريع الاستثمارية الأجنبية بها، والأقطاب التنمويّة التي رسّمها فخامته حولها .. طبعا تعلمون أنّي أسخر، من واقع مرّ، تعانيه هذه “الولاية المجاهدة” كما يصفها سلّال (الذي قال: شاوي حاشا رزق ربّي) ووزراؤه، في كلّ محفل رسمي.
ما معنى أن يمنح زيدان، مبلغا ماليّا لتجهيز مؤسسات تابعة لوزارة التربية ووزارة الداخلية والجماعات المحليّة؟ ألا تتكفّل هتان الوزارتان بذلك أم أنّهما مشغولتان بالوسط والغرب لدرجة، أصبح أأبناء آوراس في حاجة إلى الإحسان، في وطن حرّره آباؤهم!
ليس من باب الجهويّة، التي لا أنفيها بل أؤكّد اعتناقي لها، ولكن من باب “المواطنة”، حتّى وإن كانت مجرّد حلمٍ جميل يحاول كلّ “فايق” أن يحلمه علّه يتحقّق، أتساءل: كيف وصل بنا الحال إلى الوضع الذي نحن عليه، في منطقة قدّمت كلّ ما تملك، حرفيّا، من أجل استقلال هذه البلاد، لتقوم على أنقاضها “دولة” حكمها ويحكمها وسيحكمها أولئك الذين أقسموا على أن ينتزعوا منها كلّ جينات الثورة، ليحكموها ربّما .. أو لشيء في نفس يعقوب.
شخصيّا أمقت نظريّة المؤامرة، وأؤمن أنّها مجرّد مبرّر آخر للتكاسل والتقاعس عن واجب “المقاومة” الإنساني المقدّس، لكنَّ السياق الذي تضع فيه الأحداث نفسها، هنا، يحيلني مجبرا على نصّ قرأته منذ ثلاث سنوات، وذكّرني به أستاذ جامعي من النخب الحقيقية منذ أيّام؛ في اقتباس مثير للجدل، منسوب إليه، يقال أنّه يعود إلى سنة 1931 وهو ما يختلف فيه الباحثون، يقول الكاتب والفيلسوف البريطاني ألدوس ليونارد هكسلي (Aldous Leonard Huxley (1894-1963 :
من أجل خنق أيّ ثورة قبل وقوعها، لا يجب أن يكون هذا بطريقة عنيفة. لنخلق ببساطة إشراطًا جمعيا* un conditionnement collectif قويّا إلى درجة أنّ فكرة الثورة في حدّ ذاتها لن تساور ذهن البشر. سيكون مثاليا أن يهيّأ الأفراد منذ ولادتهم، ويحدّ من قدرتهم الغريزية البيولوجية.
ثم نواصل الإشراط، ونهبّط التعليم جذريّا، حتى نحيله إلى شكل من أشكال الدمج (المهنيّ). الفرد غير المتعلم ذو أفكار محدودة الأفق، وتفكيره ينصب فقط على مشاغل “متدنّية”، وهذا ما يجعله أقلّ ميولا للتمرّد/الثورة. يجب أن نضمن بأنّ يزداد الوصول إلى المعرفة تدريجيا صعوبة ونخبوية. وأنّ تتعمّق الهوة بين الشعب والعلوم، وأنْ يخدّر كلّ محتوى “هدّام**” في المعلومة الموجهة للعامة، خاصّة الفلسفة. أؤكّد مرّة أخرى، علينا أن نستعمل الإقناع لا العنف المباشر: ببثّ دائم لمعلومات ومواد تسلية عاطفية وغريزية، على نطاق واسع عبر التلفزيون.
Pour étouffer par avance toute révolte, il ne faut pas s’y prendre de manière violente. Les méthodes du genre de celles d’Hitler sont dépassées. Il suffit de créer un conditionnement collectif si puissant que l’idée même de révolte ne viendra même plus à l’esprit des hommes. L’idéal serait de formater les individus dès la naissance en limitant leurs aptitudes biologiques innées.
