من المعروف في الوثائق التاريخية القديمة والحديثة والمعاصرة أن الثقافة الأمازيغية قد انتشرت أيما انتشار بين ضفاف حوض البحر الأبيض المتوسط ووراء الصحراء الكبرى ، وذلك بعد أن استفادت هذه الثقافة من ثمار مجموعة من الحضارات المجاورة كالحضارة الفينيقية، والحضارة المصرية،والحضارة اليونانية، والحضارة القرطاجنية، والحضارة الرومانية. وبعد ذلك، استفادت هذه الثقافة الأمازيغية من نتائج الحضارة العربية الإسلامية تشكيلا وروحا وجوهرا وعقيدة ودينا. بل يمكن القول : إن الكثير من المثقفين والأعلام الأمازيغيين قد تم إلحاقهم عن حسن أو سوء نية بثقافات متوسطية نسبا وتجنيسا ولغة ومركزا . فالثقافة الرومانية أو اللاتينية مثلا قد رومنت الكثير من المبدعين والمفكرين والمثقفين الأمازيغ اعتزازا بهم ، وإشادة بأعمالهم كما هو الحال مع أغسطينيوس النوميدي وترنيوس الأفريقي … وهناك الكثير من المثقفين الأمازيغ قد تم إدماجهم في الحضارةالقرطاجنية أو الحضرة المصرية أو الحضارة اليونانية حتى اختلطت الأسماء والأمور على الباحثينوالدارسين في تاريخ شمال أفريقيا.
وعلى الرغم من ذلك، فقد ساعدت هذه الثقافات المتوسطية المجاورة الثقافة الأمازيغية المحلية على الانفتاح والازدهار والانتعاش والتقدم في جميع المجالات والميادين، بل حققت الثقافة الأمازيغية في فترة من الفترات نوعا من التعايش بين الأنا والآخر ، وذلك أثناء التعايش مع الثقافة الفينيقية، والثقافة المصرية، والثقافة اليونانية،والثقافة القرطاجنية، والثقافة العربية الإسلامية . ولكن هذه الثقافة الأمازيغية المحلية ستدخل في فترات أخرى في مرحلة الصراع الجدلي المرير ، وذلك مع ثقافات مضادة أخرى كالثقافة الرومانية ، والثقافة البيزنطية ، والثقافة الوندالية، والثقافة الغربية الحديثة والمعاصرة؛ لأن هذه الثقافات كانت مبنية في جوهرها على النهب والإقصاء والعدوان والقهر والتغريب والاستعمار والاستغلال والاسترقاق والازدراء.
إذاً، ماهي تجليات البعد المتوسطي في الثقافة الأمازيغية القديمة؟ وماهي خصائص هذه العلاقة التي كانت تستند إليها الثقافة الأمازيغية في تعاملها مع الثقافات الأخرى؟ هذا ما سنوضحه في هذه الورقة المتواضعة .
الثقافة الأمازيغية ثقافة متوسطية
استوطن الأمازيغيون شمال أفريقيا، أو ما كان يسمى بمنطقة تامازغا المحاذية لحوض البحر الأبيض المتوسط شمالا وشرقا والمجاورة للصحراء الكبرى جنوبا. وكانت تامازغا تمتد من موريتانيا والمحيط الأطلسي غربا إلى حدود مصر وشمال السودان شرقا، ومن شريط البحر الأبيض المتوسط شمالا إلى النيجر ومالي وبوركينافاسو جنوبا.
وبعد مرحلة الانعزال والانطواء والانكماش في شمال أفريقيا، انتعشت الثقافة الأمازيغية المحلية أيما انتعاش ؛ وذلك بفضل مثاقفتها واحتكاكها مع مجموعة من الشعوب التي استقرت بضفاف حوض البحر الأبيض المتوسط، فتعرف المثقفون الأمازيغ العديد من الحضارات الزاهية كالحضارات الأفريقية الجنوبية، والحضارة الفينيقية ، والحضارة القرطاجنية، والحضارة الفرعونية، والحضارة اليونانية، والحضارة اللاتينية، والحضارة العربية الإسلامية. ومن ثم، كتب المثقفون الأمازيغ بعدة لغات كانت معروفة في تلك الفترة، فكتبوا بالإغريقية واللاتينية والبونيقية والعربية، ولم ينسوا أن يكتبوا بخط تيفيناغ كما تدل على ذلك مجموعة من الآثار الموجودة بصحراء الطوارق بالجزائر ومالي على سبيل التمثيل. بيد أن ما وصلنا من كتابات وشذرات المثقفين الأمازيغ كانت باليونانية واللاتينية والبونيقية واللغة العربية. وفي هذا الصدد يقول محمد شفيق في كتابه :” لمحة عن ثلاثة وثلاثين قرنا من تاريخ الأمازيغيين“:” نتج عن مفعول المثاقفة المفروضة من قبل روما على أفريقية الشمالية أن نبغ في الكتابة باللاتينية أجيال متتابعة من الأمازيغيين، فأسهموا إسهاما مهما في إغناء الفكر والأدبالرومانيين”[1].
هذا، ومن أهم مظاهر الازدهار الحضاري والثقافي في منطقة تامازغا في المرحلة اللاتينية هو تشييد الكثير من المسارح والملاعب الرياضية (رياضة المصارعة على سبيل المثال) ، وبناء المكتبات الثقافية الخاصة (مكتبات الملوك والنبلاء كمكتبة يوبا الثاني مثلا)، وإرساء المكتبات العامة كما يقول أندري حوليان:” لقد عثر لأول مرة في تيمقاد على آثار إحدى تلك المكتبات العمومية التي كثيرا ما ورد ذكرها في النقوش والنصوص اللاتينية ، ويرجع الفضل في تأسيسها إلى كرم مواطن ثري. وكانت هذه المكتبة عبارة عن قاعة في شكل نصف دائرة تواجه الداخل إليها مشكاة كبيرة وضع فيها ولاشك تمثال الآلهة مينرفا. وكانت الخزائن الكثيرة المشدودة إلى جدرانها وقاعات المستودعات الإضافية الثلاثة مشحونة بالمخطوطات بحيث كان في الإمكان بهذه الطريقة وضع 2300 مجلد في مكان ضيق نسبيا.”[2]
ومن المعروف أن لغة التثاقف التي استعملها المفكرون والمبدعون الأمازيغ بالمدن والمناطق الحضرية في تلك المرحلة التاريخية هي اللغة اللاتينية واللغة اليونانية واللغة البونيقية. أما الذين كانوا يسكنون البوادي ، فقد كانوا يستعملون لغتهم الأمازيغية المحلية، ويجهلون لغات الشعوب الأخرى. زد على ذلك، فكبار المثقفين والمبدعين ، ولاسيما المتعلمين الأغنياء والأرستقراطيين، قد تعلموا في المراكز والعواصم الحضارية الكبرى للشعوب المجاورة كروما وأثينا وقرطاج … وفي هذا الصدد يقول شارل أندري حوليان في كتابه:” تاريخ أفريقيا الشمالية“:” لم تعرف روما الحقد العنصري ولا التعصب الديني، ولكنها لم ترض لأسباب سياسية بأن تعوض اللغة اللاتينية لغة أخرى. قال القديس أغسطينيوس:” إن الدولة الرومانية التي تعرف كيف تحكم الشعوب لم تفرض على المغلوبة منها سيطرتها السياسية فحسب، بل لغتها أيضا”.
