آوراسيّات (1) : هل شعر ابن باديس أقوى حجّة من القرآن؟
إحدى أهمّ أعراض رهاب الآمازيغية، تكرار البيت الشّعري الشّهير لعبد الحميد ابن باديس رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين كأنه تعويذة أو تميمة تقال في وجه المخالفين : “شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب”. لنتأمّل معا هذا البيت، ومعناه الواضح الذي لا غبار عليه أن ابن باديس يقول أن الجزائريين “مسلمون” ينتسبون إلى “العروبة”، واستعماله هنا مصطلح الانتساب يعني أنّه يقرّ ضمنيا بأنّهم ليسو عربا ولكنّهم ينتسبون إلى العروبة. إلى هنا الأمر مقبول، ولا أظنّ الغوص في إيديولوجيّة الرّجل وتفكيكها ووضع هذا الشطر الشعري في سياقها مطلوبا عند هذا المقام، بل ما يهمّنا، أظنّ، هو الشطر بذاته.
وإذا كان الإسلام دين أغلبية الساكنة الشّاوية والدزيرية والشّمال إفريقية، وهو كدين، خيّار شخصيّ لأيّ كان الحقّ في اعتناقه، والمزايدة على هذا الحقّ غباء، فإنّ العروبة كما هو واضح في البيت الشّعري لا تعدو “خيارا سياسيّا”. “لجأ إليه عبد الحميد ومن سار على دربه كبديل، وضدّ نوعي، للفرنسية والفرنسة” كما يحبّ البعض أن يتأوّل للرّجل، لنكتفي جدلا بهذا الوصف، وإن كان لي تحفّظات أؤجّل تسجيلها إلى حين.
أي أنّ “العروبة” كانت خيارا مرحليّا مؤقّتا، اعتقد البعض أنّها المفرّ من فرنسا، ولذا فقط اعتنقوها حينها.
أمّا اليوم، وعلى إدراج الآمازيغية في مكوّنات الهوية الوطنية بمقتضى الدّستور الجزائري، إلّا أنّ البعض لا يزال يحارب بكلّ قوّته الآمازيغية كلغة وكثقافة وكتاريخ، ويسعى كلّ جهده للقضاء عليها متمترسا وراء خطاب شعبوي ساد اللاوعي الجمعي، وأصبح من المسلّمات، يواجه به هؤلاء ومن اقتنع بهم، كلّ محاولة للنّظر أو إعادة النّظر في الانتماء الحضاري والثّقافي للشّعب الدزيري للعروبة، وتقديم بديل أصيل (الآمازيغية)، وإحدى أهم عناصر هذا الخطاب عبارة “شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب” الشهيرة.
لقد أصبحت هذه العبارة ملازمة لخطاب جميع المصابين برهاب الآمازيغية، في جميع مراحله، فالعبارة التي تحيل على قيمتين ترسّختا في اللّاوعي الشّاوي (والدزيري والشمال إفريقي) لظروف تاريخية وسياسية معينة، لسنا بصددها، تشكلّ لدى هؤلاء (أقد المصابين برهاب الآمازيغية) مسلّمة أو بديهية من بديهيات “الوطنية” يلفُظُ الوطن بالضّرورة كلّ من يتجرأ على رفض إحداهما : الإسلام أو العروبة. ولأنّ ابن باديس تعمّد تقديم “الإسلام” على “العروبة” في شعره، وأظنّه قصد أن يجعل من الدّين سندا لهذا “الانتساب” ودليلا عليه وحجّة، فإن الأسلم أن نبحث في الدّين عينه، عن أدلّة عروبته.
إنّ أيّ قارئ للقرآن يعرف عن ظهر قلب الآية : “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” [الحجرات:13] أي أنّ القرآن يقرّ، بصريح النصّ، باختلاف الشّعوب واستقلالها عن بعض، ولا ينكرها ولا ينسبها إلى بعضها فقد ذكرها بصيغة الجمع لا المفرد، وينصّ على انعدام المفاضلة بينها عند الله إلّا بالتقوى “إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ”.
وبين البيت الشّعري الذي ينصّ على إسلام “شعب الجزائر” وينسبه إلى “العروبة” والآية القرآنية التي تقول باختلاف الشّعوب، يقع القائل بشعر ابن باديس كحجّة مضادة لآمازيغية دزاير، في مأزق “شرعي” فالدين الذي اتّخذ منه البيت الشّعري “الحجّة” مرجعا لعروبة دزاير، هو نفسه الدين الذي يساوي “نصّه المقدّس” بين الشّعوب ويرفض المفاضلة بينها.
والقرآن نفسه يثبتُ حقّ اختلاف الألسن والألوان، ولا يقرّ للعرب فضلا على غيرهم من الشعوب، ولا يحصر الدّين فيهم حتى ينتسب المسلمون إلى العرب ضرورة. فالمسلمون الفرس فرس والأتراك أتراك والأندونيسيون أندونيسيون… إلّا المسلمين الآمازيغ الذين فُرِضَ عليهم الانتساب للعرب بنصّ الشطر الشعري الباديسي.
ألم يحن الوقت أخيرا، لإعادة النّظر حقّا في خيار ابن باديس للعروبة الذي عمّم على الشّعب الدزيري دون خيار منه أو إرادة؟
وإذا كانت حجّة هذا الخيار الدّين، فما محلّ القرآن من الإعراب في دينكم إذن؟
وأيّ الحجّتين أقوى يا حافظي الشعر؟ القرآن أم شعر ابن باديس؟