تعدّ بلاد إيشاويّن واحدة من أفقر المناطق تمثيلا في المجال الثقافيّ والفكري الدزيري؛ وربّما تكون أفقرها إنتاجا على مستوى “التراث اللاماديّ واللاماديّ” المتعلٌّق بها. فرغم كونها مشتلة حقيقة للأدباء والمبدعين في مختلف المجالات، إلّا أنّها تصدّر جميع “إنتاجاتها/مثقّفيها لخدمَة ثقافات أخرى، داخل دزاير وخارجها.
ولعل هذا هو السبب الحقيقيّ وراء “العدم” الذي تعانيه المنطقة على مستوى الدراسات والأبحاث الاجتماعية والأنثروبولوجيّة والتاريخية واللغوية الأكاديمية، وعلى مستوى الإنتاجات الأدبيّة والإبداعية المتعلّقة بها، كما على مستوى “الأفكار” ذات النزعة الجهويّة المتخصّصة (حتّى لا نقول “المتحيّزة”) في المجال الجيو-إثني الشاوي la sphère geo-ethnique Chaouie
وليست النخب السياسية بأحسن حال، فممثّلوا سكّان ولايات بلاد إيشاويّن في المؤسسات التشريعية، مثلا، لا يُظهرون أدنى انتماء لمناطقهم، رغم أنّهم ممثّلون “جهويّون” منتخبون لساكنة “جهاتهم” في مؤسسة “ديمقراطيّة” تقوم على تمثيل جميع “جهات” البلاد!
إنّه لمن المحيّر حقّا؛ هذا السلوك “الانفصاليّ عن الذّات” الذي تسلكه النخب الثقافية والسياسية لمنطقة بأسرها، منطقة ذات خصوصيّة وصبغة ثقافيّة مميزّة، تجعل من تلك النّخب بارزة ومختلفة عن بقيّة مكوّنات البلاد، ومع ذلك فإنّها، أيّ النخب، تبدوا وكأنها تصرّ على الانفصال عن هذه الخصوصيّة والذوبان في كلٍّ هلاميّ مجازيّ تسمّيه “الوطن” وتعتبر الانتماء إليه مناقضا للانتماء أو الانتساب أو حمل صباغ “الجهة” التي جاؤوا منها.
إنّ النخب الشاويّة، تعوّض انتماءها الجهوي بالإفراط في “الوطنية”. وطنيّة يرون أنّ الاندماج فيها يقتضي التنصّل من الانتماء الجهويّ والتخلّص منه كما يحصل في كثير من الحالات، والتزام صفّ “الوحدة” الشموليّة التي تجعل من الجميع نسخا، قبلوا وفضّلوا أن يكونوها أو يكونوا كما يُملى عليهم، أيّا كان ذلك الإملاء، على أن يكونوا “منتسبين إلى بلاد إيشاويّن”.
والسؤال الّذي يطرح نفسه بقوّة هنا هو: لماذا تعوّض النخب الشّاوية انتماءها الجهوي بالإفراط في “الوطنيّة”؟
بالوطنيّة هنا، طبعا أقصد النسخة المتعارف عليها من وطنيّة “الحزب الواحد”، المكرّسة في خطابات بومدين وأدبيات مثقفّي السلطة، الرافضة لكلّ تمايز ثقافي، والمرتكزة في العاصمة، وعواصم المسؤولين، المشيطِنة لكلّ “نزعة جهويّة” تحت بند الحفاظ على الوحدة الوطنيّة. حتّى أصبح النائب البرلماني عن ولاية خنشلة، يتحدّث عن كلّ الولايات إلّا عن ولايته، مخافة أن يوصف بالجهويّة.
في معرض حديثه عن “أسباب السبات الطويل الذي سبق الصحوة الهوياتية في بلاد إيشاويّن” يقول الرّاحل “عمار نڤادي”، الذي أعتبره أحد أبرز المثقّفين الجهويّين في بلاد إيشاويّن، خلال القرن الماضي:
« .. Le Chaoui est par « essence » d’abord légitimiste, unioniste. Il rejette tout ce qui peut lui paraître diviseur, séparatiste, régionaliste. Il préfère s’effacer, se fondre, que nuire à l’unité.. »
« .. الشّاوي في جوهره، شرعويّ (أو شرعاني)، وحدويّ. يلفظ كلّ ما قد يظهر له مقسِّما، وانفصاليّا، وجهويّا. إنه يفضّل أن ينمحي، أن يذوب، على أن يشقّ عصا الوحدة .. » [1]
قد يكون “عمار نڤادي” بنى هذا الاستنتاج على معطيات تاريخية بحكم مجال بحثه. ورغم أنّ تحليله هذا فيه كثير من الصحّة، خاصّة في سياق حديثه عن “المسألة الآمازيغية” كحراك مطلبيّ “رأى” فيه الشّاوي في مرحلة من المراحل، مطلبا جهويّا، مضرّا بالوحدة، ولذلك لطبيعته “رفضه”، إلّا أنّ تحليله هذا، في رأيي، لا يسرد سبب الظاهرة التي تعاني منها نخب إيشاويّن، بل عاملا مفتاحا key factor، يمكن استعماله في تحليل أعمق.