وقد اضطرت الحياة الحضرية عددا كبيرا من البربر إلى تعلم اللغة اللاتينية المفروضة في المحاكم والمجالس البلدية والكتائب، وبقي الكثير منهم يتخاطبون فيما بينهم باللغة الليبية ولمدة معينة اللغة البونيقية، ولكنهم كانوا يستعملون اللاتينية في علاقاتهم الرسمية أو لقضاء حاجاتهم. أما في الأرياف فليس من شك في أن القوم ظلوا دهرا طويلا يجهلون لغة المغيرين.”[3]
ويلاحظ بكل موضوعية أن منطقة تامازغا بكل تجلياتها الثقافية والحضارية والعمرانية والاقتصادية أقرب إلى البحر الأبيض المتوسط منها إلى أفريقيا التي لا تفصلها عنها سوى الصحراء الكبرى. ويقول في هذا النطاق شارل أندري حوليان:” إن بلاد البربر جزء من الأبيض المتوسط الغربي، أكثر مما هي جزء من أفريقيا. فقد كانت لهما العلاقات الأكثر عددا والأكثر غنى مع إيطاليا وإسبانيا… حتى إن من بين القدماء من يجعلها في أوروبا. ويقول لوكان Lucain:” إذا أردت أن تصدق القول المشهور، فإن القسم الثالث من العالم هو ليبيا. ولكن إذا اعتبرت الرياح والسماء فستنظر إليها كجزء من أوروبا”[4].
ويتبين لنا من كل هذا أن الثقافة الأمازيغية قديما وحديثا كانت ثقافة متوسطية المصادر والملامح والأبعاد، وكانت تحمل في طياتها بكل وضوح جدلية التأثير والتأثر.
تجليات البعد المتوسطي في الثقافة الأمازيغية
يتمظهر البعد المتوسطي في الثقافة الأمازيغية القديمة بكل وضوح وجلاء في مجموعة من الإسهامات الفكرية والأدبية والفنية والعلمية والدينية التي قام بها أبناء منطقة تامازغا، وذلك من خلال الانفتاح على ثقافات وحضارات ولغات وعادات وتقاليد وأعراف ومنجزات شعوب حوض البحر الأبيض المتوسط عبر جدلية التأثير والتأثر…
1- الثقافة الأدبية:
من يتصفح ما كتبه المبدعون الأمازيغيون في المرحلة اللاتينية، فسيندهش بلا ريب لما تركه هؤلاء المثقفون الجهابذة والعلماء الفحول من بصمات ثقافية جلية في مجال الشعر والخطابة والبلاغة والسرديات. وكان لذلك تأثير كبير واضح على جل المثقفين والمبدعين في دول حوض البحر الأبيض المتوسط، وخاصة في روما، باعتبارها العاصمة الإدارية والثقافية للإمبراطورية الرومانية. وهذا ما جعل الثقافة الأمازيغية القديمة تتبوأ مكانة متميزة إلى جانب الثقافات المتوسطية الأخرى، بل يمكن القول بدون مبالغة بأنها كانت أيضا ثقافة ذات بعد عالمي وإنساني في تلك الفترة، مادامت تتوسل بمجموعة من القنوات التعبيرية كاللغة اليونانية واللغة البونيقية واللغة اللاتينية .
ومن أهم الشعراء الذين كان لهم باع كبير في مجال الشعر، لابد من ذكر: منيليوس الذي اشتهر بقصائده الشعرية في تناول مواضيع ميتافيزيقية تتعلق بالغيب ومعرفة الطالع، وكانت منظوماته الشعرية تجمع بين الأسلوب الخطابي والتدفق الحماسي . وهناك أيضا الشاعر فلوروس الذي كاد أن يجن عندما لم يحرز على جائزة الشعر في مهرجانات الكابيتول.[5] ولا ننس أيضا المثقف الأمازيغي الكبير أفولاي أو أبوليوس النوميدي الذي كان شاعرا متنوع الأغراض والمقاصد كما يتضح ذلك في ديوانه الشعري:” الأزاهير“. ويعترف أفولاي بموهبته الشعرية بقوله:” اعترف بأني أوثر من بين الآلات شق القصب البسيط؛ أنظم به القصائد في جميع الأغراض الملائمة لروح الملحمة أو فيض الوجدان؛ لمرح الملهاة، أو جلال المأساة. وكذلك لا أقصر؛ لا في الهجاء، ولا في الأحاجي؛ ولا أعجز عن مختلف الروايات، والخطب يثني عليها البلغاء؛ والحوارات يتذوقها الفلاسفة؛ ثم ماذا بعد هذا كله؟ إني أنشئ في كل شيء؛ سواء باليونانية أم باللاتينية؛ بنفس الأمل، ونفس الحماس، ونفس الأسلوب”.[6]
و إذا انتقلنا إلى مجال السرديات، فلابد من ذكر أفولاي أو أبوليوس Apuleius النوميدي مرة أخرى، والذي تأثر كثيرا بالثقافتين: اليونانية والرومانية، فكتب أول رواية في تاريخ الفكر الإنساني، وهي رواية:”الحمار الذهبي” في أحد عشر جزءا. وتتخذ هذه الرواية طابعا اجتماعيا فانطاستيكيا قائما على السخرية والنقد والامتساخ والتحول، والتعريض بممارسة السحر كما يدل على ذلك كتابه المشهور :” في السحر“.
