يحاول هذا المقال المتواضع أن يسلّط الضوء على مختلف التيّارات الإيدولوجية المؤثرة في المجتمع الشاوي سواء كان في المناطق الريفية و المدن الصغيرة أو في الحواضر الكبيرة . بمعنى آخر , ما هو الثقل الحقيقي للحركة الأمازيغية في الأوراس و ما مدى قدرتها على التعبئة الجماهيرية و تمرير خطابها الثقافي التقدّمي ؟ .
يقول المفكّر الإيطالي أنطونيو غرامشي : “العالم القديم يحتضر والجديد لا يستطيع أن يولد بعد ، في هذا الفاصل تظهر أعراض مرضية كثيرة وعظيمة في تنوعها” . إذا سحبنا هذه المقولة على الواقع الشاوي , يمكننا أن نقول أن العالم القديم يتمثّل في “جيل الثورة” و الذي يحتضر اليوم بعد أن إستنفذت المشروعية التاريخية و الثورة المسلحة معناها التبريري عند تحولها إلى شعبوية و توتاليتارية و إحتكاراً للسلطة. العالم الجديد في نظرنا هو نخب جديدة ذات نزعة تقدّمية أمازيغية متصالحة مع ذاتها يمكنها أن تؤثر في الجماهير الشعبية أمام الخطاب الشعبوي الثوري ل”جيل نوفمبر” و الخطاب الديني للأصولية الإسلاموية .
الحركة الأمازيغية الشاوية و مجتمعها
النزعة الأمازيغية في بلاد إيشاوين لم تظهر كحركة ثقافية حقيقية إلا بعد الإنفتاح الديموقراطي الذي عقب أحداث 5 أكتوبر 1988 . قبل ذلك كانت عبارة عن مجموعة من الأشخاص خلال السبعينات ثم الثمانينات كانوا ينشطون بشكل فردي في المجال الفني بالخصوص . في بدايتها تبنت مطالب ثقافية و على رأسها الإعتراف بالبُعد الأمازيغي في الهوية الجزائرية ثم ظهرفي خطابها بعد ذلك بعض المطالب الاجتماعية كالمطالبة بالتنمية و احترام الحريات وغيرها لكنها لم تصل بعد إلى إنتاج مشروع مجتمع ناضج عكس نظيرتها في منطقة القبائل .
لقد تبنت الدولة الجزائرية الفتية مشروع تحديثي يستمد مشروعيته من “الكفاح الثوري” و لتسوية الاختلافات الثقافية و اللغوية إعتمدت على قرارات فوقية و”بقرطة” الحياة المدنية وتهميش كل ما يعبر عن التنوعات و الإختلافات الإجتماعية و إبراز كل ما هو جماعي ووطني و موحِّد و إجماعي . وكما ذكرنا في مقالاتنا السابقة[1] كان الأوراس من أكبر المناطق التي سيطرت فيها “العائلة الثورية” على كامل مجالات الحياة السياسية و نجحت فيها سياسة تماهي المجتمع مع الحزب الواحد و دولنة الحياة السياسية . فالنزعة الامازيغية ظهرت كأنها ضد “الإجماع الوطني” و وسيلة “للإمبريالية” لزعزعة “إستقرار الوطن ” .
فليس من المفاجئ إذن أن نجد “العائلة الثورية” التي أصبحت تشكّل برجوازية محلية, تقف أمام إنعقاد عدة ملتقيات حول الأمازيغية في باتنة بداية التسعينات و تطالب بالتضييق على مناضلي الحركة الأمازيغية .
بالإضافة إلى ذلك فقد كانت ولايات بلاد إيشاوين أكثر المناطق عرضة لسياسة التعريب غداة الإستقلال . وهو الأمر الذي انتج جيلا من الشباب المعرّب و المهمّش يرى في الدين أمله الوحيد بعد أن أُغلقت في وجهه جميع الأبواب.
ضرورة بلورة مشروع مجتمع
لقد كانت النواة الأولى التي شكلت الحركة الأمازيغية في الأوراس من الناطقين بالشاوية و الذين ينحدر أغلبهم من المدن الصغيرة و القرى . لهذا السبب كان من الصعب على هذه الحركة أن تجد لها موضع قدم في المدن الكبيرة في بلاد إيشاوين مثل : تبسة , باتنة , عين البيضاء , خنشلة , أم لبواقي و هي مدن كانت فيها سياسة التعريب قد قطعت أشواطا كبيرة في تشويه الهوية الشاوية و تهميشها .
هذا الأمر حجّم من قدرة الحركة الأمازيغية في الأوراس على الإستقطاب و التعبئة في الحواضر الكبرى و جعلها في وضعية ضعف أمام الحركات الإسلامية خاصة التي تقترح خطابا شعبويا موجهاً نحو الشباب وبروليتاريا المدن الكبرى .
إن السبب الأهم الذي أدّى إلى فشل الإيديولوجيا الأمازيغية في الأوراس في الهيمنة على الجماهير الشعبية لحد الآن هي إفتقارها لمشروع مجتمع حقيقي بأفكار مبلورة في جميع الميادين و ليس في الجانب الثقافي فقط . بالإضافة إلى ذلك فإن خطاب الحركة الثقافية الأوراسية لم يضع أبدا ضمن اهدافه دخول معترك الصراع الإجتماعي فهو خطاب راضٍ بنخبويته مكتفٍ بها .
إنه من الواجب إذن على مثقفي و مناضلي الحركة الأمازيغية في الأوراس أن يؤسسوا لنظام معرفي جديد و أن يغيروا خرائط الذهن في مجتمعهم عن طريق نقد و تقويض السائد . فالمثقف في المنظور الغرامشوي منخرط ومتماهِ في هموم مجتمعه، لأنه المسؤول عن اعادة هندسة وعیه، وتصوراته، وتخلیص هذا الوعي من كل ما ترسب في قاعه المظلم من ترسبات الماضي الوهمیة، والخیالیة، والمیثولوجیة.
بمعنى آخر ,لكي تُنتج مجتمعا مدنيا جديدا , يجب على الحركة الأمازيغية الشاوية أن تنتج أولا “إيديولوجيا” و ثقافة تؤسس “لعالم جديد” يولد على أنقاض “العالم القديم” وفق مقولة أنطونيو غرامشي .
يوغرطا حنّاشي
[1] “مرافعة من أجل أن يستفيق الشاوي من البنج النوفمبري” . إينوميدن