إنّ الحديث عن نخبٍ جهويّة في دولة وطنيّة ذات وسائل وتوجّهات رافضة للجهويّة كمفهوم، لا يمكن أن يكون بمعزل عن الظروف العامّة التي تعيشها هذه النخب، تلك التي تؤثّر فيها وتشكّل شخصيّتها وتجعل منها أجزاءً من منظومة كليّة، تسيَّر لصالح هذه الدّولة. ولست أفترض بأنّ “الدولة الوطنيّة” ترفض “الجهويّة” بل أسرد واقعا هنا، فـ”الدولة الوطنيّة” لا تقبل أن يكون لأيّ منطقة خصوصيّة أو اختلاف عن بقيّة المناطق، وهو المنطق اليعقوبيّ “الدزيريّ” الذي فرضته منظومة دولة الثوّار منذ “هواري بومدين”، ولا يزالُ مكرّسا إلى اليوم، عبر التقاليد، إن لم يكن عبر المؤسسات السياسية.
إذا تابعنا تحليل نقادي، قد نصل إلى فرضيّة مفادها أنّ النخب الجهويّة الشاويّة ترى في “الجهويّة” ضررا على “الوحدة الوطنيّة” ولذلك تقوم بالتنصّل منها، حفاظا على “الوطن”. ولست هنا بصدد عرض إيجابيات وسياقات الجهويّة، ودور النخب الجهوية في بناء دولة حقيقة، لكنّي أحاول فقط أنْ ألخّص الأسباب والظروف التي جعلت النخب الشاويّة تتحيّز لوطنيّة هلاميّة وحدوية شمولية على حساب كلّ ما له علاقة ببلاد إيشاويّن.
هذا التحيّز الذي هو أحد العوامل الأساسيّة في الوضعية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسة التي تعانيها المنطقة، خاصّة في غياب بديلٍ فعّال، وفي ظلّ سيطرة المثقّفين “الوطنيين” على الساحة السياسية والثقافية في بلاد إيشاويّن.
هذا التصوٍّر الذي نشأ في أذهان النخب “الوطنية” في حقيقته ليس إلّا نتيجة مباشرة لمجموعة من الظروف والأسباب التي وفّرتها منظومة دولة الثوّار، وعملت على تكريسها لعقود، وواصلت بعدها النخب التي صنَعت، توفير ظروف مماثلة أكثر تركيزا لتكوين المجال الذي خلق لنا اليوم، هذا المسخ النخبوي الحاليّ، الذي يتنصّل من ذاته.
لا يخفى على أحد، أن المنظومة التعليمية خاصّة فيما تعلّق بالمواد “الهوياتية” تغيّب تماما أيّ “وجود” جهويّ، وتجعل من الوطن في ذهن الدّارس “كلّا” لا وجه له ولا ظهر، كلّا هلاميّا لا يتجزأ، ملغيّة كلّ الفروقات والاختلافات الثقافية واللغوية والاجتماعية والاقتصادية بين جهات البلاد، لتكوّن في ذهن المتلقّي تجريدا وهلاما يتحكّم في أفكاره طوال حياته، بفعل عمليّة “الإشراط le conditionnement” التي تقوم بها المدرسة الجزائرية منذ عقود طويلة، والتي أنتجت بالطبع، من نصفهم بالنّخب الثقافية والسياسية والاجتماعية الحالية.
منظومة كان، ولا يزال الهدف منها: الحفاظ على “وحدة” الشكل والمضمون، وإنتاج مواطنين مستنسخين عن نموذج واحد، ذي لغة واحدة، وثقافة واحدة، وانتماء واحد، ودين واحد.
