أكثر الأناشيد التي رددناها ونحن صغار في سنوات الثورة وبعد الإستقلال (شعب الجزائر مسلم*** وإلى العروبة ينتسب) ، هذا النشيد الذي أجج نفوس الجزائريين ودفعهم دفعا إلى الفعل التحرري وإعادة الإنية الوطنية لهذا الشعب الذي رضخ ردحا من الزمن لقوى الشر الإستعماري.
إن كان مطلع القصيدة رنانا فيه نفحة إيمانية إسلامية غير أن عجز البيت الأول فيه نفحة قومية ما كان لها أن تكون في تقديري( وإلى العروبة ينتسب ) ، لأن علماء الإسلام استنكروا التوجه العرقي القومي وبينوا عيوبه في كثير من المواقف ، خاصة إذا علمنا أن الشعب الجزائري في غالبيته أمازيغي الهوى والهوية ، وعروبته ليست سوى لونا لسانيا أكتسب من خلال التعامل مع قرآن الإسلام ، الذي نزل بلسان عربي مبين ، والدارس لفترة الهوس العروبي بدأ من التناطح بين تياري العروبة والتتريك ، وبروز حركة إصلاحية مستنيرة قادها جمال الدين الأفغاني ، ومحمد عبده ، والكواكبي، وثلة من أمثالهم ، والذين اتخذوا مواقف متباينة تجاه ( العروبة ) خاصة بعد فشل مسعى الجامعة الإسلامية.
ولا غَرْوَ أن مُصلحنا الفذ عبد الحميد بن باديس تأثر بهذه الحركة الإصلاحية المشرقية ، وكثيرا ما قيل بأنه عندما : ” يعطس المشرق ، يُصاب مغربنا بالزكام “، ومن بين التراكمات الثقافية والفكرية الزاحفة علينا أن إسلامنا وإيماننا يعد منقوصا إذا لم يسكتمل بالعروبة ، والإسلام والعروبة شيئان متلازمان لا يجوز التفريق بينهما ، وهو اعتقاد ترسخ في وجدان المؤمنين (الموالي) دون روية وفحص ، فلعبت تأويلات وتفسيرات قبيلة حدثتنا دور الأساس في ثمين الترابط بين العنصرين ، دون النظر إلى ما سيأتي به المستقبل الفكري والعلمي في إطار تطور علم الإجتماع والفلسفة وعلم اللسانيات والأنتربولوجيا .
العروبة عروبيتان ، عروبية مسيحية علمانية ، وعروبية إسلامية دينية ، فالأولى محرضة فاعلة تحت تأثير فكر غربي قومي وليد عصر التنوير الأوروبي ، والثاني منفعل مساير لطروحات هوية اللغة المنبعثة من إرهاصات الثورة الفرنسية اليعقوبية ، ومدرسة(إرنست رينان )، ومن تعابير مولى القوم منهم.
العروبة مفهوم زئبقي، السلالة كنهه
العروبة مصطلح مركب ، زئبقي ، يوظف تبعا لخلفية الأشخاص والجماعات ، فهي عرقية سلالية من أبناء قحطان وعدنان ، وأخرى دينية على منوال فهوم الإخوان وجماعات الإصلاح ، وهي قومية لغوية حضارية تاريخية بفهوم الأفغاني وعبد الحميد بن باديس ، وتعدد فهمها هو الخطر من الإنقلاب في تحويلها حسب الأهواء ، فالقوم يظهرون وجهها اللساني عند الحاجة ، لكنهم سرعان ما يوظفونها باسم الإثنية العرقية بأفصح صورها ، وهذا ما يجعلني أنظر إليها نظرة شك وريب ، فهي في تقديري تسمية ماكرة متقلبة الهوى والأهواء ، استعمالُها ينطوي على التغليب والمغالبة ، وطمس هوية الأقوام الإسلامية غير العربية ، ونجحت حيث السذاجة والخواء القومي مثل ما هو الحال في شمال إفريقيا ، وأصيبت بالخذلان والخسران حيث النباهة الفكرية وقوة الإنتماء كما هو الشأن عند المسلمين الفرس والترك ، اللذان أخذا الإسلام وطبعوه بطابع خاص بهم ، وهو ما لم يرضي العرب الذين يرون بأن إسلام هؤلاء ناقص بدونهم ، باعتبار العروبة رباطها عضوي بالإسلام، وهو ما أجج التراشق الشعوبي الذي ظاهره دين وخفيه هويات قاتلة ، أثمرت بتقويض دعائم الخلافة الإسلامية بتخطيط غربي وفعل عربي ، قاده لورانس العرب والمخبرين الأنجليز تحت يافطة كبيرة إ سمها ( القومية العربية ) .
