على امتداداته الواسعة، احتفظ المجتمع الشّاوي بعادات وتقاليد عشائرية منتشرة نسبيّا، تتميّز في جوهرها بطابع التكافل والمحاباة للـ”مجموعات المرجعية” القديمة المتعاقد عليها اجتماعا بتسمية “لْعرْش” الذي ينتسب إليه أبناؤه إمّا بالعرق أو الولاء أو التحالف. هذه الكيانات التي تشكّل إلى اليوم في غالبية الكيانات الحضرية والريفية الشاوية، في رقعة جغرافية تمثّل أغلبية في مساحة الشّرق الدزيري وتمتدّ وصولا إلى الجنوب الغربي التونسي، عصبا ونمط معيشة ونظام انتماء يتراوح وجوده بين السيطرة في الأوساط الرّيفية والقروية والمدن الصّغيرة، والشّكلية إلى حدّ ما في الأوساط الحضرية. لعقود، عاش “ءيشاويّن” في تناغم “عقَدي” معتنقين إسلاما شعبويا شعائريا تقليديا، تسوسه الزّوايا في مناطق ويحكمه “إيمغارن” و”هاجماعت” في مناطق أخرى، حتّى في الأوساط الحضرية المختَلطة، وبوجود كيانات مستجلبَة في “العهد البومديني”، هناك نظام عرفي لتسيير الشؤون الاجتماعية والخلافات والمنازعات، لا يخرج عن هذا الإطار.
خلال السنوات الخمس الأخيرة، برزت إلى السّطح بشكل علني وواضح : كيانات ذات مرجعيات فكرية-دينية يمكن أن أصفها بالـ”غريبة” عن العرف والواقع الشّاوي منذ عقود، ليست فقط شكلا من أشكال التديّن الفردي، المشروع قانونا وعرفا، بل على هيئة كيانات مهيكلة ذات أفكار، تعمل في ديناميكية ونمطية على التأسيس لكتل ناشطة في شكل مجموعات صغيرة تتبع مجموعات أكبر، متوسّعة، تعمل على الاستقطاب والترويج لأفكارها ومناهجها في الأوساط الشعبية والأكاديمية والنخبوية على حدّ سواء. الأمر لم يقف عند “جماعات أوليّة” تربطها المعرفة الشّخصية كأسر لإخوة المنهج أو العقيدة أو المذهب، بل تعدّاه إلى “جماعات ثانويّة” متصارعة على القوّة والنفوذ في المجتمع الشّاوي، تعقد التحالفات، استراتيجيا، وترصّ الجبهات وتحشد الأفراد وتكوّنهم، وتعمل على اختراق الكيانات المجتمعية الموجودة، أصلا، وتحويل مسارها إلى ما يناسب “أجنداتها”. أقول “أجندات” لأن ما يلاحظ على هذه المجموعات من تراصّ وتهيكل وتراتبية (رتب ومناصب) يؤكّد على أنّ لهذه المجموعات فكرا وخطّطا وأجندات .. لا أظنّنا كـ”مجتمع” ندرك الخطر المتنامي الذي تشكلّه علينا.
وقد تصنّف أكثر المجموعات تأثيرا ونفوذا وحضورا وتجاذبا للمجتمع الشّاوي اليوم إلى الأصناف التالية:
الجماعات السلفية:
خلال العقد الماضي، ومع تصاعد موجة التّحريض على المذهب الشّيعي، برز نشاط ملحوظ لجماعات سلفية في مختلف التجمّعات الحضرية والقروية، مناشير وكتب وحلقات في المساجد وأحاديث في المقاهي، وعلى قارعة الطرقات، تحت أعين أجهزة الأمن (التي لم تحرّك إلى اليوم ساكنا) ومع تصاعد الخطاب التحريضي في وسائل الإعلام المرئية خاصّة: القنوات الفضائية الشّرق أوسطية، وكثير من الجرائد والقنوات الدزيرية، واستمرار نشاط تلك الجماعات السلفية المحلّية، تكوّن لدى الرأي العام الشاوي، بسرعة البرق، موقف معادِ لكلّ ما يمتّ للتشيّع بصلة، وأصبح حديث العامّة والخاصة متمحورا حول “دين الشّيعة” و”عقيدتهم” و”مخططاتهم”.