نفس المنظومة، كرّست خطابا وحدويا شموليا منتجا لنسخ متطابقة، بصفة آلية، وجعلت من مركزيّة التسيير والتدبير، وتركيز الأقطاب السياسيّة الرسمية في “العاصمة السياسية” للبلاد، سياسة لا تناقش. ما يعدّ سببا رئيسا في حالة الفصام التي يعانيها المثقفون “الجهويون” في بلاد إيشاويّن وفي مناطق أخرى.
هذه المنظومة عبر الدولة بمؤسساتها، لم تكرّس فقط مركزيّة المؤسسات في العاصمة، بل نفت خصوصيّة بلاد إيشاويّن وجعلت منها معطى فولكلوريّا أدنى، غير ممثَل إلّا في احتفالات “أقل شأنا” من ثقافات أخرى، كالعاصميّة والتلمسانيّة والقسنطينية، ذات الصبغة العثمانية الطاغية، الّتي تعتبر، في معظم جوانب ومؤسسات ومحافل الدولة في الداخل والخارج، الثقافة الرسمية والعنصر المفتاح في الهوية الثقافية والمرئية للدولة الجزائرية، حتّى أنّ الألبسة “العاصميّة”، مثلا، أصبحت هي الألبسة الرسمية للدولة الجزائرية
العامل الأكثر أهميّة، والذي نتج مباشرة عن هذه الممارسات هو : الإعلام. إذ لا يمكننا، حقّا، أن نصف أيّا من المثقّفين “البارزين” على السّاحة الإعلامية الوطنيّة، بالـ”وطنيّة” في بعدها الجغرافيّ، فقد تحوّل المجال الإعلامي، منذ انفتاحه على القطاع الخاص، وبفعل تركّز وسائل الإعلام الثقيلة في العاصمة، وهذا لا يخفى على أحد، إلى منبر لـ”عصمنة” البلاد، إن صحّ التعبير؛ أي تركيز البعد الوطنيّ في العاصمة. وتقديم الـ”جهات” فقط عبر “من وُجدَ” من المنتمين إليها بالعاصمة.
مما أسّس لتمثيل زائف للجهات، على وسائل الإعلام الثقيلة التي تشكّل “الرأي العام” للبلاد بأسرها، دون أن ننسى الدور السلبي الذي تلعبه الفروع الجهوية والمحليّة لوسائل الإعلام العاصميّة في تشويه صورة بلاد إيشاويّن، وغياب وسائل إعلام حقيقة ذات توجّه وتركزّ جهوي.
لقد وجدَ الشّاوي نفسهُ وسط منظومة تشيطن خصوصيّته وثقافته واختلافه، أو لنقل، ترفض تَمايزهُ اللغوي والثقافي والاجتماعي عن شركاء وطنه. منظومةٌ سخّرت كلّ وسائلها، لاقتناص و”تجنيد” نخبه، السياسية والثقافية والاجتماعية، من أجل مواصلة عمليّة الإشراط le conditionnement التي مارستها لعقود، بنجاح.
في غياب وعي جهويّ حقيقيّ، يعمل على الخروج من قوقعة النشاط “اللغوي” أو “الهويّاتي” إلى النشاط المواطناتي الجهوي، وفي ظلّ العجز الحاليّ عن إنتاج الأفكار، وأمام المحاولات “الفاشلة” للتأسيس لنزعة “جهويّة” بنّاءة، سواء عبر المشاريع الثقافية الصوريّة المحتوات غالبا من قبل “نخب وطنيّة” أو عبر المشاريع شبه السياسية القائلة بالفدرلة أو الانفصال، فإنّ الشّاوي سيبقى محكوما برغبة “الدولة الوطنيّة” وإيعازاتها، حتّى بعد أن تغيّر هذه الدولة الوطنية توجّهاتها وتقرّر العناية بالجهويّة، ستجد بلاد إيشاويّن نفسها، عاجزة عن العمل في ذلك السياق، تماما كما وجدت نفسها بعد ثورة التحرير، وسيضلّ، بعد أن دفع أبهظ الأثمان على مرّ العصور، أكبر الخاسرين أيا كان حال البلاد، لأنّ “نخبه” الحقيقة تغيّب، بينما تصنَّعُ وتبرمجُ “نخب رسميّة موازية” هدفها الآلي : الانسلاخ منه.
[1] Interview accordée par Ammar NEGADI à Salim Guettouchi : « La vérité amazigh s’imposera et triomphera dans son pays… »
Paris le, vendredi 15 octobre 2004