ولا يعني هذا أن رواية ” الحمار الذهبي” لأبوليوس باعتبارها أول نص سردي ظهر في تاريخ الفكر الإنساني، لم يوجد مثله في الفكر اليوناني. بل إن أبوليوس يشير داخل متنه الروائي إلى مجموعة من النصوص السردية الروائية والقصصية والمستنسخات الحكائية الإغريقية التي تأثر بها تناصا واستلهاما وامتصاصا واستفادة. بيد أن تلك النصوص السردية اليونانية ضاعت، ولم يصلنا أي شيء منها مع الأسف. لذا، يبقى نص أبوليوس في مجال السرديات بمثابة أول رواية كان لها إشعاع كبير في الثقافتين: المتوسطية والعالمية . مع العلم أن هذه الرواية قد طرحت جدالا ثقافيا فكريا على مستوى لغة كتابتها: فهل كتبت الرواية باللغة اليونانية أو باللغة اللاتينية أو باللغة البونيقية أو كتبت باللغة الأمازيغية المحلية؟!!![7]
ونستحضر في هذا المجال أيضا يوبا الثاني الذي أورد في موسوعته “ليبيكا” قصة أو حكاية أمازيغية مشهورة تسمى بقصة ” الأسد الحقود“. ويرى محمد شفيق في هذا السياق أن تلك القصة الأمازيغية ما تزال الجدات في البوادي المغربية إلى يومنا هذا يقصصنها على أحفادهن باللغة الأمازيغية في ليالي السمر من فصل الشتاء [8].
ويعني هذا أن المبدعين الأمازيغ كانوا سباقين في مجال السرديات بصفة عامة بما فيها : القصة والحكاية والخرافة والأحجية والأسطورة والرواية.
هذا، ويشتهر القديس أغسطينيوس في مجال السيرة الذاتية بكتابه:”اعترافات التوبة“، والذي أصبح في تاريخ الثقافة الإنسانية أول كتاب في الأوطوبيوغرافيا، وقد أثر تأثيرا واضحا على “ اعترافات ” جان جاك روسو. ويقول شارل أندري حوليان في هذا الصدد:” ومما يؤسف له أنه لم يبق لنا من مئات عديدة من خطب القديس أغسطينيوس إلا مائتان وست وسبعون (276) رسالة لها أهمية كبيرة بالنسبة للتاريخ الديني ولفهم نفسية صاحبها. غير أننا نجد القديس أغسطينيوس بكليته في كتابه” اعترافات” النابض صدقا وشعورا ، الطافح وجدانا وإن لم يخل في بعض الأحيان من أسلوب خطابي . وقد كتب هذا الكتاب في السنوات الأخيرة من القرن الرابع، ولاشك أن يكون كتب في أواخر سنة 397 أو أوائل سنة 398. وليس هو أول تأليف يترجم الكاتب فيه عن نفسه سواء في الأدب الروماني المطبوع بطابع الدين أو بطابع الدنيا، لكنه لم يسبق أن كتب كاتب صحائف في مثل تلك العاطفة المتأججة، وبذاك الأسلوب الخالي من كل تصنع. فجان جاك روسو وحده هو الذي مضى إلى أبعد من ذلك في الاعتراف بخطاياه. وإن كان روسو قد أراد الكشف إلى إخوانه البشر عن رجل في أجلى مجالي الطبيعة، فإن القديس طمح إلى أسمى من ذلك، فلقد اعترف بمساويه في خضوع متناه ليبين أن الإنسان إذا هو اعتمد على قواه الذاتية وحدها وقع في الخطيئة لا محالة ، فكان تأليفه تمجيدا للذات الإلهية يسوده حق من التوتر لا يرحم تتحطم معه الأعصاب. غير أن نجاح هذا التأليف لم يبله الدهر منذ خمسة عشر قرنا.”[9]
وهكذا، نستنتج بأن أغسطينيوس أول من كتب السيرة الذاتية في الثقافة الإنسانية، وقد اعترف الغرب بذلك أيما اعتراف، وذلك بكتابه:” اعترافات التوبة”، وقد ساهم بهذا الكتاب في انتشار جنس السيرة الذاتية، و انتعاش الأطوبيوغرافيا بين مثقفي ومبدعي دول حوض البحر الأبيض المتوسط، بل أصبح كتاب:” الاعترافات” مرجعا يحتذى في كتابة السيرة الذاتية والسيرة الغيرية في الآداب الإنسانية بصفة عامة.