كانت تلك الفترة “الذهبية” لهذا النشاط السلفي غير المقنن الذي انتشر كالنّار في الهشيم مستهدفا جميع فئات المجتمع، خاصّة البسطاء ومحدودي التّعليم. مما سمح لهم بتكوين قاعدة شعبية حقيقية، تسيرُها عقيدة التّكفير والحقد على كلّ من يخالف قائمة “اللوائح السلفية” التي اقتنع بها البسطاء واعتنقوها بطريقة غير مباشرة دون وعي. وأصبح يشار إلى كلّ من له آراءٌ مخالفة لآراء التيّار “السلفي”، في مختلف فصائله، بأنه “شيعي” حتّى (العلمانيّون) و(الليبراليون) والبربريست…
وينقسم التيّار السلفي المخترق للمجتمع الشاويّ اليوم إلى فصائل عدّة: أهمّها التكفيريون والمرجئة، ويتوافق الفصيلان في التمظهر والتسنن الخليجي، وكره الشّيعة والمتصوّفة والعلمانيين والليبراليين (كلّ من ليس سلفيّا) والتحريض عليهم، والدّعوة إلى مذهبهما مجاهرة، في الأوساط الشعبية. بينما يختلفان في تكفير الحكّام والأجندات: فبينما يوالي المرجئة مجموعة من رجال الدّين الموالين للسلطة في الشرق الأوسط (خاصّة المملكة السعودية) أو المهادنين لها، أو السّاكتين عنها المؤمنين بأنْ: “كما تكونوا يولّى عليكم” واضعين اللوم على المجتمع الذي (تحكّمت فيه البدع والشّركيات فيما آل إليه الوضع من فساد) مؤمنين بأنّ الحاكم ليس إلّا واحدا من الشّعب وأن الشعب أولى بالإصلاح. يرى التّكفيريون أن “من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون” موالين مجموعة من رجال الدّين التكفيريين في الشرق الأوسط وأفغانستان، مؤمنين بالتّغيير بالمواجهة المسلّحة مع “الطواغيت”، من أجل إقامة “دولة الخلافة”.
هذا التيّار الذي تمكّن من الوصول إلى عقول وقلوب البسطاء بتسهيلات فوقية (عدى بعض المضايقات التي يتعرض لها أفراد من التّكفيريين) تثير الحيرة والتساؤل بل والشك، ودعم إيديولوجي من وسائل الإعلام الثقيلة، ودعم لوجيستيكي من جهات في الشّرق الأوسط، كوّن بالفعل الرأي العام الشّاوي، واستطاع توجيهه لدرجة أنّ غالبية ساحقة من الأفراد المتعلّمين ومحدودي التّعليم على حدّ سواء، أصبحوا بين ليلة وضحاها تحت تأثير الخطاب العاطفي الشعبوي للجماعات السلفية، وأصبح المحيط الشّاوي النّاطق بالشّاوية والنّاطق بالدّارجة على حدّ سواء مخترقا من قبل الخطاب الإسلاموي لهذا التيّار.
