المسألة الدينية في تاريخ الأمّة الجزائرية
يعد الدين عاملا رئيسيا في الحركية التاريخية للأمة الجزائرية عبر تاريخها الطويل، ويلعب دورا إيجابيا في حالة الإعتزاز بالإنتماء للأمة، لكنه يلعب دورا سلبيا عندما يتبنى الجزائري الممارسات الأجنبية لدينه، وإذا تتبعنا الأمة الجزائرية في تاريخها، فعادة ما نجدها منقسمة إلى ثلاث أصناف صنف موال للمشرق وصنف موال للغرب على المستوى الثقافي، ويتبعها في بعض الأحيان على المستوى السياسي، وعادة ما ينشب صراع قاتل بين الطرفين يكون الخاسر فيها هي الأمة الجزائرية، لكن هناك صنف ثالث يلتزم بجزائريته فقط، وهو ما يجب أن يكون.
ونلاحظ هذه الظاهرة على المستوى الديني واللغوي والثقافي بشكل عام، فعلى المستوى الديني، فقد كان الجزائري في الماضي السحيق وثنيا مثل أغلب الشعوب، لكن يختلف في وثنيته ما بين المتأثر بعبادة آلهة الفنيقيين أو المصريين أو الإغريق، وعندما ظهرت اليهودية أعتنق البعض من الجزائريين الديانة اليهودية بصفتها ديانة أرقى وسماوية، ويقول البعض أن الديانة اليهودية في الجزائر هي نتاج هجرة بعض اليهود من فلسطين بعد تشتت اليهود في الأرض، كما نجد بعض اليهود هربوا من الأندلس مع المسلمين بعد عام 1492 .
وعندما ظهرت المسيحية على يد سيدنا عيسى عليه السلام، أعتنق بعض الجزائريين خاصة والأمازيغ عامة هذه الديانة الجديدة، ويقول بعض المؤرخين أن إنتقالها إلى بلاد المغرب قد تم بواسطة بعض المجندين الأمازيغ في الجيش الروماني الذين كانوا في فلسطين، لكن ما يلاحظ أنه بمجرد أن تبنى الرومان الديانة المسيحية في عهد الأمبرطور قسطنطين، ومزجوها بالطقوس الأمبرطورية الرومانية وإنتاج مذهب مسيحي مزيج بالثقافة الرومانية –الأغريقية، وهي الموجودة في أوروبا حتى تبنى الأمازيغ مذهبا خاصا بهم هو المذهب الدوناتي نسبة إلى مؤسسه دونات، وهو نوع من الرفض للسيطرة الرومانية على المستوى الثقافي والديني والسياسي، ويعد هذا المذهب قريبا من المسيحية الحقة التي جاء بها سيدنا عيسى عليه السلام، وهناك فرضية تقول أن إنتشار هذا المذهب الدوناتي عند الأمازيغ هو إحدى العوامل وراء سرعة إعتناق الأمازيغ للإسلام بسبب التقارب بين هذا المذهب والإسلام كما جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .
لكن بسبب المشكلة والظاهرة المرتبطة بالجزائريين، فإن رغم تحرر البعض منهم من التبعية الثقافية لروما، وهم الدوناتيون والوثنيين الذين كانوا وراء الثورة التي قادها فرموس ضد الرومان إلا أن البعض منهم بقوا موالين لروما على أساس مذهبي، وهو ما يمثله القديس أوغسطين، وقد عرفت بلاد المغرب عموما والجزائر خصوصا فتنة دينية على أساس مسيحي بين موالين للجزائر فقط وموالين لروما على الصعيد الديني والثقافي، وهو ما يتكرر دائما في تاريخنا مثل اليوم مثلا أين نجد مسلمون جزائريون يمارسون الدين على أساس مغاربي بحت، وآخرون تأثروا بالوهابية والإخوان وغيرهم، ويريدون أن يضربوا هذه الممارسة الإسلامية المغاربية عامة والجزائرية خاصة، وأدخلوا الجزائر في فتنة دينية، ولهم للأسف ولاء لقوى خارجية سواء كانت مصر أو السعودية أو إيران لدى بعض المتشيعين بدل الولاء للجزائر والجزائر فقط، بل يريدون القضاء على الأمة الجزائرية لإدخالها فيما يعتقدون أنها خلافة إسلامية، وهم لا يختلفون في ذلك عن القوميين العرب في الجزائر الذين يؤيدون القضاء على الأمة الجزائرية وإلحاقها بسوريا أو مصر أو غيرها من البلدان العربية في المشرق، بل يشعرون بأنهم أقرب إلى المصري أو العراقي والسوري من سكان منطقة القبائل أو الأوراس على سبيل المثال لا الحصر.