أما إذا تحدثنا عن أهم الخطباء الأمازيغ الذين عرفوا بقوة الفصاحة ، وسلاسة الكلمة، ونصاعة البيان، وروعة البلاغة، فلابد من استدعاء مجموعة من الأسماء والشخصيات الفذة ، مثل: كرنيتوس، وأفولاي، وسبيتيموس سواريوس، وفلوروس، وفرونتيوس، وأغسطينيوس…
2- الثقافة الفنية
ساهم الأمازيغ سواء أكانوا مثقفين أم ملوكا في خدمة الفنون الجميلة، فأسسوا البنيات التحتية لذلك، حيث وجدنا مجموعة من المسارح التي بناها الرومان في منطقة تامازغا، كمسرح قرطاج بتونس، ومسرح صبرانة بليبيا، ومسرح تيمكاد ودقة وتيبازة بالجزائر، ومسرح ليكسوس بالعرائش. بل أكثر من ذلك فقد أعطى يوبا الثاني اهتماما كبيرا للفنون الجميلة. وفي هذا الصدد يقول شارل أندري حوليان في كتابه” تاريخ أفريقيا الشمالية”:” كان عدد المسارح في أفريقية يفوق عدد الملاعب ، وكان مسرحا تيمقاد ودقة منحوتين في ربوة كما هو الشأن في اليونان، أما مسرح تيبازة فقد كان بالعكس مبنيا ، ومن الممكن أن يتبين المرء إلى اليوم في مسرح تيمقاد الثقب المستطيلة الشكل التي كانت تمكن من تحريك الستار. وكان مسرح دقة المشيد في عهد مرقس أوريليوس يحتوي على 21 مدرجا تنقسم إلى ثلاثة أقسام بواسطة درابزين. وتوجد في مؤخر الركح خمس درجات كبرى توضع فوقها مقاعد متنقلة. ويتركب الجانب الأمامي من الركح من مشاك عديدة لا تزال ماثلة إلى اليوم. وكان طول الركح 75.36م وعرضه 50.5م مفروشا بفسيفساء، تحملها ترابة معتمدة على أقبية. وكانت توجد ثلاثة أبواب في الجدار الخلفي من الركح كما يوجد بابان على جانبي الركح يمكن منهما التوصل مباشرة إلى مجموعة من الأعمدة قائمة أمام المسرح”.[10]
وكان الشباب والطلبة الأمازيغ من الطبقة الثرية والأرستقراطية في المرحلة اللاتينية يقضون معظم وقتهم في المسارح، كما هو الحال في مدينة قرطاج المعروفة بمسارحها وملاعبها ومدارسها العديدة:” وكان الطلبة – يقول شارل أندري حوليان- ينحدرون بصفة عامة من الطبقة الأرستقراطية القاطنة في البلديات. وكان بعض الأغنياء يشمل أحيانا برعايته أحد الشبان البربر النجباء، فيمكنه من تنمية ملكاته في قرطاج. ولم يكن هؤلاء الشبان جميعهم، مثلا يحتذى في المواظبة والفضيلة. فكانوا يرتادون المسارح والملاهي، وينغمسون فيما سماه القديس أغسطينيوس متندما مرجل الأهواء التي يندى لها الجبين.”[11]
كما أنشأ يوبا الثاني عدة مؤسسات فنية وثقافية كالمكتبات ومعاهد الموسيقى والتمثيل والرسم والنحت بكل من شرشال ووليلي، وكان يتقن اللغات اليونانية والبونيقية واللاتينية. وهذا كله هو الذي دفع الشيخ پلين Pline L’Ancien ليقول في حقه :” كانت شهرة يوبا بخدماته العلمية تفوق شهرته بملكه” [12]. ولم يكن يوبا الثاني :” هو الوحيد المهتم بالفنون الجميلة ببلاد المغرب آنئذ؛ فثمة آخرون كانت لهم الاهتمامات نفسها؛ لأن التأثير الإغريقي والفينيقي والروماني لابد أن يولد اهتماما معينا بين السكان؛ وإذا لم يهتم بذلك السكان كلهم ، فقد يهتم بعضهم…”[13]
هذا، وقد اهتم يوبا الثاني بالنحت والموسيقى كما في موسوعته الموسيقية الضخمة، وأولى أهمية كبرى للرسم كما في كتابه” فن الرسم” أو ” عن الرسامين”، ولم ينس رعايته لفن المسرح كما في كتابه” تاريخ المسرح“. بل أكثر من هذا، فقد عني أيما عناية بالكوريغرافيا المسرحية ، وذلك من خلال الجمع بين الرقص والموسيقى والتمثيل ، والدليل على ذلك أن فقرات كتاب:” تاريخ المسرح” تشير إلى ” آلات موسيقية وقع اختراعها في بلدان مختلفة، وبرقصات إغريقية وأجنبية، وبالطريقة التي يحسن أن توزع بها الأدوار على الممثلين.”[14]
ولم تظل مكانة يوبا الثاني الثقافية والعلمية حبيسة تامازغا فقط، بل انتشر صيتها متوسطيا، ولاسيما في بلاد اليونان والرومان. وهذا ما يؤكده اصطيفان اكصيل Stéphane Gsell بقوله:” وفعلا، فإن أدبه وعلمه جعلاه على الخصوص أهلا لمدح أهل عصره والأجيال التي جاءت بعده. ولما قرر أهل أثينا، وهم قوم لا يشق غبارهم في المجاملات، أن يكرموا هذا العاهل الذي يسود منطقة واسعة أقاموا تمثاله بالقرب من إحدى خزانات الكتب، ويرى فيه بلوتراك:” أفضل المؤرخين الذين وجدوا من الملوك”، ولكن يلاحظ بواسيي Boissier إن كلمة بلوتارك هذه ليس فيها مدح كبير ليوبا. ثم يضيف بلوتراك قائلا:” وهو يعد من أعلم المؤرخين الإغريقيين” . وهذا مديح لا يشوبه خبث. ويثني الغير على علمه المتنوع وحياته التي كرست بأجمعها لدراسة الآداب”.[15]
ومن أهم المبدعين المتميزين في مجال الفن المسرحي ، والذين ينتمون إلى الثقافة الأمازيغية ، نستدعي كلا من: أفولاي وتيرينتيوس آفر. فقد كان أفولاي مثلا مولعا بكتابة المسرحيات التراجيدية والمسرحيات الكوميدية، معتمدا في ذلك على اللغتين : اليونانية والرومانية. وفي هذا السياق يقول أفولاي:” اعترف بأني أوثر من بين الآلات شق القصب البسيط؛ أنظم به القصائد في جميع الأغراض الملائمة لروح الملحمة أو فيض الوجدان؛ لمرح الملهاة، أو جلال المأساة. وكذلك لا أقصر؛ لا في الهجاء، ولا في الأحاجي؛ ولا أعجز عن مختلف الروايات، والخطب يثني عليها البلغاء؛ والحوارات يتذوقها الفلاسفة؛ ثم ماذا بعد هذا كله؟ إني أنشئ في كل شيء؛ سواء باليونانية أم باللاتينية؛ بنفس الأمل، ونفس الحماس، ونفس الأسلوب”.[16]
هذا، ويعد تيرنشي آفر أو تيرينتيوس آفر Terentius Afer من كبار المثقفين الأمازيغ في مجال المسرح، وهو من أصل أفريقي ليبي كما تدل على ذلك كلمة (آفر المشتقة من أفريقيا) . وقد سباه الرومان في معاركهم المظفرة على القرطاجنيين، فحملوه معهم إلى روما ، ثم تسمى باسم سيده تيرينتيوس الذي تكلف برعايته منذ طفولته ، ثم رباه تربية أرستقراطية نبيلة إلى أن صار شابا بالغا، فعلما ثقافيا بارزا في ميدان المسرح والدراما. وقد اغترف تيرينتيوس من الثقافتين: اليونانيةوالرومانية على غرار الكثير من مثقفي زمانه. وبالتالي، فقد كتب ست مسرحيات مشهورة في الأدب الروماني أو اللاتيني. لذا، أدمجه مؤرخو الأدب الغربي ضمن الأدب اللاتيني. وكان ترنتيوس يكتب كل سنة مسرحية واحدة أو ما يمكن تسميته شخصيا بالمسرحيات الحولية، وذلك من سنة 166 إلى سنة 160 ق.م . ومن أهم مسرحياته الست: الأخوان، ومعذب نفسه، والخصي، وفتاة أندروس، والحماة، وفورميو.[17]
زد على ذلك، فقد:” طارت له شهرة كبيرة دفعة واحدة، ونال الجوائز؛ فحسده الحساد، واتهموه بالسرقة الأدبية، فدافع عن نفسه بما كان له من قوة. فأنصفه التاريخ من بعد، ورد إليه نقاد العصور المتعاقبة اعتباره كاملا، وبينوا أن تأثيره في الأدب المسرحي بقي ظاهرا إلى حدود القرن السابع عشر.”[18]
وقد مات تيرينتيوس ببلاد اليونان من شدة حزنه وكمده، وإفراطه في حب الأدب، وهو مازال في ريعان شبابه ، وذلك في الثلاثين من عمره ، بعد أن ضاعت مخطوطاته العديدة والمتنوعة في البحر.
