آوراسيّات (2) : هل الأمازيغية شأن جهوي؟

رهاب الآمازيغية l’Amazighophobie الذي تفشّى في المجتمع، بفعل النظام التعليمي المؤدلَج وجرعات غسيل الدماغ عالية التركيز التي جعلت تبثّ صبح مساء على القنوات الإذاعية والتلفزيونية والجرائد الحكومية والخاصة وتكرّرت حتّى تقرّرت في كلّ محفل أفلاني الظاهر أو الباطن، يعدّ واحدا من أكثر الظواهر النفسية الاجتماعية شيوعا في المجتمع الشّاوي، والدزيري والشمال إفريقي .. “آوراسيّات” هي محاولة لتفتيت هذه الصّخرة وتبسيط تفكيك المفاهيم المحيطة بها وهدم أساطيرها من أجل علاج فعّال ونهائي من هذا الدّاء.

لأكثر من خمس سنوات خضت على مواقع الإنترنت والمنتديات والمدوّنات ووسائل التواصل الاجتماعي … نقاشات ماراطونيّة مع مختلف فئات وطبقات المجتمع من شتّى أنحاء “دزاير” والشمال الإفريقي، حول موضوع التاريخ واللغة والثقافة والهوية الآمازيغية، التي –لأسباب لا أحيط بها علما بعد– أصبحت أشبه بكلمة السرّ التي توقظ في كثيرين جدّا من مواطنينا موجة غضب عارم وتسلط في أذهانهم الضوء على بقعة مظلمة غامضة تحوي كمية عظيمة من الكره والحقد والخوف والتخوين وعدم الثقة.

الغريب في الأمر أنّ الظاهرة ليست محصورة في فئة معينة، فكثيرون جدا من الفلاحين والعمال والمثقفين والمتنطعين وتجار الدين وحتى بائعي المخدرات، يردّ بعبارات نمطية وعواطف مستثَارة معادية ورافضة لكل ما يمت للأمازيغية بصلة مستعملا نطاقا معجميا un champ lexicale لا يخرج عن: “لا للفتنة”، “نحن آمازيغ عربنا الإسلام”، “كلنا جزائريون”، “كلنا مسلمون”، “كلنا من آدم” …إلخ

ولو أنّ المجال لا يسع تفصيل كل الحجج والردّ عليها واحدة تلو الأخرى هنا، ولكنّ ضرورة ملحة تفرض علينا وضع هذه المسألة تحت المجهر إن اقتضى الأمر، فإن كانت الأمازيغية حقّا مؤامرة ودعوة للفتنة ومحاولة لتفتيت “وحدة البلاد” كانت تلك، عند ثبوتها، حجّة ودعوة إلى التعقّل ومراجعة الحسابات، لأن القائلين بها مخطؤون، وإن كانت هويّة وثقافة وتاريخ بلادنا، كانت تلك أيضا عند ثبوتها، حجة ودعوة إلى اعتناقها ودفاعنا، جميعا، عنها من أجل النهوض بوطننا.

هنا تفرض فكرة جدّ رائجة نفسها على النقاش، وتأخذه منحى لا أظن أن فيه خيرا أكان مثيره مؤيدا أو معارضا للأمازيغية، وهي فكرة: “الجهوية“.

كثيرون جدا من غير الناطقين بالآمازيغية وحتى من الناطقين بها، يرون بأن المسألة الأمازيغية، شأن جهوي لا يجب أن يضخّم حتى يؤدي إلى انقسام داخلي في لبنة المجتمع الدزيري، وأن النقاش لا يجب أن يبدأ أصلا لأننا “جزائريون” جميعا وعليه فلا حاجة لنا بالآمازيغية، وأن فرض اللغة الأمازيغية على غير الناطقين بها أمر غير مقبول ووو… إلخ

جوهر الفكرة أن معتقد كثير من مواطنيَّ الدزيريين يقتضي بأن الآمازيغية مسألة “جهوية” وإن كان الفصل في المسألة أكبر مني ومن خربشاتي هذه إلّا أن ذلك لا ينفي عني صفة المواطنة، التي تسمح لي بالمشاركة في النقاش الدائر منذ عقود، والإدلاء برأيي أنا الآخر؛

مما لا شكّ فيه أن “المطالبة” بالأمازيغية كلغة وطنية ورسمية والتأكيد على تعليمها وتعميمها والكتابة والتأليف فيها والمواظبة على العودة إلى جذورها والبحث فيها هو النمط السائد في الأوساط الرافعة لشعار الأمازيغية والمطالبة بها، وسبب ذلك واضح، أظنّ، وهو تركّز موجات المطالبة بها وحراكات الدفاع عنها، مدنيا وسياسيا، في مناطق ناطقة بالآمازيغية بمختلف متغيّراتها، وعلى رأسها: منطقة القبائل، وبلاد إيشاويّن، كردّ فعل طبيعي على “رفض” الدولة الدزيرية لهذه اللغة بل ومنعها لها في حقب ماضيّة، ولكونها، أي اللغة، واحدة من العلامات الفارقة لخصوصية الناطقين بها، يناضلون للحفاظ عليها وهذا حقّهم المشروع.