وعندما ظهر الإسلام أقبل عليه أجدادنا الأمازيغ، ويتبين ذلك من ذهاب وفد منهم إلى عمر بن الخطاب لمعرفة الدين الجديد، لكن في الوقت الذي كان ينتشر فيه الإسلام سلميا لدى الأمازيغ، ومنهم الجزائريين، أراد الأمويون الذين أخذو السلطة، وحرفوا الإسلام، وسعو لبناء أمبرطورية إستعمارية تحت غطاء ديني، فحاولوا غزو بلادنا، لكن رفض الجزائريون خاصة والمغاربيون عامة هذه السيطرة، فكانت مختلف المقاومات التي قادها كسيلة الذي مات وهو مسلما على المذهب الصفري، وكذلك الكاهنة، ولم يتردد الجزائريون في إعتناق الإسلام 100بالمئة، لكن ليس ذلك معناه الوقوع تحت السيطرة الأموية العربية، ولهذا أصروا على طردهم، بل إعتنقوا المذهب الإباضي والصفري المعارض للأمويين في المشرق، وهو نوع من رفض السيطرة الأموية العربية، وهي ظاهرة تشبه نفس ظاهرة الدوناتية مع المسيحية، ولم يكتف الجزائريون بذلك، بل أسسوا أول دولة إسلامية مستقلة عن الخلافة في المشرق، وهي الدولة الرستمية، وهو ما يدل على مدى حرص الأمة الجزائرية على إستقلاليتها، لكن هذا ليس معناه عدم وجود بعض الجزائريين الذين يولون وجههم إلى المشرق مثلما هوالحال اليوم .
كما عرف الجزائريون المذهب الشيعي الفاطمي، وأسسوا الدولة الفاطمية في الجزائر، والتي وحدت بلاد المغرب كلها، لكن بمجرد ما أنتقلت إلى القاهرة ومعهم جيش قبائل كتامة الأمازيغية الذين أسسوا جامع الأزهر ومدينة القاهرة وحاولوا جعل الجزائر مجرد ولاية تابعة لهم حتى ثاروا وأنفصلوا عنها بالرغم من أن مقيمو هذه الدولة في القاهرة هم أمازيغ مثلهم، ويبدو أنها طبيعة الجزائري الحر الذي يرفض التبعية ويصر على الإستقلالية، فظهرت دول جزائرية أخرى ومنها الحمادية والزيانية، بالإضافة إلى دول جمعت هذا التجمع السكاني الطبيعي المسمى ببلاد المغرب أو بلاد الأمازيغ، وهي ظاهرة عرفتها بلادنا المغاربية بين التفكك إلى دول ثم التوحد في دولة واحدة، وهو المفروض أن يكون، أي بمعنى إقامة دولة فيدرالية مغاربية مع الحفاظ على خصوصيات كل قطر من أقطاره .
لكن تميزت الممارسة الدينية المغاربية عامة، والجزائرية خاصة، بخصوصياتها حتى سمي بالإسلام المغاربي، تارة والجزائري خاصة، وهو فيه نوع من الخليط بين الإسلام وبعض الطقوس التي كانت موجودة لدى الأمازيغ قبل الإسلام، وهو ما يدل على وحدة جذور الأمة الجزائرية منذ القدم، وتنتشر هذه الممارسات بقوة في الأرياف عكس المدن التي عادة ما تتأثر بالوافد الخارجي خاصة المشرقي في المجال الديني، لكن يغلب على هؤلاء التبعية الفكرية والثقافية للخارج وضعف إنتمائهم للأمة الجزائرية، فمثلا لو أخذنا الحركات الإسلامية في الجزائر اليوم نجدها في الحقيقة نسخة طبق الأصل لهذه الحركات في المشرق، وبل أكثر من ذلك، فإنها نجدها تكرر دون وعي منها نفس أفكار القومية العربية التي جاءت من المشرق، لكنها تحت غطاء ديني إسلامي، ولم يتوقف عند هذا الحد بل حتى ولاؤها لهذه القوى والبلدان المشرقية أكثر من ولائها للأمة الجزائرية، وأصلا لا تؤمن بهذه الأمة تحت غطاء أمة إسلامية أو عربية .
ولو عدنا إلى دور الدين الإسلامي في مقاومة الإستعمار الفرنسي، فنجد أن هذا الإسلام المغاربي أو الجزائري هو الذي قاد الجهاد ضد المستعمر في القرن التاسع عشر بواسطة الطرق الصوفية، وحتى الإتجاه الإستقلالي كان يغلب عليه هذا الإسلام المغاربي كما هو بارز عند أغلب أبناء الثورة المسلحة، ولم يكن للإسلام الإصلاحي المتأثر بالمشرق دور كبير في هذه النزعة، لكن التاريخ الرسمي الذي درس في المدارس يذهب عكس ذلك بسبب سيطرة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين على المدرسة بعد إسترجاع الجزائر إستقلالها .
لكن علينا أن نسجل أنه كما للدين الإسلامي دوره الإيجابي في عملية البناء الحضاري والمقاومة وتمتين وحدة الأمة، بصفته هو إسمنتها، إلا أن إستغلال الدين لأغراض سلطوية كان له الدور الكارثي في تاريخ أمتنا الجزائرية، وعادة ما كان ذلك سببا في البقاء في الجمود بفعل ضرب إستقرار الأمة بإسم الدين وسقوط الدول واحدة تلو الأخرى بدل إستمرارها لمدة طويلة، وتعطى لها الفرصة لتمتين دولة-الأمة، ولعل هذا ما يدفعنا اليوم إلى توضيح المسألة جيدا حيث يمنع إستغلال الدين الإسلامي لأغراض سلطوية وفي مختلف الخطابات لأن ذلك هو الجدير بجعل الجزائريين يمارسون الإسلام عن قناعة، وليس نفاقا لأنهم سيدركون أنه لا وجود لأية منافع مادية أوسلطوية يمكن أن يجنيها من ذلك، وبالتالي سيعيش دينه الإسلامي دون الإكثار من الضجيج حوله وتوظيفه، كما أنه سيمنع إلحاقنا بالآخرين بإسم الدين.