العروبة سلالة قبل أن تكون لسان وحضارة
لا يختلف إثنان على أن النسب يعني النسل والسلالة ، والنسب العربي هو غير النسب الفارسي، ولا الأمازيغي ، ولا الكردي، ولا التركي ، والإسلام لم يلغ النسب بقدر ما نهى عن التباهي به للرفعة ، وهو القائل ( يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى ، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، إن الله عليم خبير ) الحجرات13.
فلو كان الإنتساب إلى الأصول الفعلية مرفوضا ومحرما ، لما حافظ بلال على حبشيته ، وسلمان على فارسيته ، وصهيب على روميته في عهد خاتم النبيين والمرسلين ، ولما نزلت آية ( أدعوهم لأبائهم هو أقسط عند الله… ) ففي الصحيحين ـ البخاري ومسلم ـ عن عبدالله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن زيد بن حارثة, مولي رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ ما كنا نناديه وندعوه إلا زيد بن محمد, حتي نزل القرآن:[ ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله].. أي: انسبوا هؤلاء الأدعياء الذين انتسبوا إليكم بالتبني, انسبوهم إلي آبائهم الحقيقيين, فإن نسبتهم إلي آبائهم الحقيقيين هو الأعدل والأحق والأشرف للآباء والأبناء، وإذا كان تبني فرد واحد حرام ، فما القول في تبني أمة بكاملها بجعلها عربية وهي في الأصل أمازيغية ؟
فلا تفاضل بين الأقوام إلا بالإيمان والتقوى والعمل الصالح ( أكرمكم اتقاكم ) وليس ( أكرمكم أعربكم ) ، والإسلام عالمي لم يخص العرب وحدهم دون غيرهم ، ساهم ذوو العجمة في نشره مع العرب ، وبخروج الإسلام ، واللسان العربي من شبه جزيرة العرب ، أصبحا ملكية مشاعة بين جميع المسلمين ، لا يحق للعرب التذرع بحق الملكية التاريخية ، والأسبقية لهما وفيهما، في إخضاع الآخرين ، ويبدوا أن مقولة ابن خلدون في أن لا يقوم للعرب ملك إلا بصبغة دينية ، قد فقهوها وفهموها ، لكنهم رغبوا في قلبها رأسا على عقب وجعلوها ( لا يقوم للإسلام ملكٌ إلا بصبغة عربية ) ، وهو ما حرصُوا على تحقيقه في شمال إفريقيا متعاونين مع مواليهم ، وتبعهم ، والذين تماهوا معهم ، وانحشروا في وعائهم طلبا للجاه والتمكين ، وتمكنوا من تحويله إلى مغرب عربي ؟ في وقت لم يقدروا منافسة الفرس على تسمية الخليج بالعربي ، وبقي فارسيا كما كان، ولا غرو بأن التلاحم بين العروبة والإسلام أفسد مبتغاها ومقصدها عربُ الصلبان ، الذين يشكلون ثلثي العرب الذين لا يؤمنون لا بالإسلام ولا بنبوة خاتم الأنبياء ، وذاك معناه أن العربي المسلم ، ينسجم مع أخيه العربي المسيحي، أكثر من انسجام المسلم العربي ، مع المسلم غير العربي ( العجمي) بالمفهوم التراثي.