الجماعات الشّيعية:
قبل خمس سنوات من اليوم، كان وجود أفراد متشيّعين في المجتمع الشّاوي أسطورة يردّدها البعض، وينفيها الكثيرون غير مصدّقين، معتنقين للخطاب السلفي المنتشر آنذاك بأنّ “الشّاوية أكثر أهل السنة غيرة على دينهم” ووو… اليوم، أثبت الواقع تلك الأسطورة بكلّ وضوح وأصبح للشيعة بين أظهر الشّاوية كيانات مخترقة تعمل في تكتّم نسبي، لكنّها لا تخجل أو تخفي أو تنفي وجودها كما اعتادت، وانتقلت من الحلقات والندوات المغلقة السريّة في بيوت ومحالّ مجهولة إلى حوارات وجلسات في المقاهي والأماكن العمومية. ويستهدف الشّيعة في بلاد إيشاوين، بعملية الاستقطاب أفرادا أكثر “ثقافة” من المستوى العاديّ الذي يستهدفه السلفية، تتراوح مستوياتهم بين دكاترة في الجامعات ومسؤولين متوسّطي وعالي الرّتب وطلبة، وأساتذة ورجال أعمال. كما يعملون في منهجية على اختراق مختلف الكيانات السلطوية العرفية (كـ: ثاجماعت والزوايا الشاوية) متقرّبين إليها من باب أنّ موالي تلك الزوايا من أهل البيت (كما هو شائع) مغذّين تلك الأسطورة مستميلين أربابها خدمة لأجندتهم. ليس هذا فقط بل إنّ أغلبية أفراد الجماعات الشيعية في آوراس، يتابعون دورات تكوينية ودراسات عليا ويعملون باستمرار على تحسين مستوياتهم الأكاديمية والعلمية والوظيفية، وإيصال أفراد جماعاتهم الأقلّ سلطة إلى مناصب عمل، وفتح جميع الأبواب لهم عبر علاقات شخصية ومهنية وعقدية في بعض الأحيان، ناهيك عن الدّعم اللوجيستيكي الذي يتلقاه أفراد من هذا التيّار من الشّرق الأوسط، والدّعم الإيديولوجي الذي توفّره قنوات فضائية شيعية. ويقتصر الخطاب الشّيعي على مهاجمة التيّار السلفي، ووصمه بالرّجعية والبداوة، في مهادنة لكلّ التيّارات الأخرى، وليست تلك المهادنة إلّا خطوة إستراتيجية محسوبة، تنبني على أساسها محاولات نمطية لاستقطاب الناشطين في مختلف التيّارات، وعقد تحالفات إستراتيجية تنبني أساسا على عداوة التيّار السلفي. وهو ما جعل كثيرا من الأفراد المعتنقين لتوجّهات (حداثية) و(تحرّرية) ينساقون وراء الخطاب الشّيعي في بلاد إيشاويّن. حتّى “الآمازيغيون” – لضعف تكوين البعض في حالات، ولعاطفية البعض في حالات أخرى – وقعوا في شباك المتشيّعة وخططهم، وانظمّ بعضهم في حلف، غير معلن، جنبا إلى جنب في مواجهة من يعتبرونهم رجعيين.
يتمكن السلفية قاعدة شعبية واسعة، اليوم، بينما يمتلك الشيعة شبكات علاقات على مستويات مختلفة توحي باختلاف منهجي واضح بين التيّارين، في ساحة فكرية وأدبية وثقافية وشعبية ومدنية خالية تماما إلّا منهما.
مَانِي نڨُّور (إلى أين) ؟!…
اختراقات كسّرت كلّ ما كان يمكن أن يتحكّم في صيرورة المجتمع الشّاوي، ويقنّن سيره نحو الأمام، أو يكبح على الأقلّ رجوعه إلى الخلف .. حتّى “ثاعروشيث” (القبلية) التي لم تستطع لا السلطة ولا النخب ولا الاستعمار تفكيكها، أصبحت لا شيء اليوم أمام هذه الانتماءات العقدية المستوردة التي استطاعت فعل ما عجز الجميع عن فعله: أن تحلّ محلّ الانتماء القبليّ وتفرّق بين أبناء “لعرش” الواحد، بل والبيت الواحد حتّى!
بين السلفيين الذين يستقطبون قاعدة شعبية واسعة، مغذّين دعايتهم وخطابهم الدّوغمائي بشتّى أنواع الحقد والكراهية على من ليس سلفيّا تحضيرا للتكتّل والحشد ثم المواجهة بكلّ تأكيد، والشيعة الذين يستقطبون مثقّفين وطاقات شبابية وإطارات تواصل عمليّات تكوينية نشاطية وأكاديمية ومهنية، في عملية اختراق واضحة للـ(نخبة) والمنظومة السلطوية في أشكالها ومستوياتها العديدة. وفي ظلّ الغياب التامّ لأي شكل من أشكال الممانعة، أو الأصولية (الحقيقية) من شتّى التيارات – الغائبة تماما إلّا اسما – الّتي تدّعيها، يقع المجتمع الشّاوي الغائب عن الوعي بفعل عقود من التجهيل والتهميش والتفقير وقرون من التدمير، الذي تحوّل إلى عملية تدمير ذاتي، بين فكّي جماعتين دينيتين متناحرتين، ذات مرجعيّات خارجية، وأجندات “غريبة” عن الشمال الإفريقي ودزاير وبلاد إيشاويّن ستجعل بكلّ تأكيد منها ساحة حرب لأجنحة متصارعة، ليست منّا ولا نحن منها في شيء.