وقد أثرّ فعلا تركّز هذه المطلبية في المناطق الناطقة بالأمازيغية على الصورة النمطية التي اكتست المسألة الآمازيغية، بفعل شعارات المنادين بها، والرّافضين لها على حدّ سواء، والّتي لا تخرج في أحيان كثيرة عن تيّاري: “الآمازيغية لغة رسمية” أو “الآمازيغية لهجة وفتنة”.

بعيدا عن الشوفينية أو التحيّز الذي قد يصيبني لكوني أحد ساكنة منطقة ناطقة بالآمازيغية هي: بلاد إيشاوين، فالأمر تحوّل إلى كرة يتجاذبها تيّاران، أفشلُ من بعضهما بصراحة، فبين الآمازيغيستيين الرافضين للعربية والمؤيّدين لكلّ ما عداها، والعروبيين الّذين لم يبق لهم إلّا التصريح بأنّ الله عربيّ وعليه فالكون عربي، يقع المتتبع “البريء” في حيرة من أمره، ويُجبر على اتخاذ مواقف، تنعكس في ردود الأفعال الّتي سردتُ في المقدمة، دون أن يعلم حتّى، ولو أنّ نقاشًا حقيقيّا نابعا من إرادة سياسية حقيقية أطلقَ في المساحات الإعلامية والأكاديمية، التي تستعمل في كلّ مرة من قبل هؤلاء أو هؤلاء، لتوضيح المسألة لما كان علينا اليوم، سنة 2016 أن نتجاذب هويّتنا بين مفرنِس ومعربز.

إنّ ربط الآمازيغية باللغة، هو أحد أكبر الأخطاء المفاهيمية التي تسبب فيها التياران، المناصر والمعادي، معا.

فالمناصرون يحاولون وضع عقد احتكار للأمازيغية لكونهم ناطقين باللغة الأمازيغية أو منادين بها، ومنه فهو فقط له الحق فيها، وعلى “المسيلي” (الماسيلي) العودة إلى اليمن أو نجد أو الحجاز .. نعم، هناك من يقول بهذا.

وعلى نفس النسق يرفض المسيليّ، مثلا، هو الآخر هذه الآمازيغية، ويفتخر بأصل هلاليّ خرافي أو إدريسي خيالي، ويفضّل أن ينتسب إلى اليمن على أن ينتسب إلى دزاير، لدرجة وصل معها بعض العروبيين إلى القول: نعم لقد أتينا واحتليّنا بلدكم فما أنتم فاعلون؟

شخصيّا؛ أعتقد أن المسألة لا تحتاج إلا إلى تبسيط في المفاهيم، وهذا رأيي في المسألة:

إنّ اللغة التي جعل منها هؤلاء محورا وعمودا فقريا للمسألة الآمازيغية ليست في الحقيقة إلّا مظهرا من مظاهر الهويّة الآمازيغية، تحوّل عند التركيز عليه، من قبل المناصرين والمعادين، إلى الشجرة التي غطّت الغابة. والواقع أنّ اللغة هي جزء من كلّ في الأمر، يشمل:

التاريخ الآمازيغي: الّذي تعزف المقررات الدراسيّة عن التطرق إليه لسبب أو لآخر، وهو سبب رئيس في ما عمّ من الجهل بكيانات سياسيّة أو امتدادات تاريخية لوجود الدولة والشعب الدزيري، في نطاقه الإقليمي الشّمال إفريقي، وبالتّالي كوّن رفضا لدى العامة من الشعب، لكلّ ما يحاول “المنادون بالآمازيغية” الترويج له من هذا التاريخ، بقطع النظر، طبعا، عن الشوفينية واللا-موضوعية التي تشوب طروحات بعضهم.

ببحث صغير في التّاريخ “الآمازيغي” سنجدُ أنّ كلّ بقاع الشّمال الإفريقيّ معنيّة به، بنسب متفاوتة طبيعة، تبعا للموقع والظروف والسياق التاريخي، ولكنّ امتدادات الأحداث وتأثيراتها شملت كامل التراب الشمال إفريقي عامة، والدزيري خاصّة.

وعليه فالكلّ معنيّ بهذا التّاريخ أيّا كانت “لغته” أو “موقعه”.

التراث الآمازيغي: وهو ما يمثّل في شقّيه المادي واللامادي أكثر من 90 بالمئة من ميراث الشّعب الدزيري خاصّة في المأكل والمشرب ونمط المعيشة واللباس والعقليّة والمحيط والبيئة، ولكنَّ الجهل بمرجعيته “الآمازيغية” (والمصطلح هنا قد يحتاج ضبطا) يجعل العامة من الدزيريين ترفض عمليّة “الأمزغة” أو “الاسترجاع” التي يقوم بها حتّى غير “الآمازيغيستيين” لسبب واحد وحيد، هو “أن الأمازيغية فتنة”.