Ensuite, on poursuivrait le conditionnement en réduisant de manière drastique l’éducation, pour la ramener à une forme d’insertion professionnelle. Un individu inculte n’a qu’un horizon de pensée limité et plus sa pensée est bornée à des préoccupations médiocres, moins il peut se révolter. Il faut faire en sorte que l’accès au savoir devienne de plus en plus difficile et élitiste. Que le fossé se creuse entre le peuple et la science, que l’information destinée au grand public soit anesthésiée de tout contenu à caractère subversif. Surtout pas de philosophie. Là encore, il faut user de persuasion et non de violence directe : on diffusera massivement, via la télévision, des divertissements flattant toujours l’émotionnel ou l’instinctif.
لا يحتاج عاقل إلى شرح نصّ هكسلي هذا، فالواضح وضوح شمسٍ؛ لكلّ مطلّع (ولو بسطحية) على خطّة التعليم والإعلام التي انتهجتها الدولة الدزيرية في بلاد إيشاويّن منذ الاستقلال وحتّى اليوم، أنّه يروي ما حدث فعلا ها هنا. فما سرده الفيلسوف والأديب الإنجليزي في سياق نصّ أدبي، ينطبق واقعا بحذافيره على الوضع في بلاد إيشاويّن، الّتي فرض فيها بالقوة تعليم العربية، منذ الاستقلال، وهذا ما يمنع اليوم، فعليّا، أجيالا بأكملها من الولوج إلى عالم المعلومة، والاطّلاع على مختلف العلوم. وميّع التعليم فتحوّل إلى تأشيرة “عمل” يتخرّج بعد سنوات طوال فيه “الشّاوي” ليعمل، فقط لا غير، لا علم ولا عمّار بوزور. ونمذج الخطاب الموجه لمنطقة آوراس آمقران، ومعير بعبارات النفخ والمجاملة، الّتي إذا أضيفت لما سبق تحوّلت إلى مخدّر ممتاز، يمنع أيّ تمرّد محتمل. وحُيْوِنَتِ الاهتمامات (Animalized) في المنطقة، وثبط الذوق العام، بتدمير كلّ عوامل ازدهار السياحة والثقافة والفنون، وبالتّالي بقي الشّاوي عبدًا للخبزة والأمن والجنس.
قد أكون مصابا بجنون الارتياب، وقد يكون تحليلي هذا مجانبا للصوّاب، أو فاقدا للموضعية خاصّة في ظلّ “الجدل” حول مصدر وأصليّة النص، وبالنظر إلى انتمائي إلى هذه المنطقة، الذي قد يشوّش تفكيري بعاطفيّة وغضب. ولكنّ الأكيد أنّ قاعدة هرم “ماسلو” التي يشترك فيها الإنسان مع الحيوانات، والتي تتجلّى اليوم في مجموع اهتمامات الشّاوي الممنوع من الثقافة والفن، بفعل التعليم والإعلام، تؤكّد ما أقول على أرض الواقع. وأنّ الوضع في بلاد إيشاويّن يحتاج حقّا إلى تحليل عميقٍ ونظر وافٍ وجلسات تبرير ومحاكمة تاريخية وسياسية كافية لفهم أسباب ما اجترحت الأنظمة المتعاقبة على الدولة الدزيرية الناشئة بفضلٍ يعود لها (للمنطقة) منه الكثير. كما يحتاج إلى “نهضة” حقيقية، معرفيّة أوّلا وقبل كلّ شيء، للعمل على هدف واضح هو: إيجاد وخلق البديل.
والأكيد أيضا، على ضوء “صدقة” زيدان التي نتمنّاها مقبولة مبرورة، تصلُ إلى من تصدّق بها عليهم كاملة، أنّ علينا مرّات أخرى دقّ ناقوس “المواطنة” الوهميّ بقوّة، فهذه الإعانة تفضح بوضوح ما يعانيه الشّاوي اليوم، من “فقر” في بلاد تفتخرُ بريعها و”عدلها” الّذي يبدوا أنّه لا يمسّ إلّا غرب البلاد منذ أكثر من 17 سنة، ولتحيا “الجزائر”…
**يقصد الأفكار المحرّضة على التمرّد، خاصّة الفلسفة.