جناحان سيقودان المجتمع الشاوي عاجلا أم آجلا، عبر عمليّة تفكّك جارية في غفلة منه، إلى وضعية كارثية، خدمةً لأجندات خارجية تغذّيها أحقاد تاريخية بين كيانين متصارعين على “المصالح”، خارج إطارنا الجغرافي والسياسي والحيوي، سيدفع ثمنها الشّاوي الذي لا ناقة له ولا جمل فيها، بكلّ تأكيد دما.
مخترقون من أسفل، يجيّشون علانية مشاعر الشباب المنجرف، ويحرّضونهم، ويعدّونهم للعنف، لا لشيء آخر! ومخترقون من أعلى يسعون إلى التغلغل في المنظومة السلطوية الثقافية والمجتمعية وحتّى السياسية. في ساحة فارغة تماما من بقية التيّارات التي استهلِكَ نشطاؤها “المزعومون” في انتماءات حزبية تابعة لمناطق وأفكار وإيديولوجيات أخرى داخل أو خارج دزاير، لا تخدم أيّ منها بلاد إيشاويّن، كجهة، ولا دزاير كدولة، ولا شمال إفريقيا كإقليم.
وسط كلّ هذا، وفي ظلّ غياب تامّ لأي شكل من أشكال المشاريع الثقافية أو المجتمعية، وفي ظلّ انعدام الوعي وتغييبهم وانتشار الظلامية والاستلاب عبر وسائل الإعلام الوطنية العامة والخاصة، وعن طريق مؤسسات الدولة بأموال الشّعب، تقع المسؤولية الأخلاقية والتّاريخية على عاتق منتسبي الحراك الآمازيغي المسيَّس الغائب تماما عن الواقع الشاوي خاصة والدزيري عامّة، منغمسا في ركود من جهة، وشعبوية فوضوية قاتلة من جهة أخرى، ووصولية منفعية من جهة ثالثة، تاركا بوابات آوراس آمقران مفتوحة على مصراعيها لشتّى أنواع التلاعبات من السلطة، والاختراقات الفكرية والسياسية والدينية من جماعات شاذّة ذات أجندات مستترة ومرجعيات خارجية، ستسوقنا إلى دمار محتوم إلّا أن نستفيق
كما تقع بنفس القدر المسؤولية على جميع النّخب الثقافية “الحداثية” (والمتنوّرة) – التي تدّعي الانتماء إلى الشّمال الإفريقي كإقليم ودزاير كدولة وبلاد إيشاويّن كجهة – المنغمسة إمّا في التزلّف من أجل الخبز أو الهدم من أجل الهدم، أو الصّمت المطبق القاتل الذي ينتهجه البعض لأسباب كثيرة .. جميع النخب السلطوية والإطارات المنتمية إلى هذا الإطار الجغرافي المجتمعي المسمّى “ثامورث نيشاويّن” المنغمسين هم الآخرون في المصلحية والتحصيل دون أدنى عائد على المجتمعات التي لها عليهم كلّ الحقوق لا يفونها أيّا منها .. وجميع النّخب المجتمعيّة من “أعيان” و”إيمغارن” وأرباب المال والزوايا والسلطات العرفية أيّا كانت صفاتها، المشتغلين بأنفسهم الغائبين تماما عن واقعنا.
ليس أنْ لا مسؤولية تقع على عاتق السّلطة، بل هي أوّل وآخر المسؤولين، لكنَّ تساهلها وصمتها عن ما يحدث لا يدعوني إلى تحميلها المسؤولية فقط، بل إلى اتهامها بتسهيل اختراق هذه الكيانات الإرهابية لمجتمعنا، لأغراض، قد نتناولها في مقام آخر.