” من جهل شيئا عاداه” – مقولة.
“ويفعل الجاهل بنفسه ما لا يفعل العدو بعدوه” – شعر مأثور عن المتنبي.
“الشيء الذي لا تعرفه، لا يعني بأنه غير موجود” – شذرة لـ: بلقاسم سعيد مليكش.
كما قد وعدناكم في الأسبوع الماضي – ووعد الحر(الأمازيغي) دين عليه، كما يقال – بأنه منذ هذا الأسبوع، وفي كل أسبوع، نقوم بإذن الله العلي القدير، بنشر مقالة من سلسلة مقالات عن الفلسفة الأمازيغية، تتضمن التأريخ لها والتعريف بفلاسفتها بتقديم “سيراتهم” و/أو سيرهم، وأفكارهم خاصة الفلسفية والمجدة منها، متخللة بمقالات أخر، تتضمن الحديث عن “الأساطير” الأمازيغية وعلاقتها بالأساطير اليونانية/الإغريقية والفلسفة، منها التي عن “ديونيزوس” Dionysos الإله الأمازيغي الذي تمت “ينينته” (من كلمة اليونان) أو “أغرقته” (من كلمة إغريق Grecs)، حيث أن أحد الفلاسفة الكبار المعاصرين، الفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه F. Nietzche ، اعتبر نفسه، في فلسفته وبها، آخر الديونيزوسيينDionysossiens ، مقابل وضد الأبولونيين Apolloniens وفلسفتهم، أتباع الإله اليوناني/الإغريقي “أبولو“Apollo الكثر والمتغلبين عبر التاريخ الفكري والفلسفي.
وانه سوف نختم سلسلة تلك المقالات كلها، بالإجابة عن الإشكاليات المحورية لها، متمثلة في:
- ما مفهوم الفلسفة الأمازيغية وما محتواها؟ وما هي بنية العقل الأمازيغي عبر التاريخ؟ وما علاقته بالفلسفة الأمازيغية وبنا وبعصرنا؟
وأولا قبل أي شيء آخر، يجدر بنا التنبيه إلى أن التراث الأمازيغي في جوهره وطبعه ملك للإنسانية، كما هو ملك لجميع سكان “شمال إفريقيا”(ثامزغا)، الأمازيغ إن بالأرض أو إن باللغة واللسان، كما قال معتوب لوناسMatoub Lounes رحمة الله عليه بما قدم. وإنه ملك لجميع سكان شمال إفريقيا (ثامزغا) سواءا كانوا مستعربين، “مستفرنسيين” أو “مستمزغين”. فكلما تنوع التراث كلما إغتنى وأغنى. ومن واجب كل “شمال-إفريقي”، من أرض ثامزغا، الدفاع عن هذا التراث كجزء من مكونات شخصيته الفخورة بذاتها المتشكلة وأصلها المشكل، كاملين متكاملين.
فلا معرفة وندية للآخر، ولا احترام وعزة، إلا بمعرفة الذات. ولا تتحدد الذات المحترمة بالآخر، وإنما يتحدد الآخر بعد و/أو بـ تحديد الذات احتراما وعزة “هوويين”. فالعلاقة مع الشيء أو الغير، فرع من تصورك له، وتصورك للغير، “موشور” لتصورك لذاتك في علاقتها مع نفسها كغير، ومع الغير بالجملة، كذات “مسقطة” جزئيا([1]).
كما يجدر التنبيه أيضا، إلى الامتناع عن رد التراث الأمازيغي إلى الجانب “اللغوي” فقط، لأن الأمازيغ ساهموا في كل الأنشطة الفكرية والحضارية عبر التاريخ. ومن هنا لزم منا الاهتمام بتاريخ الفكر الأمازيغي، والفلسفي منه بشكل خاص، باعتباره أشمله وأجرده. وحصر الأمازيغية في اللغة، هو أمر خطير جدا، فالأمازيغية بعد تاريخي وجودي وفكر وثقافة، وعادات وتقاليد، وخاصة قيم هرمية في نظام بقيم. فالأمازيغية هي على منوال ما ذكر في القرآن الكريم: “زيتونة لا شرقية ولا غربية….”. مع أننا لا ننفي أن الأمازيغية قد تأثرت كثيرا بالإسلام (لأسباب متعلقة بـ “التوحيد” Unicité de Dieu الأمازيغي المسيحي ما قبل الإسلامي) كما أثرت فيه في الكثير من الممارسات الدينية الإسلامية المغاربية المختلفة عن الممارسات الإسلامية لشعوب أخر منحت هي أيضا خصوصياتها لممارساتها الدينية.