3- الثقافة اللاهوتية
عرف الأمازيغ بتدينهم الشديد اللافت للانتباه، وتمسكهم الرصين بعقائدهم التي نشأوا عليها فطرة أو اكتسابا. وفي هذا يقول اصطيفان اكصيل :” إن البربر في غالبيتهم متدينون، ويشعرون أن لهم رسالة. وهم يدافعون عن معتقدهم بحمية، تشهد بها على الخصوص تلك السلسلة الطويلة من الفتن والحروب التي جرت في القرون الأخيرة من أعصر التاريخ القديم، وكذلك في القرون التي تلت الفتح العربي.”[19] .
ومن هنا، فقد عبد الأمازيغ في البداية الحيوانات والأوثان والأصنام والملوك ، وقدسوا مظاهر الطبيعة من شمس وقمر وأرض ومطر…، وتأثروا بدياناتالقرطاجنيين والفينيقيين والفراعنة واليونان والرومان ، فعبدوا آلهتهم كتانيت ، وبعل، وأمون، وبوسيدون، ومارس، وهرمس، وايزيس، وأوزيريس، ومترا، وباخوس، وأسكولاب… كما انساقوا وراء اليهودية والنصرانية، لينتقلوا فيما بعد إلى تمثل عقيدة الإسلام إلى يومنا هذا.
وقد نشأ في وسط الأمازيغيين مجموعة من علماء اللاهوت الذين تمكنوا من اللغات والثقافات المجاورة، فتسلحوا بعلوم الدين والمنطق والفلسفة والجدل والمناظرة.
ومن بين هؤلاء اللاهوتيين، نستحضر تارتولي أو ترتوليانوس Tertullianus (المتوفى سنة 240م) ، والذي تخلى عن عبادة الوثنية، فاعتنق دين النصرانية. ثم تحمس له حماسا شديدا، ثم دافع عن المسيحية أيما دفاع واستماتة، فوقف في وجه الكنيسة الرومانية الداعية إلى الاستغلال ، وتكريس التفاوت الطبقي ، وذلك في كتابه:” دفاعا عن الدين Apologeticus “، فحرض الأمازيغ على التخلص من الخدمة العسكرية في الجيش الروماني. وقد تناول تارتولي في كتابه مجموعة من القضايا الخلقية في ضوء العقيدة المسيحية الجديدة ، حيث كان يدعو إلى العفة والأخلاق الفاضلة، ويحارب اليهود وأهل البدع الضالة والمنحرفة.[20]
ونذكر إلى جانب تارتولي العالم اللاهوتي أرنوبي الأكبر Arnobius الذي ولد بنوميديا في منتصف القرن الثالث الميلادي. وقد تنصر في شيخوخته، وذلك بعد أن قضى جل حياته في الوثنية. ومن أهم كتبه في هذا المجال:” ضدا على الوثنيين Adversus nationes“، والذي ألفه سنة 300 ميلادية متحاملا فيه على الوثنية وعبادة الأصنام، مع التأكيد في نفس الوقت أن الفوز بالنجاة في الدنيا والآخرة لن يتم ذلك إلا بعبادة الله والإيمان به قولا وفعلا وسلوكا. وقد عد أرنوبي في الثقافة المسيحية المتوسطية أنه من آباء الكنيسة؛ لأنه كرس كل حياته لخدمة النصرانية والتبشير بها، فترك بسبب ذلك عمله ليتفاني في الدفاع عن الدين الجديد وتقويض أركان الوثنية .
ويمكن الحديث عن شخصية دينية أخرى ثائرة ، وهي شخصية دوناتوس المتوفى سنة 335 ميلادية، فقد ألف كتابا عن :” الروح القدس” ، وخاض ثورة دينية بنوميديا ضد الرومان وكنسيتهم الطبقية ، وتسمى هذه الانتفاضة بالثورة الدوناتية.
وهناك عالم لاهوتي آخر يسمى بمينوسيوس فيليكس الذي ألف كتابا بعنوان”OCTAVIUS“، وهو عبارة عن حوارات يدافع فيها الكاتب عن المسيحية ضد الاعتراضات المألوفة الموجهة ضد هذا الدين الجديد في تلك الفترة.
بيد أن أهم عالم لاهوتي أمازيغي هو القديس أوغستان أو أوغوسطينوس Augustinus النوميدي، فقد كانت له مكانة دينية كبرى لدى الأمازيغ والرومان على حد سواء. فقد كان يمثل الدين الرسمي للإمبراطورية الرومانية القيصرية. ثم ، تبحر كثيرا في علم اللاهوت المسيحي. ثم ، ترقى في مناصب كنسية عالية في ظرف تسع سنوات فقط، إلى أن أصبح أسقفا في مدينة عنابة سنة 396م. ومن هنا، فقد كرس أوغيسطينوس حياته لتنظيم الكنيسة الأمازيغية والأفريقية ، وتأليف الكتب الدينية واللاهوتية . ومن أهم كتبه اللاهوتية القيمة، نذكر منها: كتاب ” مدينة الله” الذي دافع فيه عن المسيحية، مع انتقاد الدوناتيين بشدة، وكتاب” اعترافات التوبة” ، وكتاب ” المراسلات“….
