ولدتُ و نشأت في مدينة باتنة “عاصمة الأوراس” كما يحلو للإعلام الرسمي أن يسمّيها . والداي ينحدران من احدى القرى الأوراسية التي كنت أمضي بها معظم عطلي المدرسية . يتكلّم والداي الشاوية بالمنزل , فكانت هي لغتي الأم التي نطقت بها أول كلماتي .
و لأنني كنت منتوجا خالصا للمدرسة الجزائرية فقد نشأت بوعيي هوياتي مشوّه . وعي ينظر بعين الريبة للبُعد الأمازيغي من الثقافة الجزائرية , كرّسه النظام منذ الاستقلال عن طريق منظومته التربوية و وسائله الإعلامية.
كنت مع أصدقائي نعتّد بقشور التمدّن و التحضّر و نسخر من المواطنين القادمين إلى باتنة من المدن و القرى المجاورة و نصفهم ب”الجبايلية” و “ليزاريفيست” و كنّا نتندّر بلكنتهم و بعدم إتقانهم العربية الدارجة .
كان أصدقائي يبالغون في سخريتهم من الوافدين إلى باتنة وكانوا يربطون بين ما كانوا يدّعون أنه غلظة و جلفة في أخلاقهم و بين تكلمهم بالشاوية و كنت أوقن زيف هذه الاتهامات لأنني كنت أعلمَ الناس بكرم أهل القرى و طيبة سرائرهم و لكنني كنت أسكت مداهنة و مصانعة لأصدقائي .
فكنت أرى أن الشاوية مجرد لهجة قديمة غير نافعة لن تلبث أن تندثر و أنني كمسلم مُلزم بالدفاع و الذود على العربية لأنها “لغة القرآن” . و قد اغتررت ببروباغاندا الصحف الصفراء فكنت أنظر إلى المدافعين على الهوية الأمازيغية على أنهم خونة ينفِّذون أجندة أجنبية و يحاربون الإسلام و يهدمون صرحه .
لم أكن ملتزما بالواجبات الدينية ذلك الوقت و ربما كنتُ أدخّن سيجارة حشيش من وقت لآخر كأغلب أقراني لكنني كنت أتدثّرُ بعباءة الدين كلما ذُكرت أمامي “الأمازيغية” فأكفّر المدافعين عنها و أُخوّنهم .
كنت أرى أن الوطنية ليست في التجذر المحلي و التناغم معه و إنما في التنكر له و الذوبان في إنتماءات تتعدّاه و التماهي فيها . فرغم أن الأوراس له خصوصيته الثقافية و اللغوية فلا يستقيم في نظري أن تكون شاويّا و فخورا بذلك و إنما عليك أن تنتمي أولّا إلى الدولة الجزائرية و الأمة العربية ثم الإسلامية .
ولا يجب أن تهتم بشؤون حيّك و قريتك و مدينتك و إنما بشؤون الأمة العربية من “المحيط إلى الخليجِ” و الأمة الإسلامية من “طنجة إلى جاكرتا” و “قضاياها المصيرية” . فهكذا قد كنتُ اُلحق دائما اداة الاستدراك ” لكن” بكلمة “شاوي” عندما اتكلّم عن إنتمائي . فأنا: شاوي ولكن عرّبني الإسلام , شاوي ولكنّني جزائري , شاوي ولكنني وطني …إلى غير ذلك.
و رغم أنني كنت أرتاب من أصحاب النزعة الأمازيغية إلا أنني كنت أتابع نشاطاتهم و منشوراتهم على المواقع و شبكات التواصل الإجتماعي . و كنت أجادلهم و أُشنِّع عليهم في أي أمر أتوه أو تركوه و أدعو عليهم بالويل والثبور وعظائم الأمور.
فما زلت أجادلهم و أشاكسهم و أقرأ مقالاتهم و منشوراتهم حتى بدأ يدبّ الوعي في ذهني دبيب الآجال في الأعمار, فانكشفت عن بصري غمامة العروبة و قذى التدّين الفاسدِ اللذين كانا يعميان بصيرتي فعدتُ إلى رشدي و عمدت إلى الكتب أطالع التاريخ الصحيح بعيدا عن النظرات الإيدولوجية الضيقة .
فاكتشفت مثلا أن العرب في العالم لا يتجاوز عددهم 20 بالمئة من المسلمين و أن الإسلام لم يُعرب الأندونيسيين و لا الفرس ولا الترك و لا النيجيريين . و أن اللغة العربية ليس لها قُدسية خاصة دون باقي الألسن و أن حديث “العربية لغة أهل الجنة” حديثٌ لا اساس له من الصحة حكم عليه كافة علماء الحديث بالوضع . و أن الربط بين الدين و العرق ما هي إلا حيلة سخيفة يستعملها دعاة التعريب لكي يستغفلوا الأمازيغ السُذّج و يشوشوا على عقولهم .
و اكتشفت أن أعظم الملوك الأمازيغ الذين صنعوا تاريخ شمال إفريقيا كانوا ينتمون إلى أرض الأوراس . و أن هذا التاريخ العريق أكبر من أن يُختزل في فلكلور تافه. و أن الهوية الشاوية هي موروث ثقافي و لغوي و عمراني غني وليس ما يُروج له النظام من صور نمطية اختزلت منطقة كاملة في : ” قصبة و بندير” و “رفيس” و شعارات وطنية جوفاء عشية كل أول نوفمبر .
لقد اصبحت شاويا “فقط ” , فخورٌ بلغتي و هويتي و منطقتي و لفضت جميع الانتماءات الوهمية و تخليت عن حرف الإستدراك “لكن” .
إمضاء “شاوي و لكن ” تائب