وذلك الإهتمام الفكري العملي، خاصة الآن، هو الفصل “النوعي” النضالي الذي نقص وينقص الأمازيغ لإثبات وجودهم، و”أنطولوجيتهم”، وتكملة حركتهم تاريخيا، ومعاصرة، كدور لهم ينتظرهم، آتى زمانه على مسرح العالم.
وهذه السلسلة من المقالات مساهمة في إجلاء و رفع التغييب المقصود والمفتعل الذي لحق تاريخ شمال-إفريقيا (ثامزغا) وفكره بشكل خاص، وإفريقيا (“ثافريقث/ثافركا”) بشكل عام.
هذه السلسلة من المقالات، إحياء ورفع فعلي وعملي تأسيسي، في المجال الفكري النظري أولا، لشعار “الأقليذ” (الملك) الأمازيغي “ماس-انسن” / ماسينيسا (أي بمعنى: سيدهم): “ثافريقث انـ يافريقن (“إفريقيا الإفريقيين” أو “إفريقيا للإقريقيين”)، بحيث أن كلمة إفريقيا هي من “ثافركا” بالأمازيغية، والتي تعني “الأرض” و”الملكية”. وبالتالي يكون الشعار: “أرض أصحاب الأرض/ الأرض للأصحاب الأرض” أو “ملكية المالكين/ الملكية للمالكين”.
وإن ذلك التغييب المتواصل راجع إلى “الإستدمارات” و”الإستخرابات” –لا “الإستعمارات”- المتوالية والمتواصلة، بنتائجها المترتبة عن الجوهر والطبيعة الواحدة للإستدمار والإستخراب عبر التاريخ. فاغلب مؤرخي الأفكار العرب مثلا – ككل من سبقهم من الرومان إلى من لحقهم من “إروميان” الفرنسيين– لم يكن، في نظرهم، عند الأمازيغ قبل مجيء الإسلام، أي شكل من أشكال التراث الفكري النظري. وهي إستراتيجية قبلية أموية “عربوية” قريشية تهدف إلى تغييب ومحو هوية السكان الأصليين – بالطبع ليس الأمازيغ فقط (الأكراد مثلا)- والتحقير لهم في قدراتهم الفكرية والعقلية للإعلاء من شأن العرب الوافدين باسم الإسلام. ويحضرنا هنا القول “المعمم“: “أعزنا الله بالإسلام”، بصيغة أخرى:“لم تكونوا شيئا لولا الإسلام” التي يجيب بها “تترسا“(الاختباء والاحتماء وراء)، في وقتنا هذا، بعض “المتأسلمين” البعثيين، عند مطالبة الأمازيغ بهويتهم وثقافتهم، كما يتم تعميم “جاهلية” العرب، وبمفهوم للجاهلية خاطئ مغلوط، على جميع الأمم قبل الإسلام، من طرف الإسلاميين([2]) إيديولوجيي التفكير غير الموضوعي العاطفي الملغي للآخر.
وفي ذلك، وفي هذا المقام، وجب لفت النظر إلى أن السؤال: “لماذا دخل الأمازيغ في الإسلام بسرعة؟”، جوابه يبين زور المؤرخين الإسلاميين وإيديولجيتهم العربية “التحت-إسلامية” كغيرهم ممن يبقهم قبل ولحقهم بعد. وهو ما سنوضحه في حينه ضمن هذه السلسلة في مقالة عن الفكر الفلسفي لكل من دوناتوسDonatus الأكبر (الأب دونا الأكبرDonat le grand ) و أريوس، الأمازيغيين، و حركة الفلاحين الدوارينDoriens والدوناتيةDonatisme والأريوسيةArianisme (الأريسية حسب رسالة الرسول محمد –ص- إلى“عظيم الروم” التي ورد فيها: “… فعليك إثم الأريسيين”) والعلاقة بالوندالVandales في شمال افريقيا.