العروبة اللغوية في أوطاننا بهتان
النغمة التي استساغها العربان تقية في التمكين لقوميتهم ، هي عروبة اللّسان ، كل من يستعمل اللغة العربية فهو عربي، أي بمعنى عندما فشلت الرابطة الإسلامية في الإخضاع والخضوع ، وتملص منها الترك والفرس والبنغال والهنود ، أُنُزلت وتيرة الإنتساب دون العقيدة فأصبحت (لسانية لغوية) ، فغدت تخوم شبه الجزيرة العربية ومناطق شمال افريقيا تشملها العروبة ، وهو ما جعل ابن باديس يقول ( وإلى العروبة ننتسب ) ، ويقول بعدها توضيحا أن الإنتساب للعروبة ليس بالدماء ، وإنما باللغة والثقافة والحضارة والتاريخ ، والآلام والآمال ،[1]، وأفهم ُ من قوله أن رجالات الإصلاح كانوا يرون ببعد شمولي وبدون خلفية ذاتية ، وهم معذورون في ذلك لأن بلاد المغرب الإسلامي كان يعيش مرحلة القهر والطمس لكل المقومات الإسلامية والأمازيغية والعربية على يد المدارس الفرنكوفونية الإستدمارية ، ونشدان العروبة مهما كان لونها، سبيل للتخلص من الطغيان الفرنسي الجاثم على هوية البلاد ، وأجد نفسي حائرا من تقلب شيخنا الإمام بن باديس بين مؤيد لإصلاحات محمد بن عبد الوهاب النجدي السلفي ، وناقم منها فيما بعد ، وبين ( الفاجعة الكبرى أو جنايات الكماليين على الإسلام والمسلمين ومروقهم من الدين) [2] وبين مقاله الهُمام حول عظمة كمال أتاتورك [3] الذي وضح فيه حق الأتراك في العناية بلغتهم قائلا :(فقد ترجم القرآن( يعني كمال أتاتورك) لأمتّه التّركية بلغتها لتأخذ الإسلام من معدنه، وتستقيه من نبعه، ومكّنها من إقامة شعائره ، فكانت مظاهر الإسلام في مساجده ومَوَاسِمه تتزايد في الظّهور عاما بعد عام ، حتّى كان المظهر الإسلامي العظيم يوم دفنه والصّلاة عليه تغمّده اللّه برحمته)أو ليس ذلك منطبقا على قومه ( الأمازيغ ) وبلغتهم الأصلية الأمازيغية ، فلماذا لا نأخذ كذلك نحن معشر الأمازيغ الإسلام من معدنه ونبعه ؟
ولا أدري ما موقف الإمام عبد الحميد بن باديس الصنهاجي ، عندما يصدح شاعر العروبة فخري البارودي قائلا :
بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان **** ومن نجد إلى يمن إلى مصر فتطوان.
بلا حد يباعدنا ولا دين يفرقنا **** لسان الضاد يجمعنا بغسان وعدنان.
وهل رضي إمامنا بما يقولونه العرب بشأن غيرهم من الأقوام :
إذا بلغ الفطام لنا رضيع **** تخر له الجبابرة ساجدينا .
وانا أناس لا توسط بيننا **** لنا الصدر دون العالمين أو القبر ؟
وهل يقبل بالتبعية والإمعية والسير خلفهم لا أمامهم في قولهم على لسان شاعرهم :
ترى الناس إن سرنا يسيرون خلفنا **** وإن نحن أومأنا إليهم توقفوا.
ونحن وهبنا الناس كل مزية **** وبنيناهمو كل الحضارات والربا.
فهل فيما قيل إنتماء أم انتساب للعرب، أو السير خلفهم وإن أشاروا توقفنا وانبطحنا، لا أعتقد بأن العلامة عبد الحميد بن باديس رحمه الله سيرضى بهذا النوع من الإنتساب ، وهو ينتمي إلى صنهاجة ، والمعز بن باديس الصنهاجي والذي يغنيه عن كل انتساب .