4- الثقافة الفلسفية
من المعلوم في كتب تاريخ شمال أفريقيا أن العديد من المفكرين والمثقفين وعلماء اللاهوت الأمازيغ قد انشغلوا بالفلسفة والتصوف متأثرين في ذلك بالمدارس الفلسفية اليونانية، ولاسيما فلسفة المدرسة الرواقية ، وفلسفة المدرسة الإسكندرية بمصر…
ومن بين هؤلاء الفلاسفة المتمذهبين، نستحضر: كرنيتوس الذي تمثل الفلسفة الرواقية، وأسس بروما مدرسة له ليشرح فيها تلك الفلسفة الأخلاقية القائمة على نشدان القيم والفضيلة الكاملة، وأوغسطينوس صاحب الفلسفة اللاهوتية ذات التوجه المسيحي والأخلاقي.
5- الثقافة اللغوية أو الفيلولوجية
يعد يوبا الثاني من أكثر المثقفين الأمازيغ اهتماما باللغات والفيلولوجيا التاريخية والاشتقاقية، فكان يبحث في مصادر اللغة اللاتينية، ويرجع كلماتها إلى أصولها اليونانية اعتمادا على الاشتقاق. وقد تحامل عليه المؤرخ الفرنسي اصطيفان اكصيل كثيرا في كتابه:” تاريخ شمال أفريقيا القديم”، وذلك بقوله:” وله غرام شديد بالدراسات اللغوية ( فقه اللغة/ الفيلولوجيا)، وكان مقتنعا أن اللاتينية كانت من قبل هي الإغريقية، ولكن اعتراها شيئا فشيئا التحريف بسبب اختلاطها باللغة الإيطالية، فكان هو يجتهد في الكشف عن الأصول الإغريقية للعديد من الألفاظ اللاتينية، الأمر الذي دفع به ليقول حماقات ربما كانت أكثر مما قالها غيره ممن يتمسكون بهذا الرأي الواهي. وكان يحب جمع الألفاظ الآتية أو التي قيل إنها أتت من اللغات الأجنبية، مثل لهجات الهند، وبلاد العرب وآسيا الصغرى، وأثيوبيا. ويحتمل أن يكون پلين Pline نقل عنه الألفاظ المستعملة عند سكان شمال أفريقيا.”[21]
ومن أهم كتب يوبا الثاني في مجال اللغويات، نذكر كتاب” التحريف في اللغة”، والذي بحث فيه يوبا الثاني التحريفات اللغوية والدلالية التي تعتري معاني الكلمات. وعلى الرغم من انتقادات اصطيفان اكصيل غير الموضوعية ، فإن يوبا الثاني كان ملكا مثقفا موسوعيا يعنى كثيرا بالبحث العلمي استقراء واستقصاء، ويشتغل في عدة ميادين ومجالات علمية متنوعة ، وذلك بالاعتماد على مكتبته الخاصة الزاخرة بالكتب الثمينة والنادرة، والاتكاء أيضا على البعثات العلمية التي كان يرسلها من فينة إلى أخرى إلى بقاع العالم لتقصي مجموعة من الحقائق العلمية والفكرية والفنية واللغوية؛ مما أهله ذلك لتناول مسائل اللغة والفيلولوجيا بكل يسر وسهولة.
6- الثقافة العلمية
اهتم كثير من المثقفين الأمازيغ بالمعارف العلمية التي تتعلق بالطبيعة والتاريخ والجغرافيا والفلك والرياضيات، ومن بين هؤلاء نستحضر الملك الأمازيغي يوبا الثاني الذي كتب موسوعة علمية في ثلاثة أجزاء تحت عنوان:” ليبيكا Lybica/ الليبيات“، وتتعلق هذه الموسوعة العلمية باستعراض عادات المجتمع الأمازيغي وتقاليده ولغته وثقافته وبيئته. كما خصص كتابا آخر لتاريخ وجغرافية الجزيرة العربية سماه:”آرابيكا/Arabica “.
ويرى المؤرخ الفرنسي اصطيفان أﮔصيل في كتابه” تاريخ شمال أفريقيا القديم” أن كتاب ” الليبيكا” ليوبا الثاني كان يتكون من ” ثلاثة كتب على الأقل، تشمل على ما يحتمل مواد مختلفة جدا، من الجغرافيا، إلى التاريخ، إلى التاريخ الطبيعي، إلى الميثولوجيا وغير ذلك. وكان يوبا في مؤلفه هذا يقتبس من رحلة حانون، فنستنتج نحن أنه قد وصف سواحل القارة، ويمكن أن نفرض من خلال نص پلين إنه وصف جبال الأطلس كذلك. ولاشك أنه في هذا الكتاب قد ذكر نتائج بحثه عن النيل وعن جزائر كناريا ، كما ذكر المصبغات التي أنشئت بأمر منه في الجزائر الفرفورية.”[22]
وكان يوبا الثاني كما قلنا سابقا يرسل مجموعة من البعثات العلمية للبحث في عدة مجالات وميادين، كالبحث عن أصل النيل وعن جزائر كناريا، والبحث في الكتب البونيقية عن المعلومات العلمية المتعلقة بالتاريخ والجغرافيا[23]. وهناك في كتابه “ ليبيكا” إشارات إلى هذه البعثات العلمية واهتمامات كبيرة بدراسة الحيوانات والنباتات والمياه والجبال…
هذا، ولا نعرف من مؤلفات يوبا الثاني ” سوى تسعة عناوين . ولاشك أنه نشر كثيرا غيرها. وكانت كلها باللغة الإغريقية، ولم يصلنا أي واحد منها. ولكن بقيت لنا منها مقتطفات كثيرة بفضل الاستشهادات المروية عنه بنصها إلى حد ما، والمبعثرة في كتب مختلف المؤلفين، مثل: بلين، وبلوتراك، وأثيني وغيرهم. والحق أن جل هذه المقتطفات قصيرة جدا، كما تعسر معرفة الكتاب الذي أخذت الفقرة منه، عندما ينعدم ذكر المرجع…”[24]
ومن أهم هذه الكتب التي ألفها يوبا الثاني، نذكر: ليبيكا، وأرابيكا، وموسوعة الموسيقى الضخمة، وكتاب تاريخ روما أو الأركيولوجيا الرومانية، وكتاب الأشباه(15 جزءا) ، ومختصر الآشوريين ( جزءان)، ورسالة صغيرة عن نبات أوفورب، وكتاب عن فن الرسم أو الرسامين (ثمانية أجزاء)، وتاريخ المسرح…