رغم أنّ الشعب الدزيري من أوّله إلى آخره “يمارس” هذا التراث بشكل يومي، في مختلف أشكاله، حتّى سكّان “مسيلا” و”الجلفة” ووو… الّذين يخيّل إلى الكثيرين بأنّهم “عرب هلاليون”.

إذن فالكلّ معنيّ، حتّى وإن رفض الاعتراف، بهذا التراث.

وبالنّظر إلى أنّ هذا التّاريخ، وهذا التراث، وهذه اللغة ارتبطت منذ فجر التّاريخ، ولا تزال مرتبطة بثابت هو “الأرض” الّتي لم تتغيّر، ولا أظنّها تتغيّر، فبالضّرورة؛ كلّ الساكنين بهذه الأرض “دزاير” و”الشمال الإفريقي” معنيّون. وها نحن نسكنها، اليوم، أيّا كنّا، إذن: نحن معنيّون بها، شئنا أم أبينا.

إذا سلّمنا بهته المعطيات، واعتبرناها ملكيّة جماعية قاعدية للشعب الدزيري، وقبلنا، بموضوعية، كلّ المكتسبات التي تراكمت من ثقافات عربية وتركية وفرنسية باعتبارها “مغانم” ساهمت في تشكيل “الثقافة الدزيرية الحالية”، وتخلّصنا من تركّز القضيّة في اللغة، واعتبرناها شأنا جزئيّا في المسألة، لا أظنّ أننا سنختلف أبدًا حول الآمازيغية، وسنخلص معا إلى صورة واضحة:

أنّ الأمازيغية l’Amazighité هي كما قرّر الدستور الدزيري: “مكوّن هويّاتي”.

لنا أن نناقش بعد ذلك الأحقيّة والكمّ والكيف في تركيبية الهوية. وإنْ كان لدينا الكثير من العمل لنحيّد، أوّلا، ما تم زرعه من قبل الأنظمة المتعاقبة على حكم دزاير في أذهاننا من عداء وتنكّر لها وتطيّر منها.

أعلم أنّه من الصعب تفكيك هذه المفاهيم وفك اشتباكها مع كلّ ما تمّ “تكريسه” – من قبل وسائل الإعلام ووسائل تشكيل الرّأي الحكومية من مدارس وجامعات وفضاءات عموميّة– من معادات ونبذ للناطقين بالأمازيغية (هوّاري بومدين وصف في خطاب مصوّر له سكّان منطقة القبائل بالانفصاليين والعنصريين) واحتقار لهم (عبد المالك سلّال وصف في بث مصوّر مباشر سكان بلاد إيشاويّن بـ “حاشا رزق ربّي)… إلخ.

وفي ظلّ ما رُوّج له من قبل نفس الأجهزة التي كانت تعتنق إيديولوجية القومية العربية قلبا وقالبا من عروبة هذا الشعب وهذه الأرض، عروبةً تقتضي بالضرورة محو كلّ ما له من خصوصيات وذوبانه وتبعيته للمشرق، وما تزال تروّج له أبواق ذات مصالح أو انتماءات “خارجية” “استلابيّة”، ضدّا لكلّ ما يقرّه الدستور والنّهج الهويّاتي الذي تحاول الدولة الدزيرية السير فيه، ببطء ملحوظ، إضافة إلى ما تكوّن لدى عامة الشعب، تبعا لنشاط تلك الأجهزة والأبواق، من تصوّرات “معادية” للناطقين بالآمازيغية وللآمازيغية، وما نتج عن كلّ ذلك من ردود أفعال عكسية راديكاليّة من قبل المنادين بالآمازيغية، وصلت حدّ الدعوة إلى الفرنسة والتخلي عن “دزيرية” (جزائرية) الدولة والانفصال والقطيعة ووو…

بتسليط الضوء على المسألة “كفكرة” من هذه الزاوية، بعقلانية وواقعية وموضوعية من قبل الطرفين، أظنّ أن النتيجة المنطقية ستكون بأنّ الأمازيغية l’Amazighité ليست حكرا على الناطقين بها، وليست أبدا شأنا جهويّا، بل هي – وهذا ما يجب أن يكرّس حقّا – ملك وحقّ وواجب كلّ الشعب الدزيري معنيّ بها، وعليه فإنّ “اللغة الأمازيغية” أيضا ملك للجميع وحقّ وواجب يعنى به جميع الدزيريين.

ختاما، أظنّ أوفى ما كتبَ في الموضوع، كانت مقالة البروفيسور رابح لونيسي، التي أسهب فيها الشرح، داعيا “عثمان سعدي” إلى حوار هادئ حول المسألة الآمازيغية، أنصح، بشدّة، بقراءتها (إضغط هنا لقراءة مقال البروفيسور رابح لونيسي)

 ڨاسمي فؤاد