كل مافي الأمر أن ماكان صالحا في الماضي قد لا يصلح الآن ، لأن إنسان ذلك الزمان يختلف عن الإنسان اليوم ، فالقيم متبدلة متغيرة ، فلو أخذنا بمنطق هوية اللغة ، لما كانت التشيلي والأكوادور والأرجنتين ، والمكسيك ، أمما لذاتها رغم أن لغتها الرسمية أسبانية ، ولا كانت نيجيريا أنجلو ساكسونية باعتبار أن لغتها الرسمية هي الأنجليزية ، ولكانت السينيغال فرنسية باعتبار ها مترأسة للفركفونية ، لقد تبين في زمننا بأن: (الوطن) و (السلالة) و(العقيدةالدينية ) (واللغة) بمنتوجها الحضاري والثقافي والتراثي ، هي عناصر لبناء هوية ، واللغة فيها عنصر وجزء قوي فيها، لكنه ليس بالضرورة كقوة (الوطن ) و(الإنسان) و(العقيدة الدينية) . خاصة ونحن نعيش تجذر العولمة ، وقومية الأوطان ، التي أثبتت بأن لغة العربان غير قادرة حتى على التواصل عند التسوق في سوق الخردة ( QUINCAILLERIE) بتعدد أدواتها ومستلزمات العمران لها ، وهو ما رسخ قناعة أن التواصل بلغة واحدة وحيدة يُعد قرفا وقحطا ثقافيا ، وشبيه من إطلالة من نافذة وحيدة مع غلق الأبواب ، وهو ما أورث فكرا نكوصيا ينظر للعربية بمنظار قدسي لا عقلي ، وذاك ما رسخ لديًّ قناعة بأن الفكر العروبي لا يختلف في استراتيجيته وأساليبه ومراميه عن الفكر الصهيوني ، والفرنكفوني ، والكومنولثي ، فكلها إديولوجيات تبحث لنفسها عن المجال الحيوي للإستقواء ، على حساب اللغات المحلية بثقافتها المتآكلة بتأثير الغزو الفكري المؤدلج الذي لا يبقي ولا يذر.
الخلاصة
بالرغم ما قيل عن العروبة سواء أكانت عرقية سلالية ، أو ديانة ، أو ثقافة وحضارة، أو لسان مبين ، فأنا مقتنع بأنني أمازيغي مسلم ، وحاجتي إلى اللسان العربي مرده رغبة في فهم الدين والتواصل بيسر مع أهل الملة بما فيهم العرب ، غير أن هذا اللسان غير قادر على تلوين دمائي بجعلها عربية مثيلة لدماء أبي لهب ، فيكفيني نسبي الأمازيغي الإسلامي هوية كما أراد الله أن أكون، واللغة العربية مهابة الجانب بيننا، لأنها لسان من ألسنتنا وباختيارنا ، وهي التي يجب أن تحترمَ اللغةَ الأم الأمازيغية بأن لا تنظر إليها كضرة لأنها الأصل في أوطاننا ، وإن زغت بها الأيام وانذلت ، إلا أن الزمن سيثبت جدارتها وقدرتها على أن تكون الوعاء الحامل لحضارتنا وثقافتنا الأمازيغية في ربوع المغرب الكبير ،وبها يختفي التماهي اللاّواعي مع الشرق حينا ومع الغرب أخرى .
الطيب آيت حمّودة
هوامش :
[1] رأي ابن باديس في الانتساب للعروبة : لقد تعربت الأمّة الجزائريّة تعرباً طبيعيّاً، اختياريّاً، صادقاً،فهي في تعربها نظيرة إسماعيل جد العرب الحجازيين ، فقد كان من العرب لما شب في مهدهم ونطق بلسانهم ، وتزوج منهم، وليس تكوّن الأمة بمتوقف على اتحاد دمها،ولكنه متوقف على اتحاد قلوبها، وأرواحها وعقولها، اتحاداً يظهر في وحدة اللسان وآدابه، واشتراك الآلام والآمال.
[2]أنظرجريدة النجاح عدد 152 بتاريخ 28مارس 1924م ، (الفاجعة الكبرى أو جنايات الكماليين على الإسلام والمسلمين ومروقهم من الدين) ، وهذا حكم منه بردة مصطفى كمال وأتباعه عن الإسلام.
[3] مقال للشيخ عبد الحميد بن باديس، حول كمال أتاتورك بمناسبة وفاته ، بتاريخ غرة رمضان 1357 الموافق لشهر نوفمبر 1938 ، ابن باديس حياته وآثاره ج4 ص213/217 .