وعليه، فيوبا الثاني حسب شارل أندري حوليان في كتابه:” تاريخ شمال أفريقيا”:” كان يحسن اليونانية واللاتينية والبونيقية، وكان في تآليفه آخذا من كل شيء بطرف ، فلم يبق علم واحد غريبا عنه، وكان في إمكانه أن يكتب في كل موضوع بفضل مكتبته الثرية ونساخه الذين لا يعرفون التعب .غير أن تآليفه لم تبق بعده ، ولعله من المؤسف أن يكون كتاب ليبيكا قد ضاع، إذ ربما وجدنا في كتاباته عرضا لبعض المعلومات عن التقاليد المحلية.”[25]
ومن أهم العلماء الأمازيغ الآخرين في المجال العلمي نستدعي: أوفوربوس الذي اشتهر في مجال الطب والصيدلة، وكان طبيب يوبا الثاني، وقد اكتشف دواء ضد السموم ، قادرا على تنشيط الفكر وترويح النفس. ” وباسم ذلك الطبيب يسمى ذلك النبات، في اللغات الإفرنجية، إلى اليوم : Euphorbia,Euphorbe…، وهو الفربيون، أحد أنواع اليتوع أو التيوع المعروف ب” تاناغوت ” و”تاناخوت” في الأمازيغية.”[26]
ويشير اصطيفان كصيل إلى هذا الاكتشاف في كتابه:” تاريخ شمال أفريقيا القديم” قائلا:” كان أوفورب طبيب الملك (يوبا الثاني) يتبقل في جبال الأطلس، فعثر على نبات له خواص عجيبة. إذ كان الدماع Suc الذي يشتمل عليه هذا النبات يقوي النظر ويعطل مفعول سم الحيات والسموم الأخرى…الخ. فسر الملك بهذا الاكتشاف، وأطلق على النبات اسم أوفورب، الذي صار يعرف به، ثم كتب عنه رسالة صغيرة…”.[27]
وهكذا، يتبين لنا أن المثقفين الأمازيغ كانت لهم إنجازات وإسهامات علمية زاخرة في كل ميادين المعرفة الإنسانية قديما وحديثا، ومازالت هذه العطاءات تشع في سماء الغرب بصفة خاصة ، وتينع في عنان سماء الثقافة الإنسانية بصفة عامة.
الثقافة الأمازيغية رافد للثقافة العربية الإسلامية
من أهم الثقافات المتوسطية التي اندمجت فيها الثقافة الأمازيغية بكل يسر وسهولة الثقافة العربية الإسلامية، والتي كانت مبنية على عقيدة ربانية شاملة ومتوازنة قائمة على توحيد الله والعدل والمساواة بين الناس. و” لم يندمج قط الأمازيغيون- يقول محمد شفيق- اندماجا كليا في إطار حضارة معينة كما اندمجوا في إطار الحضارة الإسلامية، وذلك لأسباب لا مجال لشرحها في هذه العجالة. ويمكن القول بأن ذلك الاندماج الكلي تم بصفة نهائية في أوائل العهد الموحدي، لما اندثرت البقايا الأخيرة من دولة البرغواطيين، أي بعد عهد الفتوحات الإسلامية الأولى بخمسة قرون على وجه التقريب. وقد كان اندماجهم، في جملته، نتيجة لعملهم الذاتي، بتعاون مع أفراد أو جماعات قليلة من المشارقة الذين قدموا أفريقيا الشمالية مسالمين، خلال القرنين الثاني والثالث الهجريين، فبعدما حملت جنودهم راية الإسلام إلى قلب أوربا الغربية، وبعدما تخلصوا من السيطرة السياسية المشرقية، اتجهت أنظارهم إلى أنفسهم أولا، ثم إلى غربي أفريقية السوداء، ابتداء من عهد المرابطين. فعلى أيديهم أسلمت القبائل الأولى من الزنوج في وادي السينيغال، حيث لا تزال الصلوات الخمس تسمى إلى اليوم بأسمائها ” البربرية””[28]
ومن أهم المثقفين الأمازيغ الذين أغنوا الحضارة العربية الإسلامية، نذكر مجموعة من الأعلام البارزين على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر. فنستدعي ابن خلدون صاحب” المقدمة” في مجال علم العمران والاجتماع ، وطارق بن زياد الذي امتلك ناصية الفصاحة وقوة البلاغة ، واشتهر بخطبته المشهورة في فتح الأندلس سنة 921ه.
ومن أهم العلماء الأمازيغ في مجال التصوف، نستحضر: أبا الحسن الشاذلي الغماري (ت656ه ) صاحب” مجموعة الأحزاب”، وتابعه الصوفي أبا عبد الله الجزولي (ت 870ه) صاحب” دليل الخيرات“، وأبا العباس بن العريف الصنهاجي، وأبا شعيب الدكالي، وأبا يعزى…
ونذكر في مجال الفقه : وجاج، وعبد الله بن ياسين، ومحمد بن تومرت، وابن أبي زيد القيرواني النفزاوي صاحب الرسالة المشهورة، والإمام المكودي، وابن عرفة الورغمي، وابن مرزوق العجيسي، وأبا العباس أحمد البرنوصي المعروف باسم ” زروق”، وأبا العباس أحمد الونشريسي، وأحمد بابا الصنهاجي…
ونستدعي في مجال النحو العربي : عيسى بن عبد العزيز يللبخت الجزولي صاحب” المقدمة الجزولية” و” الأمالي“، وأبا الحسن بن معطي الزواوي صاحب” الدرة الألفية في علم العربية“، وابن معطي، وأبا حيان الغرناطي البربري، وأبا عبد الله بن أجروم الصنهاجي صاحب”الأجرومية“…
ومن أهم علمائهم في التاريخ، نذكر: أبا بكر بن علي الصنهاجي البيذق، وابن عذاري، والجزنائي، وابن غازي الكتامي، والفشتالي، والإفراني، والزياني، وأكنسوس، وغيرهم…
و لا ننسى في مجال الرحلة: ابن بطوطة، وأبا عبد الله العبدري الحيحي، وعبد الله أبا سالم العياشي…
ونستحضر كذلك في مجال الأدب: أبا علي الحسن اليوسي، ومحمد المختار السوسي…[29]
وهكذا، فقد ساهم العلماء والمثقفون والمبدعون الأمازيغ بإنجازات هامة، وأبحاث قيمة ، وأعمال مشرفة في شتى العلوم والفنون والمعارف المتنوعة والمختلفة، وذلك بغية إثراء الثقافة العربية الإسلامية مشرقا ومغربا، وأيضا من أجل رفع راية الإسلام دائما مرفرفة عالية على جنبات حوض البحر الأبيض المتوسط.