وإن للأمازيغ أعمال قديمة وعريقة غارقة في التجريد في ميادين مثل الرياضيات، المنطق الصوري والفلسفة. وقد عبروا عن أفكارهم كتابة، وفكرهم ليس شفويا فقط، بالرغم من ميزة الشفوية على الكتابة حسب فلسفة جاك دريداJacques Derrida الناشىء بالجزائر العاصمة والمتأثر في فلسفته بالثقافة الشعبية الشفوية الجزائرية مثله مثل كاتب ياسينKateb Yacine الأمازيغي الجزائري في روايته الشهيرة “نجمة” خاصة في أسلوبها السردي الحكائي وأيضا النحوي. بل إن الأمازيغ كتبوا بلغات غير لغتهم الأم، فمنهم من كتب باليونانية ومنهم من كتب باللاتينية، كما منهم من كتب ويكتب بالعربية والفرنسية وغيرها، مثالنا في هذا المقام كحالة بالعربية. وقد تأتى عن ذلك “تجريد” الأمازيغ من أعمالهم وإسنادها إلى الشعوب التي كتبوا بلغاتها. فـ “القديس” اوغسطينوس Augustinus (أغسطين)، مثلا، يعتبر لاتينيا، وأبوليوس المداوري Apolius، من مداورش بعنابة بالجزائر الحالية، الفيلسوف والمنطقي والأديب، صاحب أول رواية في التاريخ بعنوان “الحمار الذهبي” أو “التحولات” (Matamorphoses)، يعتبر أيضا لاتينيا، ومحمد أركون يراد به أن يكون فرنسيا، مثلما يراد بـ مالك ابن نبي أن يكون عربيا رغم كتابته بالفرنسية وإعلان انتمائه كمسلم عالمي وكفى.
وإن كثيرا من الأفكار التي كانت في الأصل من وحي وصنعة الأمازيغ تم انتحالها وسرقتها ونسبها إلى شعوب وثقافات غير أمازيغية. والعجيب بعد ذلك أن الأمازيغ، والمعاصرين منهم بمعربيهم خاصة، أصبحوا يعتبرون تلك الأفكار الإنسانية دخيلة على ثقافتهم، لجهل بالتاريخ، والمؤدي إلى التبعية واحتقار الذات وتصغيرها أمام الآخر.
إن الأمازيغ، مثلا، منذ فجر التاريخ، قد اختلطوا باليونان بالزيجات وتبادل المعتقدات والعادات والتقاليد واللغة والثقافة. وقد ألف الأمازيغ باللغة اليونانية ولمعوا فيها وبها، بل مارسوا تدريس الفلسفة بأثينا، كما أسسوا لأنفسهم مدارس فلسفية في شمال إفريقيا (ثامزغا) على غرار المدارس الفلسفية اليونانية.
وإن مدرسة “قورينا“Ecole de Cyréne خير مثال على ذلك. بحيث أن المدرسة القورينائية أو القورينيةCyrénéenne ، ماهي إلا مدرسة فلسفية شمال-إفريقية من أرض ثمازغا. فـ قوريناCyréne ([3]) مستوطنة “يونانو-أمازيغية” في شمال إفريقيا في شمال ليبياLybie الحالية، وعاصمة سياسية وثقافية للمستوطنين اليونان في شمال افريقيا (ثمازغا) القديم، وعاصمة فلسفية للمدرسة الفلسفية القورينائية التي أسسها “أريستيبوس القوريني” Aristibus في القرن الرابع قبل الميلاد (400-300 ق.م). ومن بين ممثلي المدرسة أنيكيريسAnniceris ، هيجيسياسHegessias وأريتيAreté ، الذين طوروا فلسفة أخلاقية أساسها اللذة التي عادلوا بينها وبين السعادة والفضيلة. وقد ساهم في تأسيس وتطوير هذه المدرسة الفلسفية، أيضا، كل من كاليماخوسCallimaque ، كارنياديسCarnéade ، وإراطوستينيسErathostène ، وثيودورTheodore .