خلاصات واستنتاجات
نستنتج ، مما سبق ذكره، بأن الثقافة الأمازيغية بعد أن كانت تعيش فترات الانعزال والانكماش والانطواء كدول ماوراء الصحراء الكبرى، إلا أنها سرعان ما استطاعت عبر جدلية التأثير والتأثر أن تحقق طفرات حضارية كبرى على مستوى حوض البحر الأبيض المتوسط بصفة خاصة وعلى مستوى الثقافة العالمية والإنسانية بصفة عامة. ومن هنا، فقد اتخذت الثقافة الأمازيغية بعدا متوسطيا على سبيل التميز والاختصاص، حيث انفتحت قديما على الثقافة المصرية الفرعونية، والثقافة الفينيقية، والثقافة القرطاجنية البونيقية، والثقافة الإغريقية، والثقافة اللاتينية الرومانية. كما انفتحت في العصور الوسطى على الثقافة العربية الإسلامية، وحديثا استفادت من مكتسبات الحضارة الغربية ومنجزات الحضارة العالمية الإنسانية.
هذا، وقد كانت العلاقات بين الثقافة الأمازيغية والثقافات الأخرى عبر مختلف العصور التاريخية مبنية على الأخذ والعطاء، وقائمة على ثنائية التأثير والتأثر. بيد أن هذه العلاقات الثقافية كانت خاضعة للصراع الجدلي تارة، ومبنية على التعايش السلمي والحضاري والإنساني تارة أخرى.
وعلي أي حال، فالثقافة الأمازيغية عبر تطورها التاريخي كانت في نفس الوقت ثقافة متوسطية وثقافة أفريقية وثقافة عالمية وكونية وإنسانية.
جميل حمداوي – ثامزغا
[1] – محمد شفيق: لمحة عن ثلاثة وثلاثين قرنا من تاريخ الأمازيغيين،دار الكلام للنشر والتوزيع، الرباط، الطبعة الأولى سنة 1989م، ص:78؛
[2] – شارل أندري جوليان: تاريخ أفريقيا الشمالية، ترجمة: محمد مزالي والبشير بن سلامة، الدار التونسية للنشر، الطبعة الأولى سنة 1969م، ص:245؛
[3] – شارل أندري جوليان: تاريخ أفريقيا الشمالية، ص:248؛
[4] – شارل أندري جوليان: تاريخ أفريقيا الشمالية، ص:48؛
[5] – شارل أندري جوليان: تاريخ أفريقيا الشمالية، ص:250؛
[6] – أندري جوليان: تاريخ أفريقيا الشمالية، الجزء الأول،ترجمة: محمد مزالي والبشير بن سلامة، الدار التونسية للنشر بتونس والشركة الوطنية للنشر والتوزيعبالجزائر، طبعة 1978-1983م، ص:252؛
[7] – د. جميل حمداوي: (الحمار الذهبي لأبوليوس أول عمل روائي في الفكر الإنساني والأمازيغي)، جريدة البديل، الناظور، المغرب، العدد74،السنة 2007م ، ص:13؛
[8] – محمد شفيق: لمحة عن ثلاثة وثلاثين قرنا من تاريخ الأمازيغيين، ص:77؛
[9] – شارل أندري جوليان: تاريخ أفريقيا الشمالية، ص:215؛
[10] – شارل أندري جوليان: تاريخ أفريقيا الشمالية، ص:242؛
[11] – شارل أندري جوليان: تاريخ أفريقيا الشمالية، ص:249؛
[12] – اصطيفان اﮔصيل: تاريخ شمال أفريقيا القديم، ترجمة: محمد التازي سعود، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، سلسلة تاريخ المغرب، الجزء الثامن والأخير، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، الطبعة الأولى سنة 2007م، ص:219؛
[13] – بوزياني الدراجي: القبائل الأمازيغية، دار الكتاب العربي، الجزائر، الطبعة الأولى سنة 2003م، ص:55؛
[14] – اصطيفان اﮔصيل: تاريخ شمال أفريقيا القديم، ص:235؛
[15] – اصطيفان اﮔصيل: تاريخ شمال أفريقيا القديم، ص:219؛
[16] – أندري جوليان: تاريخ أفريقيا الشمالية، الجزء الأول، ص:252؛
[17] – د. جميل حمداوي: المسرح الأمازيغي، منشورات الزمن، الرباط، الطبعة الأولى سنة 2008م، ص:22؛
[18] – محمد شفيق: لمحة عن ثلاثة وثلاثين قرنا من تاريخ الأمازيغيين، ص:78؛
[19] – اصطيفان اﮔصيل: تاريخ شمال أفريقيا القديم، ص:112-113؛
[20] – محمد شفيق: لمحة عن ثلاثة وثلاثين قرنا من تاريخ الأمازيغيين،ص:79؛
[21] – اصطيفان اﮔصيل: تاريخ شمال أفريقيا القديم، ص: 220-221؛
[22] – اصطيفان اﮔصيل: تاريخ شمال أفريقيا القديم، ص: 229؛
[23] – اصطيفان اﮔصيل: تاريخ شمال أفريقيا القديم، ص: 222-221؛
[24] – اصطيفان اﮔصيل: تاريخ شمال أفريقيا القديم، ص: 228؛
[25] – شارل اندري جوليان: المرجع السابق، ص:173؛
[26] – محمد شفيق: نفس المرجع السابق، ص:77؛
[27] – اصطيفان اﮔصيل: تاريخ شمال أفريقيا القديم، ص: 234؛
[28] – محمد شفيق: لمحمة عن ثلاثة وثلاثين قرنا من تاريخ الأمازيغيين، ص:81؛
[29] – محمد شفيق: لمحمة عن ثلاثة وثلاثين قرنا من تاريخ الأمازيغيين، ص:84-85؛