وكان حضور اليونان أيضا كثيفا في مدن شمال-إفريقية (ثمازغا) أخرى خاصة مدينة قايصاريا على عهد الملك العالم الفيلسوف يوبا الثاني Juba II. وقد استقر اليونان في شمال إفريقيا (ثامزغا) القديم منذ 631 ق.م، وكونوا لهم مستوطنة بمنطقة قورينايكاCyrénaïque بـ ليبيا الحالية. وأسسوا بها مدنا مهمة مثل قوريناCyréne وبارقاBarca وأوهيسبيريدسEuhespérides (بن غازي الحالية) وغيرها. وقد خاض هؤلاء “اليونانو-أمازيغيون” صراعات عديدة ومتعددة مع السلطة المركزية بأثينا من جهة ومع المجاورين المصريين والقرطاجنيين البونيقيين والسكان المحليين من جهة أخرى، من أجل التوسع خاصة. وأصبحت قورينا دولة مستقلة إبتداءا من 258 ق.م، ثم سيطر عليها الرومان في 96 ق.م، ليستولي عليها العرب في 642 م.
وكما امتزجت السكان الأصليون الأمازيغ بشعوب مختلفة، امتزجت أيضا اللغة الأمازيغية بلغات تلك الشعوب. وهكذا نجد، مثلا، سكان شمال افريقيا (ثمازغا) القديم قد تحدثوا بالإضافة إلى “لغتهم الأصل”، اللغة البونيقية واللغة اليونانية واللغة اللاتينية، كما تحدث القروسطيون من الأمازيغ اللغة العربية، وتحدث المحدثون منهم والمعاصرون الإسبانية والفرنسية والإيطالية والإنجليزية، إلى جانب “لغتهم الأم”. وفي العصر القديم كانت اللغة الأمازيغية الليبية والبونيقية لغتي الشعب والطبقات المتوسطة، بينما كانت باقي اللغات مثل اليونانية واللاتينية تعلم في المدارس([4]).
فالأمازيغ وثمازغا كانوا ولا زالوا ملتقى الثقافات والحضارات منذ القدم، بحيث يقول اندريه جوليان Charles André Julien:
“إن الأمازيغي، رغم كونه استقبل حضارات كثيرة مختلفة، قد احتفظ بهويته الأصلية. إن الحضارات المتتالية القادمة من خارج شمال إفريقيا كانت بالنسبة للأمازيغي عبارة عن ألبسة يضيف بعضها إلى بعض، ويبقى جسده داخلها هو هو لا يتغير”([5]).
ذلك أن من خصائص الشخصية الأمازيغية ميلها إلى التمسك دائما بما هو “أصيل وفعال”.
__________________________
[1]– بلقاسم سعيد مليكش، شذرة: “هووية” الذات.
[2]– هناك سلسة أخرى من المقالات سوف نكتبها، إن شاء الله، بعنوان: “الإسلاميون والإسلام والأمازيغية: تفكيك الخطاب والواقع”، بالإضافة إلى سلسلة أخرى بعنوان: “الإسلاميون والماركسية والإسلام: الحقيقة والاغتراب”.
[3]– منه جاءت كلمة Cyrène de mer لوصف حوريات البحر. وقد لمح إليه محمد فلاقMohammed Fellag الأمازيغي في “منولوجاته” لوصف جمال الأمازيغيات.
[4] – Monceaux, les Africains : Etudes sur la littérature Latine d’Afrique (les païens), Lecène, Oudin et Cie, Editeurs, Paris, 1894, p.37.
[5] – Charles André Julien, Histoire de l’Afrique du Nord, Payot, Paris, 1951